مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2025/11/27 16:16
هل تندلع حرب جديدة في القرن الأفريقي؟

تعيش منطقة القرن الأفريقي حالة من الترقب مخافة اندلاع حرب إقليمية جديدة محتملة طرفيْها إثيوبيا وإريتريا، وذلك في ضوء حرب التصريحات العدائية المتبادلة لمسئولي البلدين على مدار الشهور القليلة الماضية، بما يعكس دينامية التحالفات الإقليمية المتغيرة في المنطقة. إذ سرعان ما انتقل آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، والرئيس الإريتري أسياس أفورقي، من حالة التحالف المقدس في الحرب الإثيوبية الأخيرة على إقليم تيجراي (نوفمبر 2020- نوفمبر 2022) إلى مرحلة جديدة من العداء ربما تدفع الطرفين إلى التورط في صراع إقليمي موسع، ستكون تداعياته كارثية على الاستقرار النسبي الذي تتمتع به المنطقة.

وحقيقة الأمر، إن الطرفين الإثيوبي والإريتري ليسا بحاجة إلى هذه الحرب، عمليًّا، في ضوء التركة الثقيلة التي خلفتها حرب تيجراي قبل ثلاث سنوات بالنسبة للدولة الإثيوبية ولا تزال تداعياتها السلبية مستمرة حتى الوقت الراهن على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، بالإضافة إلى سلسلة الأزمات الداخلية التي تشكل عبئًا ثقيلًا على حكومة آبي أحمد، التي تستعد لتجديد الثقة فيها خلال الانتخابات التشريعية المقبلة في 2026. وعلى الجانب الآخر، تعاني إريتريا منذ سنوات حالة من العزلة المفروضة عليها إقليميًّا ودوليًّا، وما يترتب عليها من تأثير سلبي على أوضاعها الاقتصادية والسياسية.

ومع ذلك، تبدو حسابات كل طرف من هذه الحرب المحتملة مدروسة، بما يعزز مصالحهما الاستراتيجية على الصعيدين الداخلي والإقليمي. ويظل تحقيقها مرهونًا بتصعيد التوتر بين الطرفين، ودور العامل الخارجي المحتمل في نزع فتيل الأزمة قبل تفجرها خوفًا على الاستقرار الإقليمي المرتبط بالأساس بحماية المصالح الدولية الاستراتيجية هناك.

وتضفي هذه التفاعلات مزيدًا من التعقيد على المشهد الإقليمي في القرن الأفريقي الذي يعد مستنقعًا للأزمات المتداخلة، ما من شأنه تغذية التوترات بما يسهم في اتساع دائرة الصراعات في المنطقة، وما قد يترتب على ذلك من تداعيات كارثية على أمن واستقرار الإقليم ككل. 

على هذا النحو، تحاول هذه الدراسة رصد وتحليل أبرز الاتجاهات الرئيسية التي تشكل المشهد الإقليمي في القرن الأفريقي، بالإضافة إلى أسباب تصعيد التوتر الإقليمي بين الطرفين الإثيوبي والإريتري، ومحفزات اندلاع حرب بينهما، والتحركات التكتيكية لكلا الطرفين، وحسابات الأطراف المعنية إزاء اندلاع الحرب المحتملة، واستشراف مستقبل منطقة القرن الأفريقي في ضوء هذه التطورات المتسارعة.

أبرز الاتجاهات الرئيسية في القرن الأفريقي

يتسم المشهد الإقليمي في منطقة القرن الأفريقي بدرجة كبيرة من التعقيد، في ضوء سلسلة الأزمات الإقليمية التي تواجه دول المنطقة من حروب أهلية وإقليمية وصراعات سياسية وسيادة متنازع عليها ونزعات انفصالية ومنافسات دولية وإقليمية، وهو ما يدفع لإلقاء المزيد من الضوء حول أبرز الاتجاهات الرئيسية التي تسهم في تشكيل المشهد الإقليمي بالمنطقة. ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك الاتجاهات على النحو التالي:

1- علاقات إقليمية معقدة: يزداد التوتر الإقليمي بين بعض دول القرن الأفريقي خلال الفترة الأخيرة. وذلك نتيجة تعارض المصالح في عدد من الملفات الإقليمية، حيث أدى توقيع إثيوبيا اتفاقًا مبدئيًا مع إقليم "أرض الصومال" في يناير 2024 إلى خلاف محتدم مع الصومال، الذي نجح في ممارسة المزيد من الضغط على الجانب الإثيوبي للتراجع عن هذا الاتفاق. وبالرغم من تصحيح مسار العلاقات بين البلدين عقب توقيع اتفاق أنقرة في ديسمبر 2024، إلا أن هناك على ما يبدو أزمة ثقة بين الطرفين الصومالي والإثيوبي، في ضوء تعليق إثيوبيا للاتفاق بما يثير المخاوف لدى مقديشو حول احتمال دخوله حيز التنفيذ.

وعلى صعيد آخر، تبدو العلاقات الإثيوبية الإريترية في أسوأ مراحلها، بما يعيد للأذهان مرحلة العداء بين البلدين عقب الحرب الأخيرة بينهما (1998- 2000) والتي استمرت حتى توقيع اتفاق السلام الإقليمي في يونيو 2018. وما أن وقع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد اتفاق بريتوريا في نوفمبر 2022 الذي أنهى الحرب الإثيوبية في إقليم تيجراي، بدأ الخلاف بين الحليفين الرئيسيين في تلك الحرب -آبي أحمد وأفورقي- إلى جانب عدد من العوامل الأخرى التي أسهمت في تغذية التوتر وتصعيده ليصبح الأمر معقدًا في ضوء الحديث عن اندلاع حرب محتملة بين البلدين[1].

وتعزز هذه التوترات المخاوف من توسع رقعة الصراعات الإقليمية في القرن الأفريقي، لا سيما أن أفق تسوية الصراع في السودان لا تزال بعيدة المنال، على الأقل في المدى المنظور، بالإضافة إلى احتمالات تجدد الصراع السياسي في جنوب السودان. وهي صراعات معقدة تتسم بالتداخل، في ضوء تشابك المصالح والعلاقات بين معظم الأطراف الفاعلة في المنطقة، مع انخراط أطراف خارجية تسعى لتحقيق أهداف استراتيجية معينة، بما يعقد المسرح العملياتي على ساحة القرن الأفريقي.

2- ديناميكيات الصراع بالوكالة: أضحت بمثابة ورقة رابحة تلوح بها دول القرن الأفريقي ضد بعضها البعض من أجل ممارسة المزيد من الضغط في بعض الأزمات. فعلى الرغم من تراجع فكرة الصراع بالوكالة -ولو نسبيًّا- في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، نتيجة للعلاقات الإيجابية التي ربطت بين دولها، لكن سرعان ما أدت الخلافات بينها إلى التلويح بهذه الورقة. ففي ضوء التصعيد الإثيوبي الإريتري، أشارت تقارير إلى تطور العلاقات التي تربط بين النظام الإريتري الحاكم وجبهة تحرير تيجراي/فصيل ديبرتسيون جبريمايكل، وسط مؤشرات حول تحالف محتمل بينهما حال اندلاع الحرب مع إثيوبيا. في المقابل، تحتضن أديس أبابا إحدى حركات المعارضة الإريترية التي نظمت مؤتمرًا في يناير 2025 يهدف إلى الإطاحة بالنظام الحاكم في أسمرة. وربما يدفع ذلك الطرفين إلى إيواء بعض الحركات المسلحة ودعمها لوجستيًّا في المرحلة المقبلة. وإن كان الاتهامات الإثيوبية تُوجه إلى نظام أسمرة بتقديم الدعم المادي واللوجستي لميلشيا فانو الأمهرية في الداخل الإثيوبي، والتي تنخرط في صراع عسكري مستمر منذ أغسطس 2023، وهو ما قد يسهم في تصعيد التوتر بين البلدين مستقبلًا.

من جهة أخرى، هدد الصومال إثيوبيا في سبتمبر 2024 بدعم الجماعات المتمردة المناهضة لنظام آبي أحمد، حال المضيّ قدمًا في تنفيذ اتفاقها مع إقليم "أرض الصومال"[2].  وهو ما يعكس حجم الخلافات التي تربط بين دول المنطقة، وربما يسهم استخدام هذا السلاح في تأجيجها وتحولها إلى صراعات مسلحة محتملة.

3- تصاعد الخطاب التحريضي: تعكس الخطابات التحريضية التصعيدية العدائية بين بعض دول المنطقة خلال الفترة الماضية مناخًا ملائمًا لاشتعال حرب إقليمية في القرن الأفريقي. فقد فجرت تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد حول إصرار إثيوبيا على الوصول إلى البحر الأحمر باعتباره ضرورة وجودية، سلسلة التوترات الإقليمية مع كل من إريتريا والصومال وجيبوتي[3]، لا سيما أنها اعتُبرت بمثابة إعلان حرب كما وصفها الرئيس الإريتري أفورقي، كونها تكشف عن النوايا الإثيوبية التوسعية في دول جوارها الإقليمي؛ بما يهدد سيادتها الوطنية على سواحلها البحرية وموانئها الاستراتيجية، وهو ما دفع الرئيس الجيبوتي إلى القول بأن جيبوتي ليس جزيرة القرم، في إشارة إلى رفضه للوجود الإثيوبي البحري على أراضيه.

وقد تصاعدت التصريحات العدائية بين أديس أبابا وأسمرة بعدما وعد آبي أحمد في سبتمبر 2025 باستعادة الاستيلاء على ميناء عصب الإريتري، فيما اعتبره بمثابة "تصحيح خطأ تاريخي"، وهو ما أثار استياء الجانب الإريتري الذي اعتبرها دعوة صريحة للحرب، وبداية لأزمات جديدة ستكون عواقبها كارثية على مستقبل منطقة القرن الأفريقي، لا سيما أن تلك التصريحات تأتي في ظل استعدادات عسكرية يقوم بها الطرفان منذ شهور مضت.

4- تحالفات إقليمية وداخلية متغيرة: هناك تحولات دراماتيكية تطرأ على التحالفات الإقليمية التي باتت تتسم بالتغير خلال الفترة الأخيرة في القرن الأفريقي. إذ سرعان ما تحول التحالف المقدس بين آبي أحمد وأفورقي الذي استمر أربع سنوات تقريبًا (2018- 2022) إلى تجدد العداء التاريخي بينهما منذ توقيع اتفاق بريتوريا في 2022، وهو ما دفع أسمرة للتوجه نحو محور (مقديشو – القاهرة) في محاولة للضغط على إثيوبيا من أجل التراجع عن ممارساتها الإقليمية التي تهدد أمن واستقرار دول المنطقة. وفي سياق متصل، أعلنت الحكومة الصومالية انضمام مصر إلى بعثة الاتحاد الأفريقي لدعم الاستقرار في الصومال (أوصوم) التي بدأت مهام عملها في يناير 2025، في تطور نوعي يكشف حجم التحول في دينامية التحالفات الإقليمية في القرن الأفريقي، وسط تكهنات بأن يؤدي تشابك تلك التحالفات إلى إعادة تشكيل المشهد الإقليمي في المنطقة وبالتالي توازنات القوة بين دولها[4].

وعلى الصعيد المحلي، يبدو المشهد السياسي الإثيوبي أكثر دراماتيكية، في ضوء ما يشهده من تحولات مستمرة في مسار التحالفات السياسية بين الأطراف الرئيسية في الساحة الإثيوبية. فقد استمر تحالف آبي أحمد مع قومية أمهرة منذ صعوده إلى الحكم في البلاد في عام 2018 حتى انتهاء الحرب الإثيوبية على تيجراي في 2022. وما أن تحولت العلاقة إلى عداء وقطيعة بينهما، اتجه آبي أحمد للتحالف مع قومية أورومو، كما احتضن فصيل غيتاتشو رضا في إقليم تيجراي بهدف تفكيك جبهة تحرير تيجراي لضمان عدم استعادة قوتها ونفوذها السياسي في الداخل الإثيوبي. بينما تقاربت ميلشيا فانو الأمهرية مع النظام الإريتري، الذي عزز تقاربه أيضًا مع جبهة تحرير تيجراي- فصيل ديبرتسيون جبريمايكل، بعدما كانت الخصم اللدود التاريخي لها. وتظل هذه التحالفات تكتيكية مؤقتة، ومن المرجح أن تزول فور تحقيق كل طرف أهدافه الاستراتيجية بما يحقق مصالحه الحيوية.

5- سباق التنافس على منفذ بحري: تمثل محاولات إثيوبيا للوصول إلى البحر الأحمر أحد أبرز دوافع تصاعد التوترات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي. وذلك في ظل المخاوف لدى دول المنطقة من النمط التوسعي الإثيوبي الذي تعكسه تصريحات آبي أحمد على مدار العامين الماضيين بشأن حتمية الحصول على منفذ بحري للتغلب على معضلة الدولة الحبيسة بالنسبة لإثيوبيا، وهو ما أدى إلى توتر العلاقات بين إثيوبيا وكل من الصومال وإريتريا التي تكثف استعداداتها العسكرية تحسبًا لأي مواجهة عسكرية محتملة مع أديس أبابا.

من جانب آخر، يطرح إقليم "أرض الصومال" باستمرار فرصة الحصول على منفذ بحري في ميناء بربرة في مقابل الحصول على الاعتراف الدولي، وهو ما يواجهه الصومال بكل حزم كما هو الحال في حالة إثيوبيا. كما عرضت إدارة إقليم "أرض الصومال" على الولايات المتحدة بناء قاعدة عسكرية في ميناء بربرة والسيطرة على الموارد والثروات الطبيعية هناك بما في ذلك الليثيوم، مقابل نيل الاعتراف الأمريكي بالإقليم، وهو ما دفع الحكومة الصومالية في مارس 2025 إلى تقديم عرض موازٍ لواشنطن يتضمن السيطرة الحصرية على قواعد جوية وموانئ بحرية صومالية. وذلك في محاولة لتعطيل أي تطور في العلاقات بين الطرفين، ووضع الإدارة الأمريكية في موقف حرج أمام المجتمع الدولي إذا دعمت النزعات الانفصالية على حساب وحدة وتماسك الدولة الصومالية، وهو ما نجحت فيه الإدارة الصومالية على الأقل حتى الوقت الراهن. ومن المتوقع أن يستمر السباق الإقليمي والدولي على المنافذ البحرية في القرن الأفريقي في ضوء تنامي الأهمية الاستراتيجية للمنطقة وبخاصة قربها من مسرح الأحداث في البحر الأحمر والشرق الأوسط.

6- تصاعد النشاط الإرهابي: يُضاعف توسع نشاط تنظيم داعش في ولاية بونت لاند بالصومال من مخاطر تهديدات الإرهاب في الصومال وانعكاساته السلبية على أمن واستقرار دول الجوار الإقليمي في القرن الأفريقي، بالإضافة إلى تهديد أمن الملاحة البحرية في البحر الأحمر. فلا تزال حركة الشباب المجاهدين تنشط في وسط وجنوب الصومال، وما يشكله ذلك من تهديد متنامٍ لدول المنطقة، وفي مقدمتها كينيا التي تشهد تمددًا لعناصر حركة الشباب الذين يتورطون في تنفيذ عدد من الضربات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة.

وتمثل محاولات الحركات الإرهابية في القرن الأفريقي نسج شبكات اتصال وعلاقات ارتباطية مع بعض الحركات المسلحة في الجوار الإقليمي بمثابة تهديد وجودي لأمن واستقرار المصالح الدولية الاستراتيجية في المنطقة. إذ تشير تقارير أممية إلى وجود صلات تربط بين تنظيم داعش وحركة الشباب المجاهدين من جهة، وجماعة الحوثي اليمنية المدعومة من إيران من جهة أخرى، حيث تم رصد إرسال الأخيرة أسلحة إلى القرن الأفريقي عبر البحر الأحمر، وهو ما قد يحول المنطقة إلى نقطة ارتكاز لمرور الأسلحة والدعم المالي واللوجستي لبقية التنظيمات الإرهابية في العمق الأفريقي لا سيما في وسط وغرب القارة بما في ذلك منطقة الساحل التي ترتبط استراتيجيًّا مع القرن الأفريقي[5].

7- تنافس دولي مستمر: تكتسب منطقة القرن الأفريقي باستمرار المزيد من الاهتمام من قبل الأطراف الدولية، بما تتميز به من مقومات جغرافية واستراتيجية واقتصادية وغيرها جعلتها على رأس أجندات القوى الفاعلة والطامحة للعب دور بارز في المنطقة. ويحتدم التنافس بين الولايات المتحدة والصين هناك بشكل أساسي، في ظل رغبة كل طرف في تأكيد نفوذه على حساب الطرف الآخر، وهو ما دفع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى دعم وجود القوات الأمريكية في القرن الأفريقي -وذلك عكس سياسته في فترة ولايته الأولى 2017- ولعب دور بارز في مواجهة الإرهاب في الصومال، وذلك بهدف عدم ترك الساحة للاعب الصيني أو الروسي لتوسيع نفوذهما على حساب واشنطن. ومع ذلك، لا تزال السياسة الأمريكية في القرن الأفريقي غير واضحة المعالم، باستثناء المضي قدمًا نحو تطويق النفوذين الصيني والروسي هناك[6].

في سياق متصل، يتوسع نفوذ بعض اللاعبين الإقليميين في ساحة القرن الأفريقي خلال السنوات الأخيرة لا سيما تركيا والإمارات، حيث تعد كل من إثيوبيا والصومال بمثابة نقطتي ارتكاز رئيسيتين لخلق نفوذهما في المنطقة في ضوء العلاقات المتطورة بين الطرفين. ومن ثم؛ التمدد إلى العمق الأفريقي من خلال عدد من المداخل الاستراتيجية، على رأسها المدخل الاقتصادي بما في ذلك دبلوماسية الاستثمارات، التي باتت مدخلًا فاعلًا لتعزيز النفوذ الإقليمي في الساحة الأفريقية.

محفزات اندلاع حرب محتملة

فرضت الأزمة الراهنة بين إثيوبيا وإريتريا نفسها على الساحة الإقليمية في القرن الأفريقي، وذلك في ضوء التكهنات بالتصعيد وصولًا إلى اندلاع حرب إقليمية واسعة بين الطرفين مع احتمال انخراط أطراف أخرى بما يؤجج الصراع في المنطقة.

ولا يمكن التسليم بأن الأطماع الإثيوبية البحرية التي تجلت في تصريحات رئيس الوزراء آبي أحمد منذ أكتوبر 2023 بشأن الضرورة الحتمية للوصول إلى البحر الأحمر، تشكل وحدها الدافع الرئيسي لتفاقم التوتر بين البلدين. بل يمكن القول إن الخلاف بين الحليفيْن السابقيْن قد بدت ملامحه تتشكل في أواخر عام 2022 مع توقيع حكومة آبي أحمد اتفاق بريتوريا في نوفمبر 2022، الذي أنهى القتال العنيف مع جبهة تحرير تيجراي، والذي تعمد فيه الأخير تهميش حليفه أفورقي، الذي سعى بشكل رئيسي من خلال تورطه في هذه الحرب إلى القضاء بشكل نهائي على الجبهة التي مثلت خصمًا لدودًا وتهديدًا وجوديًّا لنظامه الحاكم في أسمرة منذ تسعينيات القرن الماضي، وهو ما أدى إلى انهيار التحالف بينهما الذي لم يتجاوز نحو 4 سنوات تقريبًا.

وسرعان ما تحول الخلاف المكتوم بين الطرفين إلى توتر متصاعد، حيث انخرط كل طرف في عدد من الإجراءات التي أسهمت في تدني مستوى العلاقات بين البلدين إلى درجة القطيعة خلال الفترة الأخيرة، وأضحت في ذات الوقت بمثابة محفز لاندلاع حرب إقليمية بين أديس أبابا وأسمرة.

إذ ترى أديس أبابا أن أسمرة متورطة في صراعات المنطقة، وأن الرئيس أفورقي مهووس بإشعال النزاعات والصراعات الإقليمية، وأنه يرى السلام الإقليمي يمثل عقبة أمام تطلعاته لتوسيع نفوذه الإقليمي في القرن الأفريقي.

لذلك، سارعت الحكومة الإثيوبية إلى إطلاق المزيد من التصريحات التي تتهم فيها إريتريا بالتحضير للهجوم على البلاد، حيث عكس خطاب آبي أحمد في 3 يوليو 2025 نوايا أديس أبابا تجاه أسمرة، إذ حمّل جبهة تيجراي مدعومة من إريتريا مسئولية أي عودة للصراع العسكري، وهو ما دفع الحكومة الإريترية لاتهام حكومة آبي أحمد باتباع أجندة تعتزم من خلالها الاستيلاء على الموانئ الإريترية عسكريًّا. كما أرسلت أديس أبابا خطابًا إلى الأمم المتحدة في 20 يونيو 2025 اتهمت فيه الجانب الإريتري وجبهة تحرير تيجراي بالتآمر للقيام بأعمال هجومية خلال موسم الأمطار الذي يستمر عادة من منتصف يونيو 2025 إلى منتصف سبتمبر 2025. كما أشار غيتاتشو رضا، مستشار رئيس الوزراء الإثيوبي لشئون شرق أفريقيا، في 21 يوليو 2025 إلى أن النتيجة المتوقعة من تحالف إريتريا وجبهة تحرير تيجراي هي تجدد إعلان الحرب على الشعب الإثيوبي[7]. وربما يُنظر إلى رسالة وزير الخارجية الإثيوبي، جيديون تيموثيوس، إلى نظيره الأمريكي، ماركو روبيو، في يوليو 2025 التي تضمنت اتهامات إثيوبية للجانب الإريتري باستفزازات متكررة ودعم للحركات المسلحة المعارضة بما يهدد الأمن الإقليمي، باعتبارها إذن إثيوبي لضوء أخضر أمريكي لشن حرب إثيوبية على إريتريا، وهو ما يعمق الأزمة في القرن الأفريقي.

في المقابل، ترى أسمرة أن تصريحات القادة في إثيوبيا حول ضرورة الوصول للبحر الأحمر وبخاصة عبر ميناء عصب الإريتري، يعكس المساعي الإثيوبية لمحاولة جرِّ أسمرة إلى حرب إقليمية مدمرة. فقد اتهم الرئيس أفورقي في 19 يوليو 2025 أديس أبابا بالتجهيز للحرب، ووصف طموح آبي أحمد بالحصول على ميناء بحري بأنها "خطة رجل مجنون". وشدد أفورقي على أن بلاده لا تطمح لشن حرب، لكن إذا فُرضت عليها فهي تعرف كيف تدافع عن نفسها. كما وجه الرئيس الإريتري في 24 مايو 2025 اتهامًا للجانب الإثيوبي بارتكاب أعمال تخريب علنية وسرية، وهو ما رفضته حكومة أديس أبابا متهمة أسمرة بالتدخل في السيادة الإثيوبية. ومع تصعيد الخطاب المتبادل بين الطرفين بما يعكس أن المنطقة تسير نحو طريق الحرب، فقد أصدرت الحكومة الإريترية في فبراير 2025 توجيهات للتعبئة العسكرية لمن لا يتجاوز عمره عن 60 عامًا، بالإضافة إلى استدعاء جنود الاحتياط في الجيش الإريتري[8].

وفي تطور لافت، صوتت إثيوبيا في يوليو 2025 ضد طلب إريتري إنهاء مهمة المقرر الخاص للأمم المتحدة لحالة حقوق الإنسان في إريتريا. ويُظهر التصويت الإثيوبي تحولًا جذريًّا في النهج الدبلوماسي نحو أسمرة منذ توقيع اتفاق السلام الإقليمي في عام 2018.

كما تحتضن إثيوبيا عناصر الجبهة الثورية الزرقاء الإريترية المعروفة باسم "لواء نحميدو"، وهي جبهة معارضة أسست مكتبًا جديدًا لها في أديس أبابا، وكانت قد عقدت مؤتمرًا في يناير 2025 بهدف محاولة إسقاط النظام الحاكم في أسمرة. وتأتي الخطوة الإثيوبية في رد على تورط الجانب الإريتري في دعم عناصر من المعارضة الإثيوبية خاصة في إقليمي أمهرة وأوروميا، لا سيما الدعم اللوجستي الذي يقدمه الجيش الإريتري إلى مليشيا فانو الأمهرية التي تقاتل القوات الحكومية الإثيوبية منذ أغسطس 2023، خاصة أنه يُنظر إليه كنوع من الضغط الإريتري غير المباشر على الحكومة الإثيوبية، وهو ما يعني أن الحرب بالوكالة بين البلدين قائمة، ومرشحة للزيادة في ضوء استمرار وتوسع دائرة التوترات بين البلدين خلال الفترة المقبلة.

كما تتهم أديس أبابا حكومة أفورقي بالسعي لمحاصرتها في إقليم تيجراي، وذلك في ضوء العلاقة التي تربط النظام الإريتري مع جبهة تحرير تيجراي (فصيل ديبرتسيون جبريمايكل)، بما يعزز دعم أسمرة للجبهة؛ بهدف السيطرة على إدارة جنوب تيجراي، خاصة بعدما أعلن جبريمايكل في مايو 2025 نية الجبهة تأكيد السيطرة الإدارية على منطقة جنوب تيجراي والتخلص من إدارتها، في ضوء مساعي حكومة آبي أحمد لتقسيم الإقليم إلى ثلاث مناطق مستقلة.

وفي الوقت الذي أكد فيه آبي أحمد أن بلاده أخطأت بالتخلي عن الوصول للموانئ البحرية في إريتريا، وأن تصحيح الخطأ هو مسألة وقت، يشير الإريتريون إلى أن استقلال بلادهم جاء بعد حرب استمرت ثلاثة عقود أطاحت خلالها بنظامي هيلا سيلاسي ومانجستو في إثيوبيا، وهو ما يعكس تحذيرًا إريتريًّا مستترًا من تورط الجانب الإثيوبي في أي مشروع عسكري محتمل ربما يعجل بانهيار نظام آبي أحمد[9].

تحركات تكتيكية

يصاحب الخطاب التصعيدي من جانب إثيوبيا وإريتريا الذي أسهم في تعميق التوتر بين البلدين خلال الفترة الأخيرة، تحركات تكتيكية يقوم بها الطرفان في محاولة لتعزيز قدراتهما وحضورهما العسكري بالقرب من الحدود المشتركة. وتتمثل أبرز تلك التحركات في مسارين أساسيين هما؛ حشد واستمالة المزيد من الحلفاء والشركاء المحليين، والحشد والتعبئة العسكرية بما في ذلك تعزيز التجهيزات اللوجستية للقوات من الجانبين.

وتتزايد التكهنات حول اندلاع الحرب المحتملة في ساحتين للقتال هما إقليم تيجراي شمال إثيوبيا، ومنطقة عصب في إريتريا، حيث أن ميناء عصب يمثل رمزًا استراتيجيًّا كأحد أبرز أسباب قيام الحرب الإثيوبية-الإريترية (1998- 2000)، كما يُنظر إلى عصب باعتبارها نقطة اشتعال محتملة للحرب في هذه المرحلة، مع احتمال تمدد القتال المحتمل إلى منطقة عفر شرق إثيوبيا بالقرب من الحدود المشتركة مع إريتريا. إذ ربما تصبح منطقة عفر المحور التالي للمنافسة العسكرية بين إريتريا وإثيوبيا، بما يجذب الأطراف الإقليمية إلى مواجهة عسكرية مفتوحة تغذيها تمدد وتداخل قومية عفر إثنيًّا في دول إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي، بما يجعل منطقة عفر مسرحًا مثاليًّا للحرب المباشرة وكذلك الحرب بالوكالة بين الطرفين[10].

ومع ذلك، تشير تقارير إلى صعوبة قيام الحرب في عصب الإريترية وضواحيها، ما قد يدفع أسمرة لنقل جبهة القتال إلى إقليم تيجراي -الذي يعد الساحة الأكثر ترجيحًا لاستقبال الحرب المحتملة المقبلة- مستفيدة من علاقتها مع جبهة تحرير تيجراي، خاصة عقب انسحاب القوات الإثيوبية من الحدود الشمالية الإثيوبية المشتركة مع إريتريا، بما قد يخفف الضغوط على الجيش الإريتري ليعزز قواته عند الحدود المشتركة مع إقليم عفر، الذي ربما يتفجر فيه القتال المحتمل بين الطرفين الإثيوبي والإريتري، وذلك في ضوء احتضانه مجموعات معارضة إريترية وفصيل من إقليم تيجراي، ربما تستفيد منه الحكومة الإثيوبية في قتالها ضد القوات الإريترية، وهو ما قد يزيد من تعقيد المشهد الأمني الهش في الداخل الإثيوبي، وبالتبعية في منطقة القرن الأفريقي.

وفي هذا الصدد، تسعى حكومة آبي أحمد إلى حشد معظم أبناء قومية عفر، للانخراط في الحرب المحتملة حال اندلاعها، مستغلة في ذلك التداخل الإثني لقومية عفر في إريتريا وكذلك جيبوتي، وبالتالي أحقيتها في الوصول إلى البحر الأحمر. ومن هنا، تقدم الحكومة الإثيوبية الدعم للجماعات العفرية المعارضة للنظام الإريتري، بحيث تمنحها مكاتب ومساحة حرية للعمل في إقليم عفر، ومن أبرز تلك الجماعات منظمة البحر الأحمر الديمقراطية في عفر، والمؤتمر الوطني الإريتري للعفر.

بينما تشير تقارير إلى رغبة بعض الدوائر في منطقة عفر للتماهي مع الجانب الإريتري، يدفعها في ذلك إخفاقات سياسات النظام الإثيوبي إزاء الإقليم خلال السنوات الأخيرة. فقد انشق حاجي إبراهيم، أحد القيادات العسكرية في إقليم أمهرة، إلى جانب وحدة خاصة من القوات الخاصة العفرية، يصل عددها إلى 300 عنصر، بعد خلافات مع الحكومة الفيدرالية التي اتهمها بإهمال منطقة شمال عفر خلال حرب تيجراي وما بعدها، والضغط على قادة عفر للتنازل عن الأراضي للإقليم الصومالي الإثيوبي، وهو ما يعزز الشكوك حول ولاء القوات الخاصة العفرية لمدربيها الإريتريين والانخراط في الحرب إلى جانب أسمرة ضد القوات الإثيوبية في حال اندلاعها. ومع ذلك تقوم إريتريا بإعادة تمركز قواتها على طول حدود إقليم عفر استعدادًا لأي معركة محتملة قادمة في المنطقة[11].

ومع تقارب النظام الإريتري مع جبهة تحرير تيجراي، فيما يعرف بتحالف Tsimdo الذي بات يشكل تهديدًا استراتيجيًّا لآبي أحمد، خاصة أنه في حالة تطوره لتحالف ملموس، من المرجح أن يلعب دورًا في الحيلولة دون قدرة آبي أحمد على الضغط عسكريًّا على إريتريا أو تيجراي. وربما يفتح هذا التحالف المجال أمام استقطاب أطراف داخلية في إثيوبيا مثل ميلشيا فانو في أمهرة المتحالفة مع أسمرة، التي ربما تنجح في تجاوز حليفيْها الجديدين (تيجراي وأمهرة) للخلافات القائمة بينهما على مدار السنوات الماضية، وهو ما قد يحد من قدرة آبي أحمد العسكرية في المنطقة، وربما يدفعه نحو إعادة التفكير جيدًا في بدء حرب شاملة في الشمال الإثيوبي مع احتمال توسعها إقليميًّا في الأراضي الإريترية[12].

على صعيد آخر، يسعى كل طرف إلى الاستعداد جيدًا على الصعيد العسكري، تحسبًا لأي تصعيد عسكري محتمل في أي وقت. ففي يوليو 2023، تم رصد نقل القوات الإثيوبية أسلحة ثقيلة إلى المناطق الشرقية من البلاد بالقرب من الحدود المشتركة مع إريتريا على مسافة قريبة من عصب. وشهدت الشهور الأخيرة حشدًا وتعبئة عسكرية من الطرفين الإثيوبي والإريتري على جانبي الحدود المشتركة بين البلدين؛ مما أدى إلى تعميق الشكوك المتبادلة بينهما.

 وفي تطور نوعي ربما يهدف إلى حشد الميلشيات المسلحة في إقليم تيجراي من أجل تطويق جبهة تحرير تيجراي وزعزعة الاستقرار في الإقليم تمهيدًا لتفكيكه بما يمثل مصلحة استراتيجية لآبي أحمد ونفوذه السياسي في البلاد، فقد قامت حكومة أديس أبابا بتسليح بعض الميلشيات المسلحة مثل ميلشيا Tekeze Zeb في غرب تيجراي، ودعمت بشكل سري متمردي تيجراي في منطقة عفر، وهو ما يتعارض مع اتفاق بريتوريا.

كما تنخرط إثيوبيا في نشاط استخباراتي موسع يركز بالأساس على مراقبة مسار الصراع المسلح في السودان، ورصد خريطة انتشار وتحركات الحركات الإرهابية في القرن الأفريقي، ومراقبة التحركات والتوغلات الإريترية في الداخل الإثيوبي وعند الحدود المشتركة، بالإضافة إلى محاولات منع تدفق الأسلحة غير المشروعة عبر السودان وإريتريا وحتى جيبوتي. إلى جانب السعي لحماية شبكة الممرات التجارية التي تربط إثيوبيا مع مناطق الجوار الإقليمي. ولعل مذكرة التفاهم التي وقعتها أديس أبابا مع طهران بشأن التعاون الاستخباراتي توضح تركيز إثيوبيا المتزايد على بناء شبكة أمنية قوية ربما تستفيد منها في مواجهة خصومها المحليين والإقليميين في القرن الأفريقي[13].

ومع ذلك، تظل هذه التحركات بين الجانبين الإثيوبي والإريتري مؤشرًا دالًا على تصعيد التوتر بين البلدين، لكنها ليست دليلًا على قرب اندلاع الحرب الإقليمية في القرن الأفريقي، لا سيما أن الطرفين المتنازعين يؤكدان في أكثر من مناسبة خلال الفترة الأخيرة أنهما لا يرغبان في التورط في صراع عسكري بالمنطقة.

حسابات الأطراف الفاعلة

تبدو حسابات الأطراف الفاعلة في المشهد الإقليمي الراهن بالقرن الأفريقي متباينة في ضوء تضارب المصالح والأهداف الاستراتيجية لكل منها، ويمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:

1- إثيوبيا: بات آبي أحمد يدرك أن الرئيس أفورقي أصبح عائقًا أمام وصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر عبر موانئ إريتريا وبخاصة ميناء عصب الاستراتيجي بالنسبة لأديس أبابا لقربه الجغرافي منها. ومن ثم، إن وصول إثيوبيا لميناء عصب يتطلب التخلص من نظام الرئيس أفورقي، وربما يرى آبي أن الحل الوحيد هو اندلاع حرب تستطيع من خلالها إثيوبيا استعادة فرض سيطرتها على موانئ إريتريا بالقوة، إلا أن الأمر يبدو صعبًا في هذه المرحلة التي بدأت تطرأ عليها مستجدات وتغيرات استراتيجية ربما تسهم في قلب توازنات القوة العسكرية في المنطقة -ولو نسبيًّا- لغير صالح إثيوبيا، ومن أبرزها التقارب الواضح بين الرئيس أفورقي وجبهة تحرير تيجراي (فصيل ديبرتسيون جبريمايكل) والمخاوف الإثيوبية من تحالفهما ضد القوات الحكومية، خاصة مع احتمال انضمام أطراف أخرى داخلية وخارجية إليهما. كما أن الجيش الإثيوبي يبدو مستنزفًا من سلسلة مواجهاته العسكرية خلال الفترة الأخيرة في مناطق القتال المختلفة مع ميلشيات مسلحة تابعة لكل من أمهرة وأوروميا، وهو امتداد طبيعي لتداعيات ما بعد حرب تيجراي الأخيرة، بما يعزز التخوفات لدى آبي أحمد من صعوبة المواجهة العسكرية مع خصومه الاستراتيجيين، وتداعياته المحتملة التي ربما تعمق الأزمات في المنطقة[14].

وإن كانت التكهنات باندلاع حرب مع إريتريا من شأنها تعزيز مكاسب آبي أحمد السياسية في الداخل الإثيوبي، بما في ذلك تعزيز نفوذه السياسي وإعادة بناء شرعيته المتراجعة بشكل واضح خلال الفترة الماضية. بالإضافة إلى تحييد المعارضة الإثيوبية، كما أنها فرصة جيدة لحشد الأطراف الداخلية في إثيوبيا لدعم الحكومة الفيدرالية التي تستعد لخوض سباق الانتخابات التشريعية في عام 2026.

وبالرغم من نجاح حكومة آبي أحمد في تقسيم جبهة تحرير تيجراي بهدف تطويقها والقضاء على نفوذها السياسي والعسكري في المشهد الإثيوبي، لضمان التخلص من خصم عنيد بالنسبة لآبي أحمد، لا سيما بعد إخفاقه في القضاء عليها عسكريًّا عقب الحرب الأخيرة في إقليم تيجراي، إلا أنه يخشى انضمام الجبهة للقتال إلى جانب النظام الإريتري، بما قد يهدد توازنات القوة العسكرية لصالح أسمرة، وهو ما قد يدفع آبي أحمد إلى إعادة التفكير في البدء بشن حرب إقليمية ضد إريتريا وخصومه الاستراتيجيين في الداخل الإثيوبي.

ولن يثني ذلك أديس أبابا عن مساعيها الحثيثة في الوصول إلى مياه البحر الأحمر، خاصة أن هدفها الاستراتيجي مرتبط بمصالح بعض الأطراف الإقليمية التي فشلت في إيجاد موطئ قدم لها في بعض دول المنطقة مثل جيبوتي وإريتريا، وهو ما قد يجد ممانعة إقليمية مستمرة في ضوء المخاوف من تهديد الأمن والاستقرار الإقليمي ومصالح بعض الأطراف الفاعلة في القرن الأفريقي[15].

2- إريتريا: تسعى أسمرة إلى حماية سيادتها الوطنية الكاملة على موانئها البحرية، من خلال التأكيد على رفضها لأي وجود إثيوبي على سواحلها البحرية في ميناء عصب الإريتري الاستراتيجي، وهو ما يدفعها باستمرار للتحذير من أي خطوة إثيوبية غير محسوبة قد تؤدي إلى زعزعة استقرار القرن الأفريقي.

ومع اتساع الخلاف بين إثيوبيا وإريتريا منذ إعلان آبي أحمد عن طموح بلاده في تأمين الوصول إلى البحر الأحمر، وهي خطوة فسرتها أسمرة على أنها تحدٍّ مباشر لها. الأمر الذي يدفعها إلى العمل على تقويض الداخل الإثيوبي في محاولة لزعزعة الاستقرار هناك، وذلك من خلال مساعي تأسيس كتلة داخلية مناهضة لحكومة آبي أحمد، وعلى رأسها ميلشيا فانو الأمهرية، وجبهة تحرير تيجراي (فصيل ديبرتسيون جبريمايكل). فلا يزال الرئيس أفورقي يتخوف من تنامي النفوذ الإثيوبي في المنطقة، بما قد يهدد أركان حكمه، لا سيما أن الجانب الإثيوبي يراه بمثابة عقبة أمام تحقيق إثيوبيا لأهدافها الاستراتيجية وفي مقدمتها الوصول إلى البحر الأحمر عبر ميناء عصب الإريتري[16].

3- جبهة تحرير تيجراي: تدرك الجبهة أنها لا تزال رقمًا صعبًا في المعادلة السياسية الإثيوبية، وأيضًا في المعادلة الإقليمية بالقرن الأفريقي، خاصة أنها باتت تشكل مصدر خطر لآبي أحمد في ضوء علاقاتها المتميزة مع النظام الإريتري الحاكم خلال الفترة الأخيرة، والذي أضحى واقعًا سياسيًّا ربما يترتب عليه إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في القرن الأفريقي.

وفي ضوء مساعي آبي أحمد لضمان تقويض جبهة تيجراي ونفوذها السياسي والعسكري الذي يتحدى حكمه منذ عام 2018، تجد الجبهة نفسها بحاجة إلى حليف إقليمي جديد لكي تفرض المزيد من الضغوط السياسية على الحكومة الإثيوبية، وضمان عدم تعرضها لحرب جديدة من قبل نظام آبي أحمد. ويمثل التحالف مع الجانب الإريتري هو الخيار الأمثل لجبهة تحرير تيجراي، نظرًا لما يعنيه بانهيار التحالف السابق بين أسمرة وأديس أبابا، وبالتالي ضمان عدم شن حملة عسكرية مزدوجة محتملة على الإقليم في المستقبل. وربما يسهم تحالف تيجراي مع أسمرة في الإطاحة بنظام آبي أحمد، على غرار التحالف الإريتري الإثيوبي للتخلص من نظام مانجستو (الدرج) في عام 1991، وهو ما قد يعكس أهمية التحالف الجديد Tsimdo الذي يستهدف تعزيز التضامن بين شعب تيجراي وإريتريا[17].

ومع ذلك، تتخوف جبهة تحرير تيجراي من الإجراءات التي تدعمها حكومة آبي أحمد إزاء الإقليم من أجل تقسيمه، حيث تسعى الإدارة المؤقتة الجديدة لإقليم تيجراي المدعومة من أديس أبابا إلى استيعاب كل مطالب التقسيم بالإقليم، بما في ذلك السماح ضمنيًّا لزعيم منطقة تيجراي الجنوبية بإعلان منطقة جديدة. كما دعمت تأسيس ميلشيا Tekeze Zeb في غرب تيجراي، وهو ما يعد سابقة خطيرة تنذر بتفكيك وتقسيم منطقة تيجراي إلى ثلاث مناطق جديدة، وهو ما يعني إضعاف الإقليم وتهميشه، بما يعزز قوة وسيطرة الحكومة الإثيوبية في الإقليم، الأمر الذي يعمق تعقيد المشهد السياسي الإثيوبي[18].

مستقبل ضبابي

يبدو أن إثيوبيا باتت تطمح للعب دور -بإيعاز من أطراف دولية وإقليمية ذات مصالح حيوية في القرن الأفريقي- يهدف إلى محاولة إعادة هندسة الجغرافيا السياسية لمنطقة القرن الأفريقي، حيث أن أصداء الطموحات الإمبريالية لإثيوبيا تطل من جديد في عهد آبي أحمد، الذي أصدر تصريحات مثيرة للجدل بشأن ضرورة إصلاح أخطاء الماضي باستعادة ميناء عصب مرة أخرى. بما يعكس طموحات آبي أحمد التي ربما تكون أبعد من مجرد الاستيلاء على ميناء عصب، ليتجاوزه إلى رغبته في الهيمنة الكاملة على القرن الأفريقي، مستفيدًا في حالة قيام حرب مع إريتريا من الدعم الدولي المتوقع على غرار مساندته في حرب تيجراي الأخيرة، ومحاولة إقناع بعض الأطراف الإثيوبية الداخلية مثل قومية عفر بمساندة الجيش الإثيوبي في مواجهته العسكرية المحتملة مع إريتريا.

في المقابل، تدرك إريتريا جيدًا مطامع وطموحات النظام الإثيوبي، وهي تعبر عن مخاوفها باستمرار من مخاطر التوسع الإثيوبي، ما يدفعها نحو محاولة تأسيس منطقة عازلة استراتيجية بينها وبين أديس أبابا عبر تحالفها مع جبهة تحرير تيجراي (فصيل ديبرتسيون جبريمايكل) في إقليم تيجراي، وهو ما يعكس انعدام الثقة بين الحليفيْن السابقيْن، بما قد يترتب عليه تفاقم الخلاف الإقليمي بينهما، وربما اندلاع صراع عسكري في القرن الأفريقي.

وحول قدرة الطرفين الإثيوبي والإريتري على خوض حرب إقليمية واسعة؛ فإن ميزان القوة العسكرية يميل بالطبع إلى إثيوبيا باعتبارها أحد أبرز القوى العسكرية في القرن الأفريقي بشكل خاص وأفريقيا بشكل عام، وفقًا لتقديرات دولية؛ بما قد يرجح كفة أديس أبابا حال اندلاع الحرب. إلا أن هناك تحولات تكتيكية قد تغير موازين القوة على الأرض، في مقدمتها قدرة إريتريا على استثمار تحالفاتها سواء في الداخل الإثيوبي لا سيما جبهة تحرير تيجراي وميلشيا فانو الأمهرية، خاصة أن الوعود المتبادلة بين أفورقي وديبرتسيون جبريمايكل، زعيم جبهة تيجراي، تضمنت وعدًا بحماية أفورقي في حالة نشوب حرب مع أديس أبابا، في مقابل اعتراف إريتري باستقلال تيجراي، واحتمال منحها منفذ بحري يعزز تواصلها مع العالم الخارجي. كما يمكن لإريتريا الاستعانة ببعض الأطراف الإقليمية التي ربما تزودها بالدعم اللوجستي والعسكري عبر بعض دول جوارها الإقليمي المباشر، وهو ما يشكل خطرًا على إثيوبيا التي تدرك تداعيات ذلك في ضوء الاستنزاف الذي يتكبده الجيش الإثيوبي في ساحات المعارك المتفرقة في أنحاء البلاد مع ميلشيا فانو الأمهرية وجيش تحرير أورومو في إقليم أوروميا، وجبهة تحرير تيجراي في الشمال الإثيوبي.

ويشير ذلك إلى أنه لا يمكن لأي طرف من طرفي الصراع أن يتغلب عسكريًّا على الطرف الآخر منفردًا، وهو ما قد يعزز دور العامل الخارجي في حسم الأمر عسكريًّا بين إثيوبيا وإريتريا، وهو الأمر الذي يحوّل القرن الأفريقي إلى ساحة للحرب بالوكالة، وما قد يترتب على ذلك من تداعيات أمنية خطيرة على أمن واستقرار المنطقة.

ومع ذلك، تتزايد المخاوف الدولية من أن اندلاع أي حرب محتملة في القرن الأفريقي، ربما يقوّض سنوات من الاستثمار في الاستقرار الإقليمي. ومن شأن ذلك أن يولد موجات جديدة من زيادة اللاجئين الأفارقة إلى أوروبا، كما أنه قد يعطل عمليات مكافحة الإرهاب، ويفاقم الأوضاع الإنسانية في المنطقة.

إجمالًا، يدرك الجميع في القرن الأفريقي أن تكلفة أي حرب محتملة قادمة ستكون باهظة، ومع ذلك من الوارد أن يغلب آبي أحمد وأفورقي طموحاتهما الشخصية لتحقيق أهدافهما الاستراتيجية في المنطقة على حساب مصالح بلديهما. فلا يزال كل طرف يحشد حلفاءه الداخليين والدوليين تمهيدًا لنقطة اشتعال الحرب هناك. وإن كان الأمر يظل مرهونًا بعدد من العوامل المهمة على رأسها موقف المجتمع الدولي بما في ذلك القوى الفاعلة الكبرى بشأن مخاطر احتمال اندلاع صراع إقليمي في المنطقة وتأثيره على المصالح الاستراتيجية الدولية هناك، الأمر الذي ربما يرجح ممارسة القوى الدولية سلسلة من الضغوط الدولية على الجانبين الإثيوبي والإريتري من أجل التراجع عن أي خطط عسكرية تؤدي إلى حرب إقليمية في القرن الأفريقي خلال الفترة المقبلة.


[1]. The Horn Review, Ethiopia’s Red Sea Ambitions: Sovereignty, Regional Rivalries, and Geostrategic Implications, 30 July 2025, accessible at: https://tinyurl.com/33xtxj42

[2]. Ethiopia’s Red Sea Ambitions and the U.S. Pivot: Reshaping Horn of Africa Geopolitics, 27 June 2025, accessible at: https://tinyurl.com/32m457pd

[3]. Ethiopia, the Red Sea, and the Expanding Iran–Israel War, 26 June 2025, accessible at: https://tinyurl.com/yj67h3xv

[4]. Africa Defense Forum, Tensions Rise as Ethiopia, Eritrea Threaten War, 5 August 2025, accessible at: https://tinyurl.com/y2e7sjxy

[5]. The Africa Center for Strategic Studies, Expanding Al Shabaab–Houthi Ties Escalate Security Threats to Red Sea Region, 28 May 2025, accessible at: https://tinyurl.com/ynmh3da6

[6]. The International Crisis Group, Ethiopia and Eritrea Slide Closer to War amid Tigray Upheaval, 27 March 2025, accessible at: https://tinyurl.com/3vvccnuv

[7]. Martin Plaut, Ethiopia, Eritrea, and the Road to Another War, 8 July 2025, accessible at: https://tinyurl.com/2hrafdk2

[8]. Mohamed Kheir Omer, Are Eritrea and Ethiopia already at war?, The Pan African Review, 14 August 2025, accessible at: https://tinyurl.com/4j4yytds

[9]. Mulugeta Gebregziabher, Abiy’s War Script: Déjà Vu for Tigray, Ominous for Ethiopia, Ethiopia Insight, 29 July 2025, accessible at: https://tinyurl.com/yx4v58kz

[10]. Tresa Nogueira Pinto, Rising tensions in the Horn of Africa, Geopolitical Intelligence Services, 7 July 2025, accessible at: https://tinyurl.com/msehd2ba

[11]. Dahilon Yassin Mohamoda, Red Sea Reckonings: Ethiopia, Eritrea, and the Unraveling of Pretoria, Ethiopia Insight, 16 July 2025, accessible at: https://tinyurl.com/mr33eymz

[12]. Abel Abate Demissie, Tensions in Tigray could spark war between Ethiopia and Eritrea – disaster must be avoided, The Chatham House, 16 April 2025, accessible at: https://tinyurl.com/muee63f6

[13]. Eritrea Focus, Are Ethiopia and Eritrea hurtling towards war?, 26 March 2025, accessible at: https://tinyurl.com/yc4v6xu7

[14]. Abraham Tekle, Eritrea accuses Ethiopia of using border issue as ‘pretext to stoke conflict’, The Reporter Ethiopia, 15 March 2025, accessible at: https://tinyurl.com/y22yzz22

[15]. Guido Lanfranchi and Amanuel Dessalegn Gedebo, A dangerous frenemy: Averting a showdown between Eritrea and Ethiopia, Clingendael International Affairs Think Tank and Academy, 6 March 2025, accessible at: https://tinyurl.com/cubppue7

[16]. Daniel Haile, Ethiopia’s Dangerous Descent: The Road to War with Eritrea After the Siege of Tigray, Modern Diplomacy, 16 March 2025, accessible at: https://tinyurl.com/t4387fw2

[17]. Gisa Tunbridge, Are Ethiopia, Tigray, and Eritrea preparing for war?, The Africa Report, 22 July 2025, accessible at: https://tinyurl.com/2wdbhu56

[18]. Addis Standard, No exit through war - Ethiopia and Eritrea must step back from the brink, 4 July 2025, accessible at: https://tinyurl.com/5n6mzuxj
 

نقلاً عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

أضافة تعليق
آخر مقالات