اللغة مكوّن رئيس من مكوّنات الهويّة:
اللغة عنصر من العناصر الفارقة بين الهويات. انّها التعبير الاوفى عن الخصوصية وهي تجسّد "روح الأمّة" وتحفظ ارثها وتراثها الحضاري وتحمي هويتها التاريخية.
يقول الارسوزي في كتابه "العبقرية العربية في لسانها" ما يلي: "انّ وجهة الامة العربية مكنونة في اللسان العربي.." بدوره ساطع الحصري في كتابه "محاضرات في نشوء الفكرة القومية" يقول ما يلي: "انّ (اللغة) هي روح الامّة وحياتها.. انّها محور القومية وعمودها الفقري.." فاللغة اذاً تعبير عن "الروح" القومي أو عن تركيب عقلي ونفسي ووجداني مخصوص به شعب ما. هذا ما تؤكّده مناهج أنتروبولوجيا الثقافة وهذا ما يبدو جلياً لدى عبدالله العلايلي القائل: "لكلّ شعب لغة وليس لكلّ لغة شعب.." ما يعني أنّ اللغة هي نقطة ارتكاز القومية. وهذا ما ذهبت اليه النظرية الألمانية المبنية على وحدة اللغة (هردر، فيخته)
اللغة في الوعي الثقافي الاتمّ هي الهويّة كونها أنظمة معارف وقيم وأنماط سلوك. تؤيّد هذا المفهوم علوم حديثة، منها: علم ما وراء اللغة أو فلسفة اللغة وعلم الاجتماع اللغوي وعلم النفس اللغوي وانتروبولوجيا اللغة.
اللغة والتباسات الهوية:
منذ خمسينيات القرن الماضي تنبّأ آنشتين باختراع ما أسماه "القنبلة المعلوماتية" فصحّت نبوءته وبدأت الالفية الثالثة على ايقاع حرب من نوع جديد هي حرب المعلوماتية.
ثمّة زلزال معلوماتي حاصل ضرب العالم كلّه وأحدث ارتدادات متفاوتة بين شعوبه وأدخلهم جميعاً، جماعات وأفراداً، في ما يمكن تسميته التباسات الهويّة، فتكنولوجيا المعلومات والاتصالات تمتلك قوّة سيطرة هائلة على العقول والميول والامزجة والاذواق ومناهج التفكير وأنماط السلوك وأساليب التعبير عبر اللغة حتى بات السؤال المطروح من أنا أو من نحن سؤالاً طبيعياً يتردّد على ألسنة من يعيش في اشكالية الثنائيات اللغوية أو ثلاثياتها أو رباعياتها أحياناً..
ما يعنينا من هذه الالتباسات في سياق ما نحن في صدد الكلام عليه هو تأثير اللغات الاجنبية المستخدمة في صناعة المعلومات وتصديرها في تشكيل هوية المتعلّم واخراجه من اللغة الام.
أثر اللغات الاجنبية في هوية المتعلّم:
آلة التغريب والغزو والاختراق والاستتباع الثقافي تقضم مؤسسات التربية والتعليم والاعلام والاعلان وسائر مؤسسات الانتاج أو الاستيراد المعرفي والعلمي والتكنولوجي. والسؤال المطروح يكمن في مدى تأثير هذه الآلة المسنّنة باللغة في تشكيل هوية المتعلّم الثقافية.. من مآزق الهويات والتباساتها في الزمن الراهن وقوع أبنائها بين أسنان هذه الآلة. فاللغة المسيطرة على شبكات الاتصال الالكتروني والصناعة المعلوماتية والالكترونية تغلّب ثقافة من له القدرة على الانتاج والتصدير على ثقافة من ليس له سوى الاستهلاك والتلقّي. وثمّة قانون تاريخي تشهد بصحّته الوقائع يقول: انّ الامم تؤخذ من عقول أبنائها قبل أن تؤخذ بسلاح أعدائها.. والسلاح الامضى في السيطرة على العقول هو اللغة.. (حركة الاستشراق والارساليات مهّدت لحركة الاستعمار)
اللغة وسيلة معرفية في خدمة السيطرة. المؤرّخ بول كينيدي يقول: "التاريخ يخلق رابحين وخاسرين.. المعرفة هي المعيار، هي الفيصل بين الرابحين والخاسرين.. المعرفة تعيد صياغة الهويّة.." فردريك جيمسون، أوّل من نظر الى الرابط بين الثقافة (العلم) والسياسة (السيطرة) يطرح ما يلي:
- هل نحن نسير نحو ثقافة كونية واحدة تكون فيها الهيمنة للفنون البصرية (الاعلام والاعلان) وللّغة الانكليزية؟
- هل الشكل الجديد للصراع المعرفي هو بين من يمتلك المعرفة ويسيطر بالقوّة اللغوية وبين من لا يمتلكها؟
صناعة العقول والامزجة والاهواء والاذواق والسيطرة عليها مهنة ينجح في ممارستها من يمتلك قوّة المعرفة مصحوبة بقوّة السيطرة الخفية أي تكنولوجيا التواصل باللغة المباشرة والدقيقة والواضحة والبسيطة والسريعة في مستوى الايصال والافهام. يقول فريدمان، أحد منظّري العولمة، "في الماضي كان الكبير يأكل الصغير أمّا اليوم فالسريع يأكل البطيء". اللغة تظهّر السرعة.. ومتعلّمو اليوم يلجأون بالضرورة الى اللغة التي توصلهم الى مادّة تعلّمهم بالسرعة القصوى.
انّ العاملين لحساب آلة التغريب والغزو والاختراق والاستتباع الثقافي والمشدوهين أمام نجاحاتها في "تحضير الشعوب وتنميتها وتحديثها وعصرنتها وعولمتها" عبر اللغة أصبحت اللغة العربية عندهم لغة شائخة رمز التخلّف والبطء والعجز، وأمست اللغات الاجنبية لديهم بطاقة انتساب سريع الى النموذج الثقافي أو الحضاري الغربي. والحجّة في ذلك تحرير الذات بتحطيم قيدها اللغوي واخراجها من دائرة الانغلاق الحضاري تجديداً لها ووصلاً بالحداثة والمعاصرة وانجازات العولمة التي لا تنتظر المتخلّفين عن اللحاق بها حتى بات يقيناً عند الكثيرين، خصوصاً من العاملين في مؤسسات التربية والتعليم في مختلف مراحله، أنّ امتلاك اللغة الاجنبية وسيلة تكوين معرفي وعلمي وتكنولوجي هو بطاقة صعود السلّم الكهربائي السحري الموصل الى "العالمية".. انّها اشكالية التوق الى "عالمية بدون جذور!"
هويّة المتعلّم ليست قميصاً يبدّل عند الاقتضاء.. وليس من اليسر في شيء الدخول السهل في "الهويات المصطنعة".. هنا تكمن مسؤولية المؤسسات المعنية.
مسؤولية المؤسسات التربوية والتعليمية والاعلامية في حماية هويّة المتعلّم باللغة الام:
الحدود بين الخصوصية والعمومية في المجالات العلمية والمعرفية والتكنولوجية حدود متداخلة بفضل المنجز المعلوماتي الهائل الذي جعل الكلّ مترابطاً مع الكلّ. هنا تجد المؤسسات المعنية بالتربية والتعليم ونقل المعلومة أمام تحدّ عنوانه معرفة ترسيم الحدود بشكل يسمح لها بالقيام بدور توليفي بين الذات والآخر تفادياً للتبعية والتهميش من جهة وللتخلّف من جهة أخرى فلا تنزلق في خدمة برامج السيطرة الاجنبية ولا تنقاد بضغط الخوف من ثقافة الآخر الى ممانعة مجّانية ترتدّ على الذات قطعاً معرفياً يؤدّي بها الى الموت البطيء في مآويها الثقافية. اللغة الام واحد من هذه المآوي التي يمرّ العالم اليوم في مرحلة تفكيكها والخروج منها الى رحاب العولمة.
المنهج التوليفي مسألة صعبة ومعقّدة خصوصاً في مجال التربية والتعليم.. لذلك نقترح على المؤسسات المعنية اعتماد اللغة العربية في التعليم في أنواعه ومراحله كافة خصوصاً في العلوم الانسانية والاجتماعية والتربوية حيث لا تقوم اللغة بوظيفة ايصالية فقط بل بوظيفة تكوينية، فالالسنيون وعلماء اللغة يجمعون أنّ اللغة هي بنية معرفية ونظام تفكير ونمط سلوك وتعبير ومحفّز رغبات وتوجيه والتصاق حميمي بتراثها وأهلها.. بهذا المعنى هي وسيلة استتباع ثقافي وانحراف أو تبديل أو تعديل بالهوية الاصلية وتغريب عنها وانزياح عن الذات للتماهي بالآخر أو تلبّس أحواله والتمثّل به والتنميط عليه.
المنهج التوليفي يسهل اعتماده اذا أدرك القيّمون على المؤسسة التربوية والتعليمية أنّ الارتباط باللغة العربية هو ارتباط كينوني/ عضوي.. هو ارتباط هوية.. وأنّ الارتباط باللغات الاجنبية، على أهمّيته وضرورة استمراره لكي لا يقع المتعلّم في " الامّية الثقافية " أو القطع المعرفي، هو ارتباط وظائفي لاغناء الهوية. لذلك انّ مسؤولية المؤسسة التعليمية تكون باعتماد اللغة العربية لغة تعليم واللغات الاجنبية لغات تعلّم وتثقّف واكتناز معرفي.. ولكي يتّهيّأ للمتعلّم استخدام الاجنبية لغة تعلّم ينبغي ايلاؤها الاهتمام الكافي في مناهج التعليم والانشطة المرافقة..
باختصار نقول: اذا كان القصد من التربية حماية الهوية وتنميتها فالمقترح لبلوغه هو اعتماد العربية لغة تأصيل وتكوين واعتماد الاجنبية لغة اغناء وتمكين.
اللغة الام وحماية هوية المتعلّم عبر التأصيل والتكوين:
المفكّر الجزائري عبد الحميد بن باديس ربط بين اللغة العربية والهوية القومية. يقول: "انّ اللغة العربية.. لغة القومية.. وحدها الرابطة بيننا وبين ماضينا وهي وحدها المقياس الذي نقيس به أرواحنا بأرواح اسلافنا..." في هذا الكلام تأكيد الفعل التأصيلي للّغة.
المستشارة الالمانية انجيلا ميركل رفضت طلب أردوغان افتتاح مدارس تركية في ألمانيا قائلة: " لا للمدارس التركية في ألمانياً.. وحجتها في ذلك أن وجود هذه المدارس يعيق اندماج الجالية التركية ويخلق مجتمعاً موازياً للمجتمع الالماني.. وأردفت: من يعش في ألمانيا عليه أن يتعلم بالألمانية..." في هذا الكلام تأكيد الفعل التكويني للّغة.
منذ منتصف القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي أنشئت المدارس الاجنبية في عدد من أقطار الوطن العربي، في المشرق كما في المغرب، كل منها تعلّم بلغتها وتنشر ثقافتها.
بصرف النظر عن مستوى التعليم الجيّد الذي قدّمته تلك المدارس فالسؤال المطروح في سياق ما نحن بصدده هو: ما مدى تأثير هذا التعليم في تفكيك الهوية الثقافية لابناء تلك الاقطار وادخالهم في هويات غريبة بفصلهم عن أصولهم المعرفية والقيمية والسلوكية؟ (تجربة الجزائر ولبنان من أغنى التجارب الدالّة على التفكيك والتغريب متى غيّبت اللغة الام وانعدمت قدرتها على التكوين والتأصيل)
تغييب اللغة العربية أسهم بخلق مجتمعات متعدّدة التركيب المعرفي والسلوكي والقيمي فاقدة لارتباطها بهويتها القومية. انتهى بعض أفرادها إلى ما أسمّيه "العمالة الحضارية" الصريحة للغرب، و منهم من خضع طوعاً لما أسمّيه "استعمار الضرورة" ومنهم، ولو مخلصاً، من عاش في "فصام ثقافي" حال دونه والقدرة على حسم الاتجاه في مستوى الهوية والانتماء.
وتبقى الاجابة عن سؤال رئيس: هل اللغة العربية بما هي عليه الان قادرة على حماية الهوية؟
نستلّ الاجابة من العلاّمة اللغوي الشيخ عبدالله العلايلي: "علّة النهضة في اللغة العربية ليست منها وفيها بل هي علّة من العرب وفيهم.. العرب هم الذين يمتلكونها والعكس لا يستقيم.. ومالك الشيء مسؤول عن سقمه.. واللغة العربية تالياً ليست مسؤولة عن تخلّفنا.."
انّ محنة اللغة العربية هي من محنة العقل العربي وعجزها من عجزه، فيوم كان هذا العقل مصدر الابداعات في العلوم كافة كانت العربية لغة الشعوب القريبة والبعيدة، كانت لغة العصر يوم كان العرب أسياده..
اللغات وعاء ما تنتجه العقول والالباب وحافظه وناقله وحاميه. بهذا المعنى تحمي اللغة الام هوية المتعلّم عبر التأصيل والتكوين.
اللغة الاجنبية وتنمية هوية المتعلّم عبر الاغناء والتمكين:
اللغة الاجنبية هي الاداة الافعل للتواصل مع الآخر بما هو ضرورة للذات في صيرورة ما أسمّيه "تمكين الذات عبر الاكتمال المعرفي بالآخر".
لهذا انّ مؤسسات التربية والتعليم مدعوّة الى اعداد المتعلّم وتدريبه على الاخذ بالوافد المعرفي بلغته الاصلية وذلك عبر تعليمه هذه اللغة بأرقى مستويات التعليم. هنا يتّضح الفرق بين لغة أجنبية يتمّ تعليمها (اللغة مادة تعليمية بهدف تمكيني) ليغتني المتعلّم بها ويتمكّن من استجلاب معارفها وبين لغة أجنبية يتمّ التعليم بها (اللغة وسيلة تعليمية بهدف تكويني).
اللغة الاجنبية بوصفها مادّة تعليمية تسهم في تنمية الهوية.
اللغة الاجنبية بوصفها وسيلة تعليمية تسهم في ضمور الهوية.
انّ "لغة الاغتيار الثقافي" اذا سادت، كما هي سائدة اليوم في بعض جوانب حياتنا العامة، أدخلتنا في ما أسميناه في كلام سابق "التباسات الهويّة" أو في ما أسمّيه هنا "الهويات المائعة"..
في مرحلة استهداف الهويات والذاتيات القومية الشعوب الجادّة لا تستسيغ الفيض في الاختلاف الثقافي أو "الترف اللغوي" الذي يتّخذ من أزعومة التعدّد الحضاري وحرية التعليم حجّة وجود وشرعيّة بقاء.
المستساغ، والحالة هذه، هو استخدام اللغة الاجنبية جواز عبور الى الآخر وادراكه والحوار معه وفهمه والتعلّم منه وتوظيفه في تنمية الذات وتمكينها من الاستواء على خطّ التقدّم المعرفي والعلمي والتكنولوجي وخطّ التواصل الانساني الرّحب وابداعاته الفكرية والادبية والفنّية.
بهذا الافق المفتوح على الآخر نرى الى اللغة الاجنبية وسيلة اغناء وتمكين.
أختم بتوصيتين لانجاح فكرة التعليم بالعربية والتعلّم بالاجنبية:
- تبسيط العربية وجعلها مقتضبة ودقيقة في أداء المعاني ومتنوّعة بتنوّع الحقول المعرفية والعلمية والتكنولوجية، وهذا أمر ممكن فعبقرية اللغة العربية مطواعة وتراثها غنيّ بالادلّة والشواهد.
- تعليم اللغات الاجنبية بأهداف وظيفية ما يجعلها ميسّرة أمام جميع المتعلّمين في مراحل التعليم وأنواعه كافة.