*[ ومضات ومعالِمْ، في رحابِ شيخِنا المُلْفِيِّ العَالِمْ]
بقلم / أحمد بن محمد بن إسماعيل المصباحي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه ومضات ومعالم في رحاب شيخنا المُلْفِيِّ العالِمْ
فضيلة الشيخ الجليل المحدث
الأستاذ الدكتور /
ملفي بن حسن الوليدى الشهري
- أستاذ الحديث وعلومه في جامعة الملك خالد بأبها،
ووكيل كلية الشريعة وأصول الدين بجامعة نجران - سابقا-.
قالوا :توفي الشيخ ملفي!
كفى بالموت واعظا!!
*سبحان الذي اختص نفسه المقدسة بالبقاء، وكتب على عباده الفناء، فقال تعالى :
(كل من عليها فان *ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ).
*لقد اتصل بي زميل عزيز عليَّ وشيخ فاضل بعد منتصف الليل معزيا، وقائلا:
أعزيك في صاحبك! ، فقلت:
ومن صاحبي؟
قال :عظم الله أجرك في الشيخ ملفي!
نزل عليَّ الخبر كالصاعقة! لم يغمض لي فيها جفنٌ، ولم تكتحل عيني بنوم إلى الظهر!
فهذه الليلة أشبه بالزلزلة لنفسي ولأهلي ولأولادي!!
هكذا جاء الخبر، وبدون مقدمات، ظناً منه أن قد بلغني، ولعلي آخر من علم بالنبأ الجلل والخبر المدوي ، فأعزي نفسي وأعزي أهله وأعزي أبناءه وبناته، وإخوته وأخواته، وذريته وبني عمومته وأسرته، وقبيلة "بني شِهْر" التي إليها ينتمي، وهو من أعيانهم ووجهائهم وعلمائهم، وأعزي فيه آل الوليدي - خاصة-، والعلمَ والعلماءَ، والبحث والباحثين، وأهل الحديث - خاصة ذوي الدراية والرواية-، فإنه منهم
وبهم وأُسٌّ فيهم ، بل شامةٌ
في طلعتهم ، وغُرَّةٌ في جبينهم .
وكما قال الأول:
ويعجبني أهل الحديث لصدقهم***
فلستُ إلى قوم سواهم بمنتمي
فأنتمي إليهم، وإلى الفقهاء،
وأهل القرآن، وكل الصالحين وأحب الجميع.
*مازلت مذهولا في هول الصدمة الأولى، ولا أدري!
أمِن حسن حظي أم من سُوئه أني تركت قراءة رسائل الواتس من صباح يوم الجمعة إلى نصف الليل، حتى جاء خبره المفجع!
اللهم ارحم عبدك "ملفياً" المنتقل إلى رحمتك أكرم نزله و أحسن وفادته، فإني أشهد أنه كان حريصا على الصلوات، والجُمَع والجماعات، ومن أهل العبادة، والقرآن، حريصا على الفرائض والسنن وعلى المتابعة بين الحج والعمرة، اللهم رحمتَك وعفوَك ومغفرتك ورضوانك وفردوس جنانك....آمين آمين آمين يارب العالمين.
بداياتي مع الفقيد:
* بيني وبين شيخي الجليل المحدث الأستاذ الدكتور /
ملفي بن حسن الوليدي الشهري حبٌ وإلفٌ ومودةٌ وصداقةٌ وانتماء، مع أنه كان أقرب إلى العزلة منه إلى الخلطة.
*عرفته في رحاب كلية الشريعة وأصول الدين في جامعة نجران وكيلا للكلية، وهو عالم صادقٌ وصريحٌ بما في نفسه، وعن أفكاره، لا يعرف المجاملة
ولا المحاباة ولا المداهنة ولا المداراة ، انشغل بالبحث العلمي، فأسهر ليله وشغل نهاره، فأينع وأثمر، وطُبعت كثيرٌ من مؤلفاته ما بين العشرين والثلاثين بل تزيد، ولعل الثلث لم يطبع بعد!
* لقد وقف الشيخ المحدث الأستاذ الدكتور/ ملفي حياته ناصرا للسنة النبوية المطهرة، محباً معظما لها، ومعتزا بها،
و مدافعا عنها، مستمسكاً بها، معلِّما وباحثا فيها، وموضحا معانيها، وكاشفا للشبهات حولها، وهذه الرسالة العظيمة تذكرني
بما جاء عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ" قال الترمذي:
حسن صحيح٠
ويستفاد منه أنَّ لنقلة السنة وهم - أهل الحديث - نضارة في الوجوه؛ ببركة دعاء النَّبيِّ
- صلى الله عليه وسلم- لهم.
قال سُفيان بن عُيينة
- رحمه الله-:
"ما مِنْ أحدٍ يطلب الحديث إلا وفي وجهه نضرة؛ لهذا الحديث".
مؤلفاته :
* باب التأليف سهلٌ عنده وميسور، "وإنه ليسير على من يسره الله عليه" كما جاء في الحديث الشريف، وبما يشاكله مما في معناه ، وقد ألان الله له الكتابة والتأليف ، وتسطير الكراريس وملء الطروس ، مع أنه لا يكاد يستخدم الكمبيوتر
في تآليفه ، ولو في جمع المادة العلمية - مع خبرته به - ، وإنما على طريقة الأقدمين، يكتب بخط يده في كراسته ودفتره، ثم يرسلها إلى الطَّباع، وهذه عادته في مؤلفاته كلها، وله مكتبة (فيها كتب قيمة) ، في "السُّودة" برأس جبلٍ في أبها"، عاش فيها هنالك في خلوة تامة مع جيل الصحابة والتابعين، والأئمة المهديين من الفقهاء والمحدثين وأصحاب الأمهات والسِّير، ورواة الحديث ورجال الأسانيد والمتون، تعديلا أو تجريحا.
* لقد عاش بالعلم وللعلم، وانشغل بهذه المكتبة عن العالم، وآثر العزلة في ذلك الجبل الأشم، ونعمتِ العزلةُ في زمن الفتن والإحن والمحن.
*أنعم بشيخنا الملفي، وأكرم به وبيراعه ومداده على طريقة المحدثين وبنَفَسهم وأحكامهم وعنايتهم بالتخريج والحكم على الأحاديث ، فمؤلفاته نافعة مفيدة، متنوعةٌ فنونها، حسنةٌ الترتيب والتبويب والتوثيق، قليلة الهوامش، فيها الجودة، والأصالة والمعاصرة، والتحرير والتنوير، للأفكار والمعارف، والتصحيح للمفاهيم والمصطلحات بتوسط واعتدال، في الرواية والدراية، وبتوسع وتبحر وانفتاح على المدارس الحديثية والفقهية والحضارية والسياسية ينهل
منها جميعا بلا تعصب أو إقصاء.
بعض ذكرياتي مع الفقيد:
*الشيخ المرحوم "ملفي" جمع العلم والإدارة، وقليلٌ الجمع بينهما بملكة وحِنكة واقتدار،
فقد كان وكيلا لكلية الشريعة وأصول الدين بجامعة نجران ومن قبلها رئيسا لقسم السنة وعلومها بجامعة الملك خالد بأبها ، وفي آخر أيامه انتقل من نجران وعاد إلى أبها ثم إلى بيشة، وفيها ألقى عصا الترحال والتسيار، ليختم حياته هنالك، - ختم الله لنا وله ولكم بالحسنى وزيادة - ، وهناك تقاعد وتفرَّغ تفرغا تاما للتأليف والتصنيف، فلا يكاد يمر شهر أو شهران أو ثلاثة إلا ويفاجئني بعنوانٍ أو عنوانين من إنتاجه العلمي والفكري ، وآخرُ كتاب أرسله إلي في 250 صفحة سماه:" القول السبت في يوم السبت - دراسة حديثية فقهية -" تألق فيه وأجاد و أفاد، جمعا ونقدا، وتصحيحا وتحسينا وتضعيفا، وتحقيقا وتمحيصا، جمع فأوعى ببصيرة وعلم ووعي ونقد وتحقيق وتحرير- فلله دره-، ذلك فضل الله عليه، وفي الزوايا خبايا، و هو من تلك الخبايا.
مشايخه:
دَرَس شيخنا الفقيد على شيوخ كثر في بلاد الحرمين الشريفين في نجد والحجاز خاصة، وممن وفد إليها من الشام والعراق ومصر والهند والمغرب وموريتانيا وغيرها من البلدان، "وعلى قدر كثرة الشيوخ تكون المَلَكات" كما قرر ذلك الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى- وغيره ، فقد تعدد شيوخه، وتنوعوا، فاكتسب منهم مهارات فائقة، ودقة نظر، وسعة أفق وفكر وعلم، فتعددت مواهبه، وتنوعت معارفه، رحمه الله رحمة واسعة.
بعض اهتمامات الفقيد:
*لشيخنا الملفي - رحمة الله تغشاه- عناية بالطب، فقد بدأ مشواره العلمي طالبا في كلية الطب فحِسُّه حِسٌ علمي، ثم ترك الطب وآثر الشريعة ودراستها، وسَلْ مؤلفاته فيه : "الحجامة علم وشفاء " و "الختان بين الشريعة والممارسات الخاطئة والأفكار المسمومة" رجح فيه أهمية خفاض الإناث وأكده شرعا وطبا ، ورد على الشبهات في ذلك ، و "التلبينة دواء وغذاء" وغيرها من أبحاث الإعجاز العلمي، تنبئك عن مهارته العلمية والطبية والشرعية، وحسن تصرفه في المراجع والمصادر العلمية الطبية منها أو الشرعية، وكذلك عقليته المتَّقدة وجمعه بين هذه العلوم والمعارف والبحوث، وما يشبهها، كموضوع "الاستمطار : حقيقته و ضوابطه الشرعية " وهي من النوازل الفقهية المعاصرة المتعلقة بالسُّحب ، وله بحث رفيع عن "التربية الجنسية بين الزوجين" من منظور الشريعة الإسلامية، حيث أفردها بالتصنيف - رواية ودراية -، سداً لثغرة نفذ منها العدو، ورداً على شبهات وتمييعات لقضايا متعلقة بها، مما يصلح أن يكون منهجا للدراسة للمدارس والمعاهد والجامعات في زمن الإنفلات و التحلل و الشهوات عبر الإيمو والدُّو والفيبر والزُّوم والواتس والفيس وتويتر وغيرها، إضافة إلى مجاميعه الحديثية في عدد من القضايا المعاصرة أو الأصيلة والمعاصرة "كلحن الرواة وأثره في علم الحديث" "وفن الختم في الحديث النبوي" و"القول الحثيث في غريب الحديث"، ورسالة في أحكام "الدَّيْن"
-رواية ودراية- وغيرها من العناوين الرائعة و المؤلفات الماتعة، ولست أروم الاستقصاء.
*أقول لكم : الرصانه والعمق وجودة الرأي وحسن التحليل وروعة الانتقاء والنقل مما يميز مؤلفاته، وليس أسير البيئة التي نشأ فيها بل هو باحث عن الحقيقة يحشد لها الأقوال والأدلة ولا يبالي وافق فلانا أو خالف غيره، متفننٌ يقطف من كل بستان زهرة، ويستعطر من كل كاذي.
* تلكم نماذج من كتبه، ولولا أن أبناءه الكرام فهموا منه عدم نشر صوره في حياته؛ لأتحفتكم بها وبمحياه وهيبته ، لأن امتثال الأمر ، ولو بالإشارة والتلويح ، خير من سلوك الأدب، والحرص على التعريف به ونشر محاسنه وإظهار طلعته.
*وللشيخ - رحمه الله تعالى- عناية بأخبار المسلمين الأليمة ومتابعتها، وله خبرة تامة ودراية بواقع الأمم والدول والقبائل والجماعات والأحزاب والأفراد والفِرق والطوائف مع معرفة بالسياسة الشرعية في التعامل مع الجميع، ومما يدل على ذلك كتابه:"الشورى و دلالاتها الحضارية، و قواعدها الفكرية" ٠
*وللشيخ - غفر الله لنا وله - عناية "بالتاريخ وأهميته في رواية الحديث ومعرفة الرواة" وله بحث ترقية في أكثر من ٣٠٠ صفحة بهذا العنوان.
*و لما حصلت الضجة لدى بعض الدارسين في الحديث حول الموازنة بين أحكام المتقدمين والمتأخرين من المحدِّثين انبرى لهذا الموضوع الدقيق بمهارة واقتدار، وأفرده لطلابه في الكلية في الدراسات العليا بالتأليف محاولاً فض الاشتباك، وإيضاح المعالم بين الفريقين والمنهجين، كما أن له كتاب
" عناية الأسياد بعلو الإسناد" .
ولما كثر اللغط في استخدام مصطلح "دار الإسلام ودار الكفر" كشف معالم هذا الموضوع بكتاب مفرد موسوم ب:
" حقيقة الدارين: دار الإسلام،
و دار الكفر " .
*لشيخنا الملفى شخصية مستقلة
لا تبعية فيها ولا جمود بل هي منيرة مستنيرة مبدعة متألقة وبعقلية حديثية وفقهية ناقدة مؤدبة ومتزنة. وهو صاحب فكر إسلامي صحيح مستنير راسخ ومنضبط بوسطية واعتدال ونور ، وهدى الكتاب والسنة، يقبل النقد مرَحِّبا به.
* ذات مرة طلب مني مراجعة كتاب تخصصي له في علم مصطلح الحديث عن "المشكل اللفظي في الحديث النبوي"
نحو ٦٠٠ صفحة تقريبا، وقد تعبت كثيرا في قراءته حتى أكملته وبصعوبة؛ لطوله ،وسجلت ما أراه من ملحوظات وتعقيبات، فوافقني على الكثير منها، واستحسنها وقد أضافها،لحسن ظنه بي وتواضعه معي وقبوله للحق ممن هو دونه : (... الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب)، ثم عجزت عن متابعة إنتاجه الثَّري وإبداعه - خاصة في مرحلة وباء كورونا- حيث ضاعف الشيخ فيها جهده وجدَّه وعمله وقلمه، لمؤلفات حسانٍ متعلقة بالطب النبوي والوقائي وغيرها، وما إخالها إلا ثمرة دراسته الطبية لسنة أو سنتين، جعلت تصوراته العلمية صحيحة، وأحكامه الشرعية رشيدة وسديدة.
*درّس الشيخ سنين عددا، وعلم كثيرا من الأجيال، فكان من معلِّمي الناس الخير ، وناقش الشيخ الجليل عددا من الرسائل الجامعية للدارسين لمرحلتي الماجستير والدكتوراه وفي عدة جامعات سعودية، وأشرف على عدد من الباحثين في جامعة الملك خالد بأبها، وفيها أفاد من بحر علمه النمير.
بعض ذكريات الفقيد في جامعة الملك خالد :
*جامعة الملك خالد في أبها قصة حياته، وعنوان نبوغه، ورئته التي يتنفَّسُ ويتنسَّمُ من خلالها، موضع ترقيته وتدريسه وإدارته، هي منه، وهو منها وإليها، وبها وعنها، وفيها، عرفناه شابا و شيخا وكهلا، فيها أمنياته و ذكرياته مع زملائه وشيوخه وطلابه و طالباته، مع كتبه ومؤلفاته وبحوثه وترقياته.
*وقد أرسل إليَّ رسالة معطرةً بالود والثناء والاحتفاء والتقدير من أحد محبيه أنقلها بنصها:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأسعد الله صباحك بالخير والمسرات، فضيلة
أ.د ملفي :
قرأتُ ما تفضلت به علينا من مذكرات، وبخاصة مذكرة: ( كيفية بناء الملكة الفردية)
وقد وجدتها جمعت علما غزيرا، وفوائد وآدابا وأخلاقا، وحججا
لا يستغني عنها طالب العلم، وخاصة طالب الحديث ...
فجزاك الله عنا خير الجزاء ، ونفعنا بعلمك ، وطبت وطاب فكرك وقلمك، وبيض الله وجهك شيخنا الحبيب .
مشاعر تقدير ومحبة أحببت التعبير عنها لكم" اه.
*وقبل وفاته بيومٍ في يوم الخميس ٥ رجب ١٤٤٢ه قبل أمس ، وأنا لا أدري أنه في العناية المركزة -رحمه الله تعالى - كان لديَّ درسٌ في "روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة المقدسي" - رحمهما الله تعالى -، في مباحث "الإجماع" لطلابي في مادة أصول الفقه ، في قسم الشريعة من كلية الشريعة وأصول الدين بجامعة نجران، فاحتجت إلى مراجعة شرح "مختصر الروضة" للإمام الطوفي - رحمه الله-، ففتَّشت الجزء الثاني فوجدت هذه الحروف العزيزة :
إهداء :" إلى أخي وزميلي وحبيبي وصديقي وقرة عيني د / أحمد بن محمد المصباحي، عند ما زارني في غُرَّة ١/١/١٤٣٧ هجرية، ممهورا بقلمه الشريف وإمضائه،
وههنا تُسكب العبرات، و يترقرق الدَّمع، وتفيضُ مآقي العيون في ذكريات لا يمحوها الزمان، ولا يتقاصر عنها النسيان!
هَممتُ أن أصوِّرها بجوالي وأرسلها إلى رقمه الكريم في الواتس؛ لأجدد العهد به، لكني لا أدري ما الذي صرفني! ، وما كنت أدري أن صاحبي قد قرب لقاؤه بربه، وسيحين أجلُه بعد ساعات
- واكرباه-، (وكان أمر الله مفعولا)
(وكان أمر الله قدرا مقدورا).
إلهي ما رضيتَ فقد رضينا ***
وإنْ دَمْعُ العيونِ جَرى سَخِينا
من مفتتح قصيدة رثائية لشيخنا القاضي/ محمد الصادق اليماني
- رعاه الله - في العلامة - ابن عثيمين- رحمه الله تعالى-.
لقد رضينا بقضاء الله وقدره، وسلمنا له تسليما.
فوحقِّه لأسلِّمن لأمره***
في كل نائبة وضيق خناق ///
موسى و إبراهيم لما سلَّما ***
نجيا من الإغراق والإحراق
*وقبل ثلاثة أيام من رحيله الى الرفيق الأعلى أرسل إلي آخر رسالة مستحسنا قراءة أحد الشيوخ القراء اليمانيين قائلا :
استمع إلى هذا الشيخ اليمني،
ما أعذب قراءته!
يعني الشيخ /طه الصفطي
-رحمه الله تعالى-
، وهي تشبه قراءة الشيخ المصري المتألق/
عبد الباسط عبد الصمد - رحمه الله-.
*وقبل شهر اتصل بي وأنا في مكة يقول لي: مرّ علي في بيشة؛ لأهديك ما طبعته من مؤلفاتي، ونسخة معك توصلها لصديق لي في أبها.
فقلت له: لعلي أمرُّ من طريق الساحل، لكن إن مررتٌ بالطائف أمر عليكم - إن شاء الله- ، وفعلا مررت من الخط الساحلي، - قدر الله وما شاء فعل-.
*وكان آخر سؤال سألنيه:
الشيخ المقرئ اليماني:
هل عرفته من قبل؟ فقلت:لا، لم أسمع به ولا عرفت اسمه ولا قراءته إلا من طريقك، فكان له أجر دلالتي على قارئ قراءة قرآنية بصوت ندي وشجي
يشنِّف الأسماع.
* وكان واسع الإطلاع ذا ثقافة مركزة وعميقة يدل على ذلك كتابه: "الاقتباس الحضاري" ، وله ذوقٌ وذائقةٌ واختيار في أمور دينه ودنياه، فكان حسن الاختيار في أحوال ومناسبات كثيرة، وكان ذكيا قلَّ أن يُخدع، وكان رجلا عصاميا معتمدا على نفسه، يطبخ لنفسه مثلا، كثير المشي وكنت أصاحبه مشيا على الأقدام، وافتقدته وافتقدت المشي لما فارق نجران.
*وكان - رحمه الله تعالى-
دقيق الملاحظة:
مرة سافرت معه بسيارته، وفي طريق عودتنا، التقطتُ بجوالي صورة عفوية لمنظر أعجبني، فأعجبته الصورة، وعلق قائلا:
لقد جمعت في هذه الصورة : الإبل والسماء والجبال والأرض ، فتذكرت قول الله عز وجل:
(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت)
فقلت له :"رميةٌ من غير رامٍ " ، أعني : لم تكن مهدَّفة ومقصودةً، بل جاءت عفواً.
*وقبل ثلاثة شهور احتجته في شفاعة حسنة إلى صاحب له فخصني وجاد بها - رحمه الله تعالى -.
*وقبل كتابة هذه الأحرف سحرا ليلة السبت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل شرُفت باتصال كريم من شيخ جليل رفيقٍ لدربه، فأشجاني وأشجيته وقلت له:
ما الذي حصل؟ فقال:
طلبت من الشيخ موعدا لمقابلته لعظيم الود بيني وبينه فتأخر عني، فلما سألت صهره أخبرني أن الشيخ الجليل أصيب بجلطة ليلة "الخميس" وفارقت روحه الحياة الدنيا "الجمعة"
في مستشفى "بيشه" ٠
فقلت له: أخبرني:
ما الذي تميز به الشيخ ملفي؟
فقال: تميز بالبحث العلمي والتصنيف وبأربع خصال :
١- حرصه على الأذان.
٢- حرصه على الجماعة، وقد بنى ثلاثة مساجد على نفقته في ثلاثة أماكن استوطنها.
٣-حرصه على قيام الليل.
٤-حرصه على الإكثار من قراءة القرآن.
أقول: وأنا على ذلك من الشاهدين، أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكى على الله أحدا.
*اللهم هذا عبدك ابن عبدك وابن أمتك فاغفر له وارحمه ،
اللهم من كان هذا حاله، وهؤلاء شهوده، وتلك خصاله، وأنت به أعلم وأخبر وأرحم وأبصر، فأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، واجعل قبره روحا وريحانا، وروضة من رياض الجنان.
اللهم اجعله مع النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
اللهم جازه بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفوا وغفرانا.
اللهم اخلفه في أهله وولده وعقبه بخير.
*وقد خلَّف كتبا حِسانا، وأولاداً نجباء بارين كراما - خمسة أبناء ، وثلاثا من البنات - في تخصصات جامعية متعددة ونافعة - أحسبهم والله حسيبهم من الأخيار حفظة للقرآن كما أخبرني عمهم الكريم الشيخ الكريم/ سعد الوليدي المكي وهم:" إبراهيم و محمد وسعد وصالح وعمر" ، وكلُّ أولاده من الذكور والإناث حازوا درجة البكالوريوس في سلَّمهم التعليمي بفضل الله، ولهم مستقبل واعدٌ بالخير بإذن الله -. *جبر الله قلوبهم وأفئدتهم، وقلوبنا وقلوبهم في مصابنا الجلل ومصابهم، ولهم تعزياتي ودعواتي، فليصبروا وليحتسبوا، (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون*أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) ٠
اللهم عفوَك وغفرانَك ورضوانك وفردوس جنانك لعبدك "ملفي" فإني قد أحببته فيك.
* وتمت كتابته مسطورا بالقلم، ثم منقولا بالهاتف الجوال ، وقد توفي فقيدنا عصر يوم الجمعة قبل الغروب! فهنيئا له اليوم المبارك، والساعة المباركة، وقد سطَّرته بعد منتصف الليل قبل دفنه ، وأتممته مع مطلع فجر السبت ٧ رجب ١٤٤٢ه يوافقه ١٩ فبراير ٢٠٢١ ميلادية.
فلو لم يكن في الموت خير لمن مضى***
لما مات خير الأنبياء محمد
إنا إذا أمر بنا ألمَّا ***
ندعوك يا اللَّهمَّ يا اللَّهُمَّا.
وأظنه توفي وقد قارب الستين كما كان يخبرني أنه دونها، مع أن ميلاده بالتقريب لا التحديد
في وثائقه مؤرخ في ١/٧/١٣٨٠ هجرية، ولعله أكبر من الواقع حسب تقريره لي .
*وقد تمت صلاة الجنازة عليه ودفنه بعد صلاة ظهر السبت
في مدينة "بيشة" المحروسة.
وكتبه أسير التقصير، من عفو الخاطر العليل والكليل/ أبو البراء أحمد بن محمد بن إسماعيل الجهمي المصباحي
اللهم ارحمه ووالديه إذا صار إلى ما صار إليه شيخه "ملفي" ،
ولمن قرأها ودعا لنفسه ولوالديه وللجميع بالرحمة والمغفرة والرضوان.
(سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين)، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.