مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2017/12/23 17:18
القدس في اللاّهوت السياسي الصهيوني

 

د. ساسين عساف


الصهيونية دعوة يهودية وجدت تعبيرها في دولة إسرائيل.. وهي دعوة سياسية تنطلق من الدين.. والفصل فيها بين السياسة والدين أمر معجز.. فالكيان الصهيوني كيان سياسي- ديني، وافراغه من يهوديته مسألة وهم.

الصهيونية، اذاً، هي الدولة والدين معاً، أو هي اليهودية في كيان سياسي.. هي دعوة سياسية انطلقت في أواخر القرن التاسع عشر (مؤتمر بال التأسيسي الأوّل) ساعية الى تجسيد "رؤيا الخلاص" في كيان سياسي، دولة إسرائيل.. وعليه،

انّ إسرائيل هي كيان صهيوني ذو رسالة خلاصيه.. وهذا يعني أنّ إسرائيل ليست وليدة وعد بلفور بالمفهوم السياسي الاقتصادي بل وليدة "الوعد الالهي" بالمفهوم الديني- الثقافي- الايديولوجي..

الدين (رؤيا الخلاص) هو حجّة وجودها وحجّة احتلالها مدينة القدس.

انّ نظرية الحقّ التاريخي في القدس خصوصاً وفلسطين عموماً تستمدّ مقوّماتها من الدين.. وحقّ إسرائيل في الوجود، من زاوية رؤيا الخلاص، هو حقّ ديني. وعليه،

انّ الكيان الصهيوني يجسّد المدى الروحاني والديني، أي اللاّهوتي، والمدى السياسي- القومي للشعب اليهودي الذي، على الرّغم من الدياسبورا، ظلّ متعلّقاً بالقدس وحالماً بالعودة اليها وعاملاً على تجديد حياته السياسية والدينية والروحانية فيها.. بين اليهود والقدس صلة لاهوتية لم يفقدوها في الشتات المديد وهي تقوم على فكرة الخلاص التوراتي.

ان دولة إسرائيل (الكيان السياسي) هي من تصميم هرتزل السياسي الصهيوني. أمّا فكرة إسرائيل (الكيان الديني) فهي من وضع موسى، النبي اليهودي.. لا فصل، اذاً، في دولة إسرائيل بين السياسة والنبوّة.. بين السياسة وفكرة الخلاص التوراتي.

انّ اقامة الكيان الصهيوني هي تنفيذ رؤيا الخلاص أو تجسيد النبوّة.. من هنا ان إسرائيل هي دولة عقائدية- تيوقراطية.

يقول بن غوريون في كتابه "بعث إسرائيل ومصيرها": "انّ ما خلق دولة إسرائيل هو رؤيا الخلاص المسيحي المنتظر (الخلاص التوراتي) لدى شعب مشتّت في سائر أنحاء العالم. ولكن الدولة لم تحقّق الرؤيا بعد".

رؤيا الخلاص على يد المسيح المنتظر، في رأي بن غوريون، تمتدّ جذورها الى أعماق الشعب اليهودي.

الصهيونية السياسية تسعى الى تثبيت دولة إسرائيل، واليهودية تسعى الى تجسيد فكرة المسيح المنتظر.. لهذا نقول: لا صهيونية من دون يهودية ولا يهودية من دون صهيونية.. هذا التلازم يعبّر عنه بالدولة الدينية.. وبن غوريون هو أوّل من ربط الفكرة الصهيونية، كفكرة وحركة سياسية في آن، بالعقيدة اليهودية.. فتجسيد الأولى شرط لتجسيد الثانية.. والخلاص في العقيدة الايمانية اليهودية أمر غير ممكن، ما لم تقم الدولة الدينية في أرض الميعاد وما لم يقم الهيكل في أورشليم.

ان مجيء المسيح المنتظر مشروط بقيام الدولة الدينية وقيام الهيكل/ العرش (المملكة الأرضية).. وهكذا فالدّعوة السياسية والدّعوة الدينية دعوة واحدة. عام 1967 قال بن غوريون: "لقد آمنّا طوال آلاف السنين بنبوءات أنبيائنا.. وبيننا أشخاص يؤمنون بمجيء المسيح الذي سيجمع يهود العالم، أمواتاً وأحياء، في الأرض المقدّسة". وعليه،

ان رؤيا الخلاص ورؤيا العودة هما رؤيا واحدة.

ما يربط بين اليهود، إذاً، ليس العنصر القومي أو اللغة بل الصهيونية كحركة دينية أوّلا"، أقلّه حتى القرن التاسع عشر، تضمّ الشتات وتضمّ يهودا" لا يعرفون اللغة العبرية.. والصهيونية حركة طقسيّة تقوم على رؤيا الخلاص والعودة الى جبل صهيون حيث أقام داوود معبده الأوّل، بغية بناء هيكل سليمان وانتظار المسيح الذي يأتي ملكا" عليهم ويضع أمم الأرض وشعوبها تحت أقدامهم.. والصهيونية سمّيت كذلك نسبة الى صهيون، القلعة التي بنيت أيّام داوود النبي لحماية أورشليم.. والعودة الى صهيون طقس ديني يعيد بناء هيكل أورشليم تنفيذا" لرؤيا الخلاص.

الصهيونية، إذاً، بمعناها الطقسي ظلّت حركة دينية - فكرية تجمع اليهود حول فكرة العودة الى أرض الميعاد وتنفيذ رؤيا الخلاص..

في سياق هذه الحركة الدينية- السياسية تأتي أهمية القدس..

منذ منتصف القرن الماضي والصهيونية تعلن أن هدفها هو احتلال القدس وجعلها عاصمة لإسرائيل.

عام 1948 تمكّنت القوات الصهيونية من احتلال 66 بالمئة من مساحة المدينة.

عام 1967 أتمّ الصهاينة سيطرتهم على المدينة.. يومها قال حاخام الجيش الإسرائيلي: "ان حلم الأجيال اليهودية قد تحقّق فالقدس لليهود ولن يتراجعوا عنها وهي عاصمتهم الأبدية".

العودة الى القدس مفهوم ثابت وحاجة خلاصية في الوجدان اليهودي والتعليم اليهودي.. فالقدس في رأي الصهاينة هي عاصمة اليهود الروحية والسياسية.. بدونها يفقد اليهود الكثير من رسالتهم الخلاصية.

القدس في الوجدان التاريخي الصهيوني تختزل مجموعة اعتقادات:

- القدس كانت نقطة تجمّع اليهود في محنهم التاريخية، وهي ملاذهم في زمن الحروب.. فالرومان دمّروها واليهود في داخل أسوارها يعتصمون: انّها رمز المقاومة.

- القدس ذات معنى لاهوتي- طقسي.. فالتوراة والكتب المقدّسة لم تغب عنها يوماً.. لقد بقيت مركز النشاط الايماني والتعليمي والعبادي: انّها رمز ديني.

- القدس تشكّل موضوعة التلاقي بين اليهود على الصعيد السياسي.. فالتيّارات على تنوّعها تجمع على القدس العاصمة: انّها رمز سياسي توحيدي.

انّ كتاب موسيس هس "روما والقدس" هو المرجع الصالح لتحديد الصورة الواضحة للقدس في اللاّهوت السياسي الصهيوني، يقول: "قوميتي لا يمكن فصلها عن تراث آبائي وأجدادي، عن الأرض المقدّسة، عن المدينة الخالدة. هذه المدينة، حيث ولدت العقيدة والايمان بالوحدة الالهية للحياة، وحيث ولد الأمل من أجل الأخوّة النهائية لجميع أبناء البشر".

الارتباط بالمدينة الخالدة هو ارتباط قومي.. والقدس هي المدخل الى فهم رؤيا الخلاص عند اليهود.. يقول تيودور هرتزل أبو الحركة الصهيونية في مذكّراته:

"اذا حصلنا على مدينة القدس وكنت لا أزال على قيد الحياة وقادراً على العمل فانّي سوف أزيل كلّ بناء غير مقدّس بالنسبة الى اليهود وسوف أحرق كلّ المباني التي تقوم فوق المقدّسات اليهودية".

وكان بن غوريون، رئيس أوّل حكومة إسرائيلية، قد وضع في العام 1948، اطاراً لهذا الموقف عندما قال: "لا إسرائيل دون القدس ولا قدس دون الهيكل".

للقدس أهمية خاصة لدى الديانات الموحّدة الثلاث، اليهودية والمسيحية والاسلام، فلكلّ منها أماكن مقدّسة فيها.. أهميتها، إذاً، دينية وروحية.. فهي المدينة المقدّسة.. وأبناء الديانات الثلاث تعاقبوا على حكم المدينة.. فأمست قضيتها، مع الزمن، قضية دينية وسياسية، لا سيّما في الفكر الديني الصهيوني:

انها مدينة أنبياء الله منذ ابراهيم الخليل، أي، مدينة الله.. اتخذها الملك داوود ووحّد فيها الأسباط.. بدأ فيها بناء الهيكل.. مات فيها.. وأكمل بناءه ابنه سليمان.. ونقل اليه تابوت العهد..

منذ القرن التاسع عشر عمدت الدول الكبرى الى انشاء القنصليات في القدس، في ظلّ نظام دولي عرف بنظام المطامع والحمايات: فرنسا ادّعت حماية اللاّتين والكاثوليك، روسيا ادّعت حماية الروم الأرثوذوكس، انكلترا وكنيستها الانجيلية ادّعتا حماية اليهود... نظام المطامع والحمايات فتح المجال أمام تحرّك الصهيونية العالمية لتحقيق حلمها باستيطان فلسطين وانشاء الدولة الصهيونية عن طريق العودة الى القدس واعادة اطلاق حركة التاريخ اليهودي فيها ومنها... وهكذا تكثّفت الادّعاءات الصهيونية في حقّ السيطرة على القدس وفلسطين، وراحت الحركة الصهيونية تنشط بقوّة لأخذ دورها في نطاق مصالح الدول المعنية.. فأنشأت، بداية، المستعمرات الزراعية في القدس عام 1870 بالتحالف مع ألمانيا ثمّ انكلترا.. فتداخلت الاعتبارات الدينية بالسياسية والاقتصادية.. وأصبحت القدس في الفكر الديني الصهيوني مدعاة تفسير واجتهاد في الكتب الدينية والتاريخية ليتمّ احتلالها باسم الدين والتاريخ:

القدس أرض ميعاد، موقوفة لليهود في اللاّهوت الاسطوري..

القدس أرض مصالح، موقوفة لليهود في سياسات الدول القويّة..

اللاّهوتي والسياسي، أي الصهيونية العالمية، اجتمعا على تمليك اليهود مدينة القدس.. قرار الكونغرس الأميركي يثبت ذلك..

الاعتبار الديني مقترناً بالاعتبار السياسي- الاقتصادي لم يعد هو الغاية وان كان هو الأساس أو المنطلق.. فالخلفية اللاّهوتية شكّلت القاعدة لتغليب الاعتبار السياسي في الصهيونية العالمية... أدبيات اللاّهوت العبري- الصهيوني صيغت أساساً من أجل السيادة السياسية على القدس.. فالصهيونية العالمية هي صهيونية سياسية قد يرفضها يهود متديّنون وقد يعتبرونها دعوة مخالفة للقواعد الدينية اليهودية..

من أدبيات اللاّهوت الصهيوني أنّ الارتباط الديني بمدينة القدس يعطي دولة إسرائيل الحقّ بالسيادة السياسية عليها.. اللاّهوت، إذاً، بات في العقيدة الصهيونية أداة سياسية لاحتلال المدينة وأداة تقرير هويّة السيادة السياسية عليها.. اللاّهوت مسألة ذرائعية فقط في العقيدة الصهيونية.. وهي مسألة يمكن أن يلجأ اليها المسيحيون والمسلمون في اثبات حقّهم بالسيادة السياسية على المدينة.. وحجّة المسيحيين والمسلمين في هذا هي الأدعى والأقوى لأنها الأطول تاريخاً والأظهر نصّاً وفقهاً والأوسع أرضاً والأكثر بشراً على امتداد قرون...

اللاّهوت السياسي الصهيوني، إذاً، هو الحقيقة الثابتة في ادّعاءات إسرائيل والحكومات الداعمة لها بحقّها في السيادة السياسية على القدس.. انها حقيقة ايديولوجية يبدو فيها الجذر الديني هو الأضعف ذلك أنّ اللاّهوت الأسطوري هو عنصر ضعف في بنية الأيديولوجيا ‎.. في حين أن اللاّهوت السياسي هو الأقوى بين عناصر هذه البنية ذلك أنه واقعي مشدود الى عقلانية المصالح ودينامية القوّة.. لقد نجحت الصهيونية في تطوير حركتها من أدبيات اللاّهوت الأسطوري الى منجزات اللاّهوت السياسي فتبدّلت وظيفة القدس في التطوّر العام لتلك الحركة من مجرّد عاصمة دينية غيبيّة يوتوبية الى عاصمة دينية- سياسية محقّقة أو اعيانية، وتبدّلت، تالياً، العلاقات بين اليهود والقدس من مجرّد علاقات روحيّة يعزّزها حنين استرجاعي الى علاقات روحيّة- ماديّة يعزّزها كيان سياسي قائم هو الدولة الصهيونية...

بين المقدّس والسياسي في الفكر الصهيوني علاقات توحّد حتى الاندماج.. في مدينة القدس (رمز المقدّس اليهودي) أطلق اليهود ثورتهم (رمز الموقف السياسي) في وجه الرومان، وفيها أتمّوا تعليمهم الديني ودراسة التوراة وسائر الكتب المقدّسة وحافظوا على مرجعيتها الفكرية، حتى في زمن الشّتات.. فباتت القدس في الاطار الفكري للصهيونية عاصمة مقدّسة للدين وللسياسة معاً.. بها وفيها يبلغ اليهود منتهى درب الكمال الروحي.. وبها وفيها يحقّق الصهاينة اكتمال بناء الدولة... فالدولة الصهيونية بدون سيادة سياسية تامّة ومطلقة على القدس تبقى دولة ناقصة أو كياناً سياسياً لم تكتمل عناصره التكوينية.

الدولة الصهيونية، من حيث علاقتها بالقدس، ذات وظيفة مزدوجة في اللاّهوت السياسي.. فهي، من جهة، تحمي مدينة العقيدة والايمان وتمهّد لمجيء مسيحاني منتظر، وبهذا تكون صاحبة رسالة خلاصية.. وهي، من جهة ثانية، تحقّق الارادة الالهية في حماية العلاقة بين الله وشعبه وأرضه، وبهذا تكون نقطة عبور الله الى التاريخ... فاللاّهوت السياسي الصهيوني يمنح اليهود أحقّية ادخال الله في حركة التاريخ.. جاء في التلمود:

"كما أن العالم يستحيل عليه أن يستغني عن الهواء فكذلك يستحيل عليه أن يوجد دون إسرائيل".

قيادة الله الى العالم وقيادة العالم الى الله هي وظيفة إسرائيل المزدوجة في اللاّهوت السياسي الصهيوني: القدس هي مركز القيادة بخطّيها الالهي البشري والبشري الالهي.. بدونها لن تكون لله مملكة أرضية.. وبدونها، تالياً، لن يكون للإنسان ملكوت سماوي.. القدس هي مركز الحكم الالهي، منها يحكم الله العالم ويبسط سيادته في الأرض.. اعادة بناء الهيكل والمدينة تهيّئ العالم لاستقبال الربّ واقامة ملكه الفعلي.

حكومة الدولة الصهيونية، وعاصمتها القدس، هي الوجه التاريخي للحكم الالهي وهي المسؤولة عن، لا بل المؤتمنة على، التحضير العملاني لمجيء الاله العبري أو المسيح اليهودي المنتظر.. فاتّخاذ القرار منذ اعلان هذه الدولة بجعل القدس مركز حكومتها الرسمي بني على أساس ديني.. والمقدّس غير قابل للتفاوض في اللاّهوت السياسي.. المقدّس في اللاّهوت السياسي هو فوق القواعد والقوانين الدولية.. قوّة القانون الالهي فيه تستبيح كلّ الاتفاقات المبنية على تلك القواعد والقوانين.. مسألة حفر النفق مثلاً مخالفة لجميع القرارات الدولية وخصوصاً قرارات الاونيسكو التي تمنع الحفر والتنقيب في القدس وتغيير معالمها الجغرافية.. فالنفق في اللاّهوت الصهيوني محفور منذ ألفي عام وله أهمية خاصّة في التاريخ اليهودي.. أمّا واليهود لا يفرّقون بين تاريخ الله وتاريخهم فتبدو مسألة النفق فوق احترام تاريخ البشر الآخرين، مسيحيين ومسلمين.. اله النفق اليهودي، في اللاّهوت الصهيوني، هو الأحقّ في امتلاك التاريخ من إله المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.. إله ما تحت الأرض هو صاحب الحقّ في امتلاك ما فوقها.. ولمّا كانت ملكيّة الله وملكيّة اليهود واحدة في اللاّهوت الصهيوني، فالتصرّف بالقدس، والعبث بأملاك الآخرين، أبناء الديانات الأخرى، يصبح عملا" مشروعا" يستند الى ارادة اله له شعبه المختار ذو الحقّ الالهي الحصري في امتلاك أرضه الموعودة..

في ضوء هذا اللاّهوت "التمليكي" نفهم سياسة إسرائيل في فرض سيطرتها على القدس بأرضها كاملة، ما تحت الأرض وما فوقها.. مقدّسات اليهود، في اللاّهوت السياسي الصهيوني، وحدها هي المقدّسات.. ومعالم اليهودية في المدينة هي وحدها التي تحمل تاريخ الله.. لذلك،

لا تفاوض على القدس.. فالقدس هي أرض العلاقة بين الله وشعبه وهي العهد والوعد وهي تاريخ الاثنين في تاريخ واحد وهي هويّة الاثنين في هويّة واحدة..

سيادة الله عليها لا تتحقّق ما لم ينجز اليهود سيادتهم السياسية عليها.. واذا كانت إسرائيل دولة المشيئة الالهية في الأرض كما يدّعي لاهوتها الأسطوري، فان القدس هي عاصمة أبديّة لتلك الدولة، بامتياز الهي.. لذلك،

لا تنازل عن القدس عاصمة أبديّة للكيان الصهيوني..

لا فصل في اللاّهوت السياسي الصهيوني بين سيادة دينية وسيادة سياسية.. لذلك،

كلّ الأطروحات القائلة بجعل القدس مدينة مفتوحة أمام سيادات دينية ثلاث مسألة مرفوضة في منطق هذا اللاّهوت..

ما نراه نحن احتلالاً سياسياً وعسكرياً للقدس يراه الصهاينة تكريساً لسيادة دينية- سياسية هي في رأينا من تداعيات اللاّهوت الأسطوري...

السيادة الدينية- السياسية لليهود على القدس لا تنكر أنّ للمسيحيين وللمسلمين حقوقاً دينية فيها، ولكن ضمن اطار السيادة السياسية التامّة لليهود عليها.. فالمنطق الصهيوني ينطلق من استخدام الحقوق الدينية ليكرّس السيادة السياسية ويمنع الآخرين من استخدام حقوقهم الدينية في المدينة لتكريس سيادتهم السياسية عليها.. انه منطق غرائبي لا يستقيم الاّ على قاعدة اللاّهوت الأسطوري: اختيارية الشعب ووعدانية الأرض.

حقوق المسيحيين وحقوق المسلمين الدينية في القدس هي حقوق محصورة ومراقبة بما لا يؤذي سيادة اليهود السياسية عليها.. لذلك،

لا مفاوضات خارج دائرة هذه الحقوق.

مضمون اللاّهوت السياسي الصهيوني مضمون أسطوري.. والأسطورة الدينية هي أشدّ الأساطير تعسّفاً مع الآخر وحقوقه.. ومع التاريخ... وهي قوّة قهر وتسلّط ومصدر عنف، بامتياز.. انها تخرج من التاريخ الميت لتزوير التاريخ الحيّ.

"الأسطورة الدينية" حوّلت الصراع في المنطقة الى صراع آلهة.. وصراع الآلهة حوّل الدين من ديناميّة خير الى ديناميّة شرّ، ومن قوّة سلام الى قوّة عنف.. وعندما يصبح الدين آلة عنف بيد المؤمن، في وجه من خالفه في رأيه أو معتقده، لا يبقى للتاريخ معنى سوى أنه مساحة زمنيّة لحروب دينية يديرها قانون الهي غير قابل للتعديل او المراجعة..

الحرب من أجل القدس، في اللاّهوت السياسي الصهيوني، هي من أحكام القانون الالهي الذي لا يخضع لتعديل أو مراجعة تأتيه من مصادر أو اجتهادات وضعيّة.. فالقانون الدولي لا يطبّق على مدينة الله.. وحده القانون الالهي هو المطبّق في الدفاع عن المقدّسات... لذلك،

يبدو البعد الديني واضحا" في خلفيّة السياسات التي مارستها حكومات إسرائيل ازاء القدس، خصوصا" سياسة التهويد.

القانون الدولي يعتبر القدس أرضا" محتلّة..

القانون الالهي يعتبرها أرضا" مستعادة..

بين أفهومة الأرض المحتلّة وأفهومة الأرض المستعادة تنبسط مساحة التباين بين وجهتي نظر، واحدة تستند الى قواعد القانون الوضعي وأخرى تستند الى قواعد القانون الالهي.. لذلك،

مضمون اللاّهوت السياسي الصهيوني هو مضمون قانوني غيبي، حصّته من حقائق التاريخ لا تعدو كونها ادّعاءات واهية دفعت الصهاينة الى اعتناق فلسفة التزوير على الصعيد الايديولوجي أو الفكري، والى تطبيق هذه الفلسفة على الصّعيد العملي.. فتهويد القدس، حفراً لأنفاق وتدميراً لمعالم وبناء لمستوطنات وطرداً لسكّان، واحدة من هذه التطبيقات الأشدّ تزويراً لتاريخ المدينة.. من وجوه التزوير وأفعاله حفر النفق من أجل الوصول الى الصخرة اعتقاداً منهم أن ثمّة بقايا مذبح يهودي تحتها.. فالنفق المؤدّي الى المذبح المزعوم هو الذريعة.. أمّا الهدف فهو بناء الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى.

اللاّهوت السياسي الصهيوني ذو المضمون القانوني الغيبي غير المستند الى تاريخ الحقائق والواقعات هو الدافع، اذا، الى التزوير.. والى جعل الحقّ في فلسطين والقدس غير مرتبط بالوثائق والأدلّة بل بقوّة القانون الالهي الذي يشرّع للصهاينة فعل الاغتصاب المطلق للتاريخ.. لذلك،

قرارات الشرعية الدولية المستندة الى أحكام القانون الدولي لا تعني الصهاينة.. والصهاينة لا يعترفون بها.. والأمم ذات الثقافة التوراتية- التلمودية تعطّل القرارات قبل صدورها.. وأوضح دليل على ذلك هو القرار الذي اتّخذه مجلس الشيوخ الأميركي بنقل السفارة الأميركية الى القدس اشارةً واضحة لتكريسها نهائياً عاصمة الدولة العبرية، أيّاً كان حكم القانون الدولي... فالثقافة التوراتية، ثقافة اللاّهوت الصهيوني أقوى وأدعى من كلّ الأحكام والأعراف والقوانين الدولية في دوائر القرار الأميركي..

بفضل ثقافة هذا اللاّهوت بات العالم مفتقراً الى قوّة دولية شرعيّة قادرة على الزام إسرائيل بتنفيذ القرارات الصادرة عن الأمم المتّحدة التي هي وحدها الهيئة المسؤولة عن تطبيق مبادئ القانون الدولي وأحكامه.. العجز هو في البنية الفكرية وفي الحسابات الوجدانية التي أعطبتها ثقافة اللاّهوت الصهيوني ودرّبتها على الخضوع لقانون الهي زائف ومزوّر طبع فيها صورة "الدولة الاستثنائية" لشعب الله المختار "ذي" الرسالة الخلاصية"..

أضافة تعليق
آخر مقالات