مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2015/08/21 19:19
رشيد سليم الخوري مدرسة العروبة والأخلاق في السياسة والحياة

الشاعر القروي هو من أعلام الأمّة المقيمين في ضميرها والذاكرة.

البعد القومي في شعره استأثر باهتمام الدارسين. أمّا البعد الثوري والأخلاقي فلم ينل منهم كاملاً حقّه. أحاول الاقتراب من هذا البعد لاكتشاف مضامينه القيمية التي شدّت البعد القومي إلى مدى إنساني رحيب وصرفته عن العنصريات والهويات المغلقة.

إبن الجغرافيا الضيّقة، قرية البربارة، من قرى جبل لبنان، المفتوحة على امتداد الأبيض المتوسّط لم تعزله "عبقرية المكان" عن عمقه الصحراوي. والتحامه بهذا العمق لم يضعف تواصله بالآخر، يقول:

"بحبل ديني وعلمي... وصلت شرقاً بغرب"

إبن الاستقامة في الدين لم تقف عقيدته الدينية الأرثوذوكسية حائلاً دونه وبني قومه العرب المسلمين في وحدة المشاعر والموقف والقضيّة والانتماء.

وابن الاستقامة في الحياة شكّل نهجه الأخلاقي والقيمي مدرسة للتفاعل مع الناس خصوصاً المستضعفين منهم والمظلومين.

استقامة دينه تجلّت في تعبيره عن صرخات العروبة الثائرة. واستقامة دنياه تبدّت في دفاعه عن حقّ الناس في الإخاء والحرية والعدالة.

هاله أن يرى العروبة مستعمرة. وهاله أن يرى أبناءها مكبّلين بالعداوة والتخلّف والظلم والتجزئة، يقول:

"كفى! يكفي! لقد طفح الإناء... وضجّ لهذه الفوضى الفضاء

وطير الأمن طار فليس إلاّ... نسور الظلم طاب لها البقاء..

فساد في الدوائر واختلال... وظلم في المحاكم والتواء..

ولا ترفع إلى الحكّام شكوى... فأذن العدل يزعجها النداء.."

حامل الكشّة لم ترهقه المسافات ولم تنل منه المشقّات ولم تضعف من حدّة انتمائه العربي وغليان مشاعره القومية بل أذابت قلبه وعقله في سبيل العروبة فاستحقّ، على قول مارون عبّود، لقب "شاعر الأمّة العربية جمعاء".

فالأمّة كانت عميقة الحضور في نتاجه ولكنّها لم تصادره مصادرة شوفينية متعصّبة وعنصرية، لم تغلق عليه منافذ التواصل مع التجربة الإنسانية العميقة والتجربة الفكرية التي ترقى معانيها إلى الكليات والحقائق القيمية والأخلاقية الثابتة، يقول:

".. وما الشاعر الوطني الحميّ في أمّة مستعبدة الاّ الشاعر الإنساني قبل أيّ شاعر سواه لأنّ هذه المبادئ التي يسبّح لها ويصلّي في محرابها ويجاهد في سبيلها ليست معبودة وطنه فحسب بل هي معبودة الأوطان جميعاً.."

وهو، على قول منح الصلح فيه، "ليس لأحد بل لكلّ الناس.. وكان لرشيد سليم الخوري وجود مشعّ على أوسع نطاق. كان عالماً بذاته. اخترق بالموهبة والثبات ومبادرات النّبل ولفتات المودّة كلّ الحدود. كثيراً ما يرتفع إلى تلك الطبقة من المعاني التي يتّحد فيها التأمّل بالاعتبار وبجلال الخالد من المعاني والقضايا.."

عروبته قومية إنسانية مضامينها الحرية والشرف والتعاون على البرّ والعدل والحكمة والفنّ والعمران والتسامح والسلام والمعروف ومكارم الأخلاق والخير والشجاعة والفروسية والعفو والرّحمة والعزّة والإباء، يقول:

".. ما كانت (العروبة) قطّ اعتداء أثيماً ولا حقداً لئيماً. نشأت رسالة تكبير وتوحيد ودعوة تعاون على البرّ.. في يمينها قسطاس العدل وفي يسارها نبراس الهدى. ملأت دنيا الناس حكمة وفنّاً وعمراناً ورفاهاً.. تلك روح العروبة وهذه تقاليدها.."

عروبته هي "دين الأمّة الشامل والدين إيمان ومحبّة وتعاون وخير عميم.." يقول:

"إنّي على دين العروبة واقف... قلبي على سبحاتها ولساني

إنجيلي الحبّ المقيم لأهلها... والذود عن حرماتها فرقاني..

أرضيت أحمد والمسيح بثورتي... وحماستي وتسامحي وحناني

يا مسلمون ويا نصارى دينكم... دين العروبة واحد لا اثنان.."

وهي الحسب والنّسب وهي الأخوّة، يقول:

- ".. أنا واحد من سبعين مليوناً من العرب، كلّ واحد منهم أنا فينبغي أن أحبّهم قدر سبعين مليون نفس كنفسي.. من افتداهم فكأنّما أحياني سبعين مليون مرّة، ومن خانهم فكأنّما قتلني مثلها.."

- ".. من أخلص للعرب ونفعهم أحببته ولو كرهني.."

ويقول شعرا":

- "حسب العروبة بيننا نسباً .. .. .. .. .. .. .."

- "ان تقطّعت الأسباب عند أخ... فللعروبة عندي في الهوى سبب .."

- "تحيّي العروبة فيك فتاها... وحسبك هذا العلى والحسب..

وأكسبت لبنان حبّ الأخوّة والحبّ أثمن ما يكتسب

ومن حبّ لبنان حبّ الشآم... وحبّ العراق وحبّ .. وحبّ

وما المرء الاّ بإخوانه... اذا الكون بالحادثات اضطرب .."

ويقول في الأخوّة القومية:

"يا قوم هذا مسيحي يذكّركم... لا ينهض الشرق الاّ حبّنا الأخوي

فان ذكرتم رسول الله تكرمة... فبلّغوه سلام الشاعر القروي.."

والأخوّة في القومية العربية هي أخوّة انسانية لا عصبية أو عنصرية، يقول:

".. قبل الثورة الإفرنسية وقبل شريعة تحرير العبيد الإسمية في أميركا بأكثر من ألف سنة جهر شارعنا (المشترع) العربي الأعظم بمبدأ الحرية والاخاء والمساواة.. وقال في حديثه: الانسان أخو الانسان حبّ أم كره.."

عروبته، في جانب آخر، إشتراكية إنسانية لا مادية، يقول:

".. لا خوف على العروبة من أيّ نظام اشتراكي لأنّ كلّ ما ينصف العامّة من الخاصّة ويأخذ حقّ الضعيف من القويّ يلائم سجيّتها ويرضي دينها وانّ في روحانيّتها العميقة جوهراً علوياً يعصمها من الانحدار إلى مادية.."

ولكن،

هذه العروبة الأخلاقية الإنسانية المثالية لا تحقّق جوهرها "اللاّهوتي" ما لم تكن عروبة منتفضة ثائرة ومقاومة. "فالعروبة اللاّهوتية" لا تعني التخاذل والجبن والاستسلام، يقول:

".. فلماذا لا يكون للشرقي حقّ الصراع مع السباع التي تفترس حريته وشرفه وهما أثمن من حياته ألف ضعف؟ للّه ما أبسط عربياً يدعو - وبلغته العربية- إلى السلام إنسانية تأبى أن تعترف به انساناً.. بل هي تكرّم كلابها وتحتقره.."

- "حبّ السلام اذا تجاوز حدّه... أفضى إلى موت بغير سلام.."

والعروبة في لاهوت التحرّر "في صحوها الجديد، على حدّ تعبيره، نهضة من كبوة وإصلاح من فساد واستعداد للجهاد تأديباً للسفّاحين واسترداداً للسّلب وإرضاء للإباء واطمئناناً إلى العزّة.."

- "عجباً لسوريّ يحقّر نفسه... والخلق يسجد للتراب السوري.."

ويكتب نثراً:

".. فإذا أوقع العدو بك ولم تنتصف منه أو لم تمل عنه فأنت إنسان فوق الناس وإمّا رجل فاقد الحسّ مقبور النفس في جسد حيّ.. ولئن كنت مسيح الغفران اذا أوذيت في شخصك وراح المجرم ينكّل بإخوتك ووالديك وأولادك فقد اختلفت القضية وبطلت في الحلم دعواك. إنّ الدجاجة تستنسر دفاعاً عن فراخها.. فلئن أصررت على مباركة الأعداء في مثل هذه الحال فأنت مسيح دجّال والصّلب أخفّ ما تستحقّ عقوبة.."

لاهوت التحرّر في عروبة المقاومة يجعل الفعل الاستشهادي فعلاً جهادياً مقدّساً، يقول:

- "من رأى الأطفال في العشر على... لهوات الموت تنقضّ أسودا

من رأى الصاروخ لحماً ودماً... والبراكين غصوناً وورودا

من يغث أمّ فدائيّ شهيد... عدّه الله فدائياً شهيدا.."

- "أنا من فلسطين وهل عجب... إن ثار مظلوم وان ثأرا..

وندكّ دولتكم بكلّ فتى... ينقضّ كالصّاروخ منفجرا.."

- "زنّاري “الدّنميت”" لا صوف الألى... بريائهم حملوا على إيماني

هذا هو المجد الذي إن شئت أن... تكسى به فانزل إلى الميدان

مجد الفدائيّ الذي فتكاته... خلقت فلسطيناً بكلّ مكان

هذا هو الحبّ المحرّر لا الذي... يستعبد الإنسان للإنسان

هذا هو الشرف الفدائي الذي... وطني يتيه به على الأوطان..

لاهوت التحرّر في العروبة المقاومة، في جانب آخر، يفضح لا أخلاقية السياسة الأميركية، يقول:

- "يبذلون المال والنفس لهم... ولأهل الشرق ناراً وحديدا

أمّة لا تعرف الرّحمة ما... دلّلت إلاّ كلاباً ويهودا.."

- "هيهات والتسليح أكبر همّكم... والوحش خلف جلودكم متنكّر

ما روّض التّمساح صقل أديمه... مهما تمدّنتم فأنتم بربر.."

لاهوت التحرّر في العروبة المقاومة يحدو على مقاطعة ما ينتجه العدو حماية للشرف الوطني والقومي، كتب:

".. انّ الطواغيت... (صنعوا) أسلحة يقتلوننا بها ويخرّبون ديارنا. ونحن العرب نكاد نكون أشدّ أهل الأرض إقبالا" عليها واستهلاكاً لها. نحسب أنّنا نبتلعها وهي التي تبتلعنا وتبتلع شرفنا الوطني معنا. أفهكذا يقابل الأحرار الصّفعة؟ أتلك عادة العربي في دفع الضّيم؟ لقد لجأ مسيح الهند إلى المقاطعة في مجاهدة الطغيان - والمقاطعة أيسر النضالين- فزهد وأتباعه حتى في الضروريات الصادرة عن بلاد الأعداء ولم يضحّوا بالكرامة الوطنية في سبيل مثلهم الأعلى بل جعلوه سبيلاً إلى صيانتها.."

وكتب شعراً في المضمار نفسه:

"فلا أشرب الوسكي يصدّرها العدى... ولو كنت علق الخمر من عهد باخس

ولا كنت للمستعمرين مهادناً... ولا ابتعت منهم منذ جيل ملابسي..

لاهوت التحرّر في العروبة المقاومة ثورة على الأذلاّء والمتخاذلين أمام الطواغيت، يقول:

"تقبّلون يد الطاغي مفاخرة... كأنّكم قد بلغتم ذروة الشرف

انّ الذليل يعدّ الصّفع تجشمة... والضّرب بالنّعل تربيتاً على الكتف".

لاهوت التحرّر في العروبة المقاومة نزاهة في العمل السياسي وأمانة للوطن لا تخونه ولا تبيعه من أجل وسام:

"خدم السياسة ملبساً أغراضها... تاج النزاهة أشرف التيجان

ما باع من أجل الوسام بلاده... للأجنبيّ بأبخس الأثمان.."

لاهوت التحرّر في العروبة المقاومة، تالياً، يوجب إيثار الأمّة والوطن على الذات:

".. فانّي لست بآسف أنّني أحببت أمّتي وبلادي أكثر من نفسي.."

ذلك أنّ كرامة الذات وعزّة النّفس من كرامة الأمّة وعزّتها:

"من كان يرضى بالهوان لشعبه... لا بدع أن يرضى الهوان لنفسه.."

لاهوت التحرّر في العروبة المقاومة إباء وأنفة:

- "غضبت لمن هانت عليهم نفوسهم... فعيشهم عار وموتهم غنم.."

- "يمشي معي العزّ أنّى... مشيت جنباً لجنب

لا أعرف الذلّ إلاّ... عند السجود لربّي.."

وصحّة النّفس أن يكون المرء أبيّاً يصافح السيف حتى يحرّرها. ومن حرّر نفسه حرّر أمّته..

أخلاقيات السياسة أو "لاهوت التحرّر" في نتاج رشيد سليم الخوري هي جزء من منظومة أخلاقية عامّة تشمل سلوك الانسان في حياته، في علاقته بالآخر، في نظرته إلى العمل، في ارتباطه بالله وبالكون وبالطبيعة.. فالأخلاق والفضائل هي جوهر الأقوال والأفعال وهي قبل العلوم والآداب، يقول:

- "آياتنا ورق راياتنا خرق... ان لم تعزّزهما الأخلاق والهمم.."

- "باسم الفضيلة قبل العلم والأدب... أحني لرسمك رأسي يا فتى العرب

فوق الإمامة ما في العلم من لقب... أمّا الذي روّض الأخلاق فهو نبي..

 

وهب حياته من أجل عائلته، لم يتزوّج لأنّ شبابه كان وقفاً على إخوته الأصاغر:

"بعيد عن الأوطان يصحبني أخ... له كبدي الحرّى وما تتكبّد

أخاف عليه الهمّ ان مسّني أذى... فوالوعتي انّ متّ يشقى وينكد

وأمّ حنون ليس ينشف دمعها... تصلّي وسكّان الصّوامع رقّد..

ولكن حياتي للذين ذكرتهم... فأرغب أن أحيا شقيّاً ليسعدوا.."

حبّه المرأة احتشام وإجلال لا تهتّك ولا ابتذال:

".. هكذا كنت وهي بقربي لا أفطن لجسدها ولا ما يكسوه. كان كلّ ما يستلفتني منها وجهها المكلثم الساحر التكوين، كأنّها روح متجلّية في محيّا لا يتّصل ببدن، أو كأنّها رسم حيّ لرأس ملك سماوي يتراءى لي في صفحة الأفق ويدانيني حتى يتائمني فأغرق في مناجاته لا أحسّ عبور الزمن.. ولا نتلامس.. فنفترق لا نتبادل ضمّة ولا قبلة.. كيف كنت أرضى بتلك اللذّة الروحية.."

ويكتب شعراً:

"أومن عذارى الشرق رمت تبذّلاً... وشعارهنّ النار قبل العار.."

عذريّة في الحبّ مصفّاة ومكرّسة تهذيباً وطهراً وهيبة وعذوبة ووحياً وكلاماً نبويّاً:

"فامنح فؤادك ذات الخدر طاهرة...   .. .. .. .. .. .. .. ..

عذراء وافرة التهذيب إن نطقت... بالدرّ أحبس للإصغاء أنفاسي

كأنّ مجلسها من فرط هيبته... كنيستي والحديث العذب قدّاسي

فيه الأناجيل توحيها العيون إلى... نبيّ شعر رقيق القلب حسّاس.."

عذريّة في الحبّ مطهّرة نقيّة ليس فيها لوثة دنس:

"صحّة النّفس أن تكون نقيّاً... طاهراً لا يدنّس الأنقياء.."

محبّته الآخر تتجاوز التحامل والعدوان والغضب والحقد والاعتداء والتربّص والكيد والوقيعة والذمّ والظلم والمجافاة، انّها محبّة تعتذر وتغتفر وتحرّر:

- ".. فما تحرّش بي رفيق الاّ قلت وقلبي في شفتي: لماذا يا أخي؟ ألا تشعر أنّي أحبّك؟.."

- ".. لم أعتد قطّ، ولا تربّصت بخصم، ولا فكّرت في الكيد لمن مسّني ضرّه، وطالما تجاوزت عن الوقيعة، وصبرت على أقبح الذمّ.. يقشعرّ بدني لمرأى العقارب والحيّات.."

ويضيف شعراً:

 

- "ألا ربّ إخوان عليّ تحاملوا... كأن لم يكونوا قبل من خيرة الصّحب

 

أثاروا من العدوان حولي زوابعاً... فما حرّكت منّي سوى حبق الحبّ

 

- "أنا لست من ينسى وداداً سالفاً... لأحبّة قد أحسنوا وأساؤوا.."

ويكتب نثراً في المضمار عينه:

- ".. وربّ رفيق مبداء جفاني فخلّيت له مكانه من قلبي يعود لاحتلاله ساعة يشاء.."

- ".. وكم تمنّيت لو أنّهم عاتبوني لاكتشف ذنبي فأعتذر.."

ومن شعره في مجال العذر والاعتذار قوله:

- "فاعذر فديتك إن طال السكوت ولا... تعتب أخاً نال منه العجز والتعب..

- "إذا فرطت منك الإساءة فاعترف... بها واعتذر إن كنت حرّاً مهذّبا..

- "ولي إن هاجت الأحقاد قلب... كقلب الطفل يغتفر الذنوبا..

أودّ الخير للدنيا جميعاً... وإن أك بين أهليها غريبا..

تفيض جوانحي بالحبّ حتى... أظنّ الناس كلّهم الحبيبا.."

محبّة الآخر يترجمه العطاء:

"من حبّة القمح اتّخذ مثل النّدى... يا من قبضت عن النّدى يمناك

هي حبّة أعطتك عشر سنابل... لتجود أنت بحبّة لسواكا.."

وعطاؤه منزّه عن كلّ غاية غير معلن يرافقه حرص على كرامة من يذهب إليه:

".. وكنت إثر نهاية الحرب العالمية الأولى قد اقتصدت بعض المال وبعثت به إلى ابن عمّتي القسّ نجيب يواكيم ليوزّعه على يتامى القرية.. ثمّ نقلت إليّ من صديق في عاصمة الأرجنتين رسالة تائهة من صبيّة في "البربارة" إلى عمّها في عاصمة البرازيل تستعينه على فاقة مدقعة، وأنا أجهل عنوانه، فاشفقت أن تفوتها الإغاثة، وهالني أن تعتفد (اعتفد: أغلق الباب على نفسه ومات جوعاً) برباريّة (نسبة إلى قريته البربارة) أو تأكل بثدييها فأرسلت مبلغاً آخر باسم الفتاة رأساً مغيّراً اسمي وخطّي وإنشائي.."

نصرة الفقراء الجائعين تصاحبها لديه لعنة المتخومين المستغلّين:

- "بل اختطف المتخوم لقمة جائع... فيا ليتها في جوفه جمرات..

وان قتل الفقر اليتيم ولم يجد... مغيثاً فانّ الموسرين جناة.."

- "تشكو خزائنكم ضيقاً بثروتكم... والناس يشكون من فقر ومن ضيق

ودّت ملايينكم لو كنت سيّدها... كيما تحرّر من رقّ الصناديق.."

- "قل للغنيّ الذي باهى بثروته... ولم يباه بأخلاق وأفعال

لا تضحكنّ على حمّال أمتعة... فلست أنت سوى حمّال أموال.."

الرّحمة والحنان يحدوان على العطاء:

".. .. .. .. .. .. .. واملأ القلب رحمة وحنانا.."

كذلك الشعور بالعزّة والكرامة الانسانية:

- "فصنت وجهي وما والله يؤلمني... شيء كمرأى أديب ساجد لغبي.."

- "يا صولة الجوع كم ذلّلت من أسد... يا دولة الجهل كم رأّست من ذنب.."

وما يحدو عليه كذلك هو أنّ البرّ والاحسان والصدّقة هي من وصايا الله:

"ولم يوصكم ربّي بأن تتشدّقوا... ولكنّه أوصى بأن تتصدّقوا"

وهي عند الشاعر القروي من قبيل الصّنع الجميل الذي يلذّ له صاحبه ويرتاح:

"ألذّ ملذّة صنع جميل... تنام لديه مرتاح الضمير"

واذا كان الآخر ليس به حاجة إلى عطائك وصنع جميلك فأنت مطالب بايفائه ما له عليك من حقّ وواجب وبالاخلاص له والمودّة والوفاء:

- ".. فوطّنت النفس على الاغتراب وأنا أمنّيها بالأوبة حالما أبرئ ذمّة والدي.."

- "ولكنّ لي صبر المسيح على الأذى... وقلباً على الإخلاص لم يتحوّل.."

- "أصفي المودّة في سرّ وفي علن... اذا تخبّأ خلف البسمة الكذب.."

- "قلب من الذهب الإبريز جوهره... لا ينقض العهد حتى يصدأ الذّهب.."

- "وأنّني عربيّ ملء بردته... ذاك الوفاء الذي اعتزّت به العرب.."

العلاقة بالآخر تأتي عنده مقرونة بالتواضع والخدمة الشريفة. فالتواضع لا يحطّ من قدر صاحبه بل يرفع من شأنه وهو صنو العلم أو بديله:

"قد اتّخذ العلم التواضع صاحباً... فصاحب رفيق العلم إن فاتك العلم.."

والمجد والرّفعة هما لمن يخدم الناس الذين هم دونه في سلّم المراتب. أمّا الحقارة والضعة فهما لمن يضع نفسه في خدمة من هو دونهم فيه. فالأمر الأوّل إحسان والثاني عبودية، يقول:

"تجافيت عن أهل القصور ترفّعاً... لأخدم من دوني وذاك هو المجد

فمن خدم الأدنى فذلك محسن... ومن خدم الأعلى فذاك هو العبد.."

أخلاقيات علاقته بالآخر مستمدّة من أخلاقيات علاقته بالله.

انّها أخلاقية مؤمنة.

فالإيمان أو الشعور الديني، كما كتب، "رافقني طيلة حياتي فرأيت ظلّ خالقي يصحبني أيّان رحلت وحللت. وقد علّمتني التجارب أن لا أمل ولا تعزية الاّ به وحده وأن لا حبّ الاّ حبّه. ولولا شغفي بجمال وجوده ويقيني من رحمته وتسليمي لمشيئته لانتحرت من زمن طويل.."

هذه هي أخلاقية الرّجاء المسيحي.

ثمّ يضيف:

"قد أنسى الله حيناً في بأسائي، ولكني لم أنسه قطّ في نعمائي.. فصلاتي مجرّد تسبيح وشكر وإعجاب بعظمة الخلق واستقواء بذكر الخالق على نزعات نفسي واطمئنان إلى رضاه عنّي.."

هذه هي أخلاقية الذكر والعرفان والتماس القوّة والرّضى.

ثمّ يضيف:

"حسناتي من الله ومساوئي منّي، هكذا اعتقادي.."

هذه هي أخلاقية الاعتراف بالنّقص والاكتمال بالله..

هذه "الأخلاقيات اللاّهوتية" جعلت علاقته بالكون وبالطبيعة علاقة كيانية وعضوية:

".. وقد يتجسّم شعوري بصلة القربى بيني وبين هذه الأكوان فأنعطف على الشجرة أعانقها والصّخرة أضمّها والزّهرة أناغيها والمرجة أتقلّب عليها وأمدّ ذراعيّ إلى السماء أحييها وأبعث إلى الشمس بقبلاتي على أطراف بناني..

وكم هزّني الشتاء العاصف كالرّبيع الضاحك.."

بعد هذا يطرح السؤال:

ماذا يبقى من رشيد سليم الخوري إذا نزعنا عن نتاجه بعده الأخلاقي في السياسة والحياة؟ لا يبقى منه سوى عنصرية قومية شوفينية وحياة بشرية "كلبية" عدائية وعدوانية.. وهذا ما كان ليجعل منه "شاعر الأمّة العربية جمعاء".. فالأمّة العربية أمّة سمحاء ومسالمة بين الأمم.. تراثها إنساني وأخلاقي وآدابها خالية من المضامين والموضوعات العنصرية..

أضافة تعليق
آخر مقالات