بسم الله الرحمن الرحيم
(رحلة وداع مع العالم اليماني النجم الرباني الشيخ/علي بن عبدالله الواسعي
- خاتمة العلماء الصحفيين، وصحفي العلماء العاملين-). *تحرَّك الضمير و رَعَف القلم للحديث عن العالم العَلَم صاحب "وخز الضمير" ذي البيان والقلم، الأستاذ الجهبذ، الذماري المولد 1349ه - 1930م ، والاستانبولي الوفاة 2020م، شيخ ال92 المتوفَّى عن اثنتين وتسعين سنة هجرية، والشهيد بالطاعون -إن شاء الله- في وباء "كورونا" بعيدا عن وطنه اليمن وأمته وأهله، بل شهيدا مع أهله المصابين ، ينتظرون الشهادة-عافاهم الله و تقبل من كتب له ذلك، وجعل ما أصابهم طهارة ورفعة وعلو درجة وذخرا وفردوسا ورحمة وجنانا ورضوانا-.... آمين. *رحم الله الشيخ الأديب واللوذعي الأريب الكاتب الموسوعي العالم العامل العابد الزاهد الورع الصحفي البارع جامع الأصالة والمعاصرة وابن الفقه واللغة والأدب والتاريخ والإسناد من آل الواسعي المُسندين الجهابذة - أحسبه وأحسبهم كذلك والله حسيبهم ولا أزكي على الله أحدا-. * تَذكرُ بيت الواسعي بيت العلم والفقه والقضاء والفضل والإسناد واللغة والطب والثقافة من محافظة ذمار اليمانية، فتمر بك قِمَمٌ سامقةٌ في ذرى المجد عالية، وفي مقدمتها : 1- العلامة الرحالة المؤرخ المسند الشيخ/ عبد الواسع بن يحي الواسعي، شيخ شيوخنا أهل الرواية والدراية، وفي مقدمتهم تلميذه الجليل شيخ الزمن وفقيه اليمن القاضي المفتي الجهبذ العلامة الرباني/ محمد بن إسماعيل العمراني، أروي عنه عن شيخه الواسعي ثبته الموسوم ب: " الدر الفريد الجامع لمتفرقات الأسانيد" ، الثبت اليماني الذائع والرائع، المطبوع سنة 1351ه تقريبا. 2-ومنهم ولده الفقيه القاضي /أحمد بن عبدالواسع الواسعي. 3-ثم كاتبنا الأغر الأستاذ/ علي بن عبد الله الواسعي، وغيرهم من مفاخر أهل اليمن، ولا زالت أسرة الواسعي ولاَّدةً منجبةً منتجةً الأفذاذ والأقلام، وممن عرفت منهم من زملائي الكرام الشيخ د. إبراهيم بن محمد الواسعي-عظم الله أجره وذويه- وصدق ربنا تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات...) . *إنه الواسعي يا كرام : واسعُ العلم والثقافة والفكر والاطلاع، سَطَّر أحرفا من نُورٍ في مجلته "الإرشاد اليمانية ، وفي جريدة" الصحوة" في عمودها الموسوم ب: "وخز الضمير" فهو الكاتب الماهر في زمنٍ قلَّ فيه الأدباء من الفقهاء، وتصدر للثقافة والتثقيف بعض من ضعف فقهه. *عرفت العالم الواسعي من خلال حُروفه في المجلة والجريدة كاتبا عملاقا متألقا منضبطا بالإسلام، بمعناه الشامل المتكامل،(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة...) ومن معانيها أخذ الإسلام بجميع جوانبه، وعرفته منضبطا بمعاني الشريعة الغراء، فهي لُحمتُه و سُداه ومرجعه، منها ينطلق ومن أجلها يجول و يصاول، ويأخذ ويعطي، ويناقش ويدافع، وتلك ميزه نادرة في زمن الجدب والانفلات. *وعرفت شخصه الوقور وصورته الكريمة في درس جهبذ المنقول والمعقول شيخنا الوالد الحاني والقاضي الرباني/ محمد بن اسماعيل العمراني، وكنت إذ ذاك صغيرا في الصف الثاني المتوسط عام 1410 هجرية في مسجد الزبيري في العاصمة صنعاء، فرأيت شيخا وقورا وَخَطَهُ الشيب وعلا مفرقه، يحضر دروس القاضي العمراني بكل أدبٍ وسكينةٍ وإنصات ووقار بلا اعتراض أو جَلَبةٍ أو هيلمان أو جدال أو مراء فلا مظاهر زائفة ولا دعاوى فارغة لا علوا ولا تعالما أو شموخا أو شيئا من ذلك، مع أن شيوخ القاضي محمد، كثيرٌ منهم من شيوخه خاصة في المدرسة العلمية التي درس فيها، لكنَّه التواضع والإخبات والإنابة من أهل الله ذوي النفوس العالية العظيمة المطمئنة ، وكان اذا استملح أو استحسن شيئا من دروس شيخنا القاضي العمراني -نفعنا الله بعلومه - أثبته ونشره في ختام مجلة الإرشاد سواءً من قصص القاضي وتاريخه أو فقهه وعلمه. *ومع أنه ليس بيني وبينه غيرُ السلامِ وقليلٍ من الكلام إلا أني أحببته في الله ولله، ثم عرفت شمائله من أخي الكريم القاضي/ عبد العزيز المصباحي. *وأول مقالة أسرتني لفضيلته ما سَطَّره في مجلة الإرشاد بعنوان: " أمريكا التي رأيت! وهي ثلاث مقالات في ثلاثة أعداد متتاليات أبدع فيها وأجاد وأفاد وعلّم وأدَّب ونقد، ونصح للأمة، وكشف زيف الحضارة الغربية ووهم المنخدعين بها من المسلمين المتشبهين بغيرهم، و بيَّن فيها عُلو دين الإسلام في تشريعاته وأخلاقه (إن الدين عند الله الإسلام) (وأمرت أن أكون من المسلمين) "فالإسلام يعلو ولا يُعلى عليه". *ومن طريف قَصصه ومواقفه ما حكاه في رحلته تلك إلى أمريكا أنه التقى أطيافا شتى من الرجال والنساء، وفي موقف نادر وظريف عجيب وغريب متكرر، لمناسبة تمت وحصلت، أن حضرت امرأة غير مسلمة، وسلَّمت على الحاضرين، وصافحتهم يداً بيد، فلما وصلت إليه اكتفى بالتحية بالإشارة، وحياها سلاما كلاما لا مصافحة والتزاما ، ونزع يَدَه وأشار بالاعتذار بلطف، فاعتبرت ذلك منه إهانة لها، واستشاطت غضبا،وحرَّضت عليه الحضور، فترفق بها وألان، وبين لها أنه مسلمٌ وأن ديني الإسلام ينهاني عن مصافحة المرأة الأجنبية، فلا يصافحها إلا زوجٌ أو محرمٌ منها، فالمرأة عندنا درةٌ وجوهرةٌ لا يصافحها كل أحد؛ وليست وردةً ملقاةً على قارعة الطريق يشمها ويدعكها كلُّ غادٍ ورائح، فاستحسنتْ كلامه، وتقبلتهُ بقبول حسنٍ،وسألته :ولماذا لم يفعل هؤلاء فعلك؟ ، أليسوا مسلمين! فبجَّلته، وألقت اللوم على غيره، وبدأتْ رحلة البحث عن الإسلام،وهذا من ثمرات الالتزام، (يا ليت قومي يعلمون)! ولست أدري أسلمت بعد ذلك أو لا! *لقد ألقى الأستاذ/ علي الواسعي عصا التسيار والترحال في استانبول غريبا مريضا مهاجرا مقهورا و مطعونا، وحَسبهُ قول نبينا - عليه الصلاة والسلام- فيما أخرجه البخاري عن يحيى بن يَعْمَر عن عائشة أنها أخبرته أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون؟ فأخبرها نبي الله - صلى الله عليه وسلم-:«أنه كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبدٍ يَقَع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مِثْل أجر الشهيد»، وهذا تفسير لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «الطاعون شهادة، والمطعون شهيد» أي: الصابر عليه المحتسب أجره على الله ، العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه؛ ولذلك تَمَنّى معاذٌ - رضي الله عنه - أن َيموت فيه لِعلمِه أن من مات فهو شهيد. *وهل هناك ثواب خاص لمن مات بعيدا عن بلده وأهله؟ فقد جاءت بعض الأحاديث منها الحسنُ، ومنها الضعيفُ في هذا الشأن، ومن ذلك ما رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وابن حبان من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ»، قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ، قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ» والحديث حسنه الألباني، وصححه أحمد شاكر. ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم-: "قِيسَ له ما بين مولده، إلى منقطع أثره في الجنة" ما نقله السيوطي: عن الطّيبِيّ: "المُرَادُ أَنه يفسح لَهُ فِي قَبره مِقْدَار مَا بَين قَبره، وَبَين مولده، وَيفتحُ لَهُ بَاب الْجنَّة" اهــ. *أعزي فيكَ ولكَ وبكَ اليمنَ بأسرها رئيساً وحكومةً وشعباً، علماء وفقهاء وقضاة و مفكرين وشعراء و أدباء وإعلاميين وصحفيين وأطباء وصيادلة ومهندسين وغيرهم، فغالبهم استفاد من يراعك، ونهل من ثقافتك ومن معينك العذب النمير. إِنّي أُعَزّيكَ لا أَنّي عَلى طَمَعٍ***مِنَ الخُلودِ وَلَكِن سُنَّةُ الدينِ. فَما المُعَزِّى بِباقٍ بَعدَ تعزيةٍ*** وَلا المُعَزَّي وَإِن عاشا إِلى حينِ. قالها إمامنا الشافعي - رضي الله عنه -. * لكَ الله ياواسعي:كنتَ مغمورا، عرفكَ بعضُ الخاصة، لكنك عظيم عندالله - بإذن الله - مذكورٌ مشكورٌ بالصلاح والاستقامة يشهدُ لك مدادُك، مدادُ العلماء الأثبات، وإنه لما بلغني خبركَ خبرُ "كورونا" الذي أصابك وأهلك مع الحاج المحسن المبتلى به/ عبد الواسع هايل سعيد، اغرورقت عيناي، وتحدرت منها الدموع ، وقلت :يا إلهي : "كانوا يرحمون عبادك، وأنت أعلم بهم وبغربتهم وكربتهم وعذاباتهم ومرضهم وقهرهم وحرمانهم؛اللهم فارحمهم وشافهم وعافهم". *لقد كان ذلك مع قرب رحيله أما الآن فقد أخذ الله وديعته، وقد بلغني انتقالك إلى الرفيق الأعلى، وإني داعٍ فأمِّنوا : اللهم شاف عبدك عبدالواسع وارحم عبدك علياً بن عبد الله الواسعي، فإنه قد قدم عليك وفي جوارك وأنت خير مُنزَلٍ به، فأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، واجعل قبره روضة من رياض الجنان، واحلل عليك رحماتك و رضوانك في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. *اللهم إني أحببته فيك فاجمعني واياه ومن نحب مع سيد الأولين والآخرين محمد بعد طول عمر وحسن عمل، ومع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، واجعلنا اللهم من أوليائك الأخيار الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وممن قال فيهم نبيك عليه الصلاة والسلام : "إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى، قالوا يا رسول الله: تخبرنا من هم، قال: هم قوم تحابُّوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. الله أكبر! *الحديث أخرجه أبو داود والنسائي في السنن الكبرى والطبراني في المعجم الكبير، وغيرهم ولفظ أبي داود: عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير أن عمر بن الخطاب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث المتقدم بلفظه. *وأختم مصليا مسلما، ومنتقيا أبياتا من مرثية ابن زيدون الأندلسي، أهديها لأهل اليمن الميمون والمحزون: أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْـلاً مِـنْ تَدانِيْنـا*** وَنَابَ عَـنْ طِيْـبِ لُقْيَانَـا تَجَافِيْنَـا ألَا وقد حانَ صُبـح البَيْـنِ صَبَّحنـا*** حِيـنٌ فقـام بنـا للحِيـن ناعِينـا مَن مُبلِغُ المُلبِسينا بِاِنتِزاحِهِمُ*** حُزناً مَعَ الدَهرِ لا يَبلى وَيُبلينا أنَّ الزمان الـذي مـا زال يُضحكنـا*** أنسًـا بقربهـم قـد عـاد يُبكيـنـا ..... كنا نرى اليـأس تُسلينـا عوارضُـه*** وقـد يئسنـا فمـا لليـأس يُغرينـا! بِنتـم وبنـا فمـا ابتلـت جوانحُنـا*** شوقًـا إليكـم ولا جفـت مآقيـنـا نكـاد حيـن تُناجيكـم ضمائـرُنـا*** يَقضي علينا الأسَـى لـولا تأسِّينـا حالـت لفقدكـم أيامـنـا فَـغَـدَتْ*** سُودًا وكانـت بكـم بيضًـا ليالينـا ...... لَيسقِ عهدكم عهـد السـرور فمـا*** كنـتـم لأرواحـنـا إلا رياحيـنـا ...... ويـا نسيـمَ الصِّبـا بلـغ تحيتنـا*** من لو على البُعدِ حيًّا كـان يُحيينـا *ولا يأس ومعنا الله تعالى: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) الآية:(87) من سورة يوسف. *سلام على روحك الطاهرة حيا وميتا. *وللقراء الأعزاء سلامي ومودتي وعظيم احترامي ومنهم تستجلب الدعوات الصالحات المباركات. أحبائي سلاما في دموع***أحمِّله السحاب تلي السحابا. *وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،(سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) . *وحرر فجر الاثنين 13شعبان 1441 6 إبريل 2020 م *وكتبه أسير التقصير/ أحمد بن محمد بن إسماعيل الجهمي المصباحي -سامحه الله تعالى ووالديه وجميع المسلمين، وسلمهم من "كورونا" وكل الأزمات، وشافى مرضاهم من الآفات، وعافى مبتلاهم من النكبات، ونجاهم من الفتن المهلكات، وغفر لهم السيئات وجبرهم بالحسنات- إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير،وأستودعكم الله؛ (فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين) .