د. ساسين عساف
قضيّة فلسطين قضيّة متعدّدة الوجوه فهي قضية وطنية تتعلّق بحق الشعب الفلسطيني الذي تعرّض على يد التحالف الاستعماري/ الصهيوني للاقتلاع والترحيل والابادة بادّعاء صهيوني قائل:
"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وهي قضيّة قومية تتعلّق بأمة العرب التي تعرّضت وتتعرّض على يد التحالف نفسه للتفكيك والتجزئة والتقسيم دويلات طائفية واتنية بادّعاء استعماري/ صهيوني قائل: في هذه المنطقة تتواجد مجموعات غير متجانسة ومتعدّدة قومياً وثقافياً وحضارياً يستحيل أن تكوّن دولة/ أمّة، وهي قضيّة دينية تتعلّق بأمّة الإسلام التي تعرّضت وتتعرّض مقدّساتها في القدس الشريف على يد قوات الاحتلال لعمليات التهويد اليومي، وهي قضيّة عالمية تتعلّق بحقوق الإنسان وحقّ الشعوب بتقرير المصير التي تتعرّض للانتهاك على يد تحالف قوى الاستعمار العالمي الجديد والقديم.
هذه القضيّة تجاوزت حدودها الوطنية والقومية الى الاطار العالمي الإنساني وتحوّلت منذ بداياتها من قضيّة نضال تحرّري وطني/ قومي الى قضيّة نضال تحرّري أممي فلقيت تأييد تيّار شعبي ورسمي عالمي واسع مناهض للهيمنة الإمبراطورية على العالم.
قضيّة فلسطين هي قضيّة حقّ عام يملكه الفلسطينيون والعرب والمسلمون وكلّ الشعوب المنتصرة للحقّ والمؤمنة بالعدل والمحبّة للسلام، وهي بهذا الاعتبار لا تضع الوطني في مواجهة القومي ولا تضع الاثنين في مواجهة الديني ولا تضع الثلاثة في مواجهة الإنساني، فكلّ منها هو ربح للقضيّة.
انّ الأصل الفكري لهذه القضيّة هو الحقّ الإنساني. وسموّ القضيّة هو بعدالتها. وانتصار القضيّة هو بأبنائها والمناصرين. فالنضال الوطني والقومي والجهاد الديني والمناصرة الإنسانية حلقات تتكامل، الواحدة منها تقوى بالأخرى بدون غلوّ أو مزاودة.
وعليه، في ميزان الربح والخسارة والرسم الاستراتيجي للسياسات الوطنية والقومية ولنصرة قضاياها تنطلق قضيّة فلسطين من الأطر الوطنية والقومية والدينية لتدخل الاطار الإنساني العالمي الشامل بوصفها قضيّة شعب احتلّت أرضه فهجّر منها وهو يقاوم المحتلّ ويناضل من أجل التحرير والعودة وتقرير المصير.
قضيّة فلسطين قضية وطنية وقومية قضيّة شعب وأمّة. أمّا الشعب فهو الشعب الفلسطيني أمّا الأمّة فهي الأمة العربية. وهذا الذي يعنينا في هذه الورقة.
أوّلاً: قضيّة فلسطين قضيّة وطنية
الحقّ الفلسطيني في فلسطين التاريخية من النهر الى البحر هو حقّ غير قابل للتصرّف، والهدف الوطني المركزي الاستراتيجي هو استعادة هذا الحقّ بتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني وعودة الشعب الفلسطيني الى وطنه مهما طال الزمن فالحقّ ثابت وموصول لعقود وأجيال.
الفلسطينيون تصدّوا للاحتلال البريطاني وللمشروع الصهيوني على امتداد السنوات الواقعة ما بين 1920 و1936 بسلسلة من الانتفاضات والثورات.. وتعتبر ثورة العام 1936 التي دامت ثلاث سنوات الأشدّ تأثيراً في مسار التصدّي للسياسات والمشاريع الاستعمارية/ الصهيونية. ومنذ أواسط الستينيات تأكّد الفلسطينيون أنّ قضيّتهم لن تنتصر بوعود بعض الأنظمة وشعارات بعض الحكّام العرب فأخذوا قضيّتهم بأيديهم ثمّ جاءت الحلول الانفرادية بدءً من العام 1977 لتعزّز هذا الاتجاه.
منذ العام 1964 بدأت حركة فلسطينية جديدة نضالها السياسي وكفاحها المسلّح فكان للشعب الفلسطيني أن انتزع قضيّته من يد الحكّام العرب وأمسك مصيره بيده وخلع عنه عباءة الأنظمة العربية فأصبح للقضية سياسيون فلسطينيون ينطقون باسمها وأصبح لها رجال مقاومون يستشهدون من أجلها فأفشلوا مشروع المملكة المتّحدة الذي كان يدعو الى اتّحاد الأردن مع أيّ جزء يتمّ تحريره من الضفّة الغربية اذ رفضته قيادات المقاومة الفلسطينية، وأصبح للقضيّة مجلس مركزي يشرف على القرار الفلسطيني المستقلّ مؤلّف من فتح والصاعقة والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية الديموقراطية والجبهة العربية لتحرير فلسطين واتحادات فلسطينية وشخصيات مستقلّة فعرفت تلك المرحلة بمرحلة "القرار الوطني الفلسطيني"، مرحلة منظّمة التحرير ورئيسها الشهيد ياسر عرفات في الأمم المتحدة، مرحلة المناضلين الأحرار والقيادات الوطنية في زمن يصحّ تسميته بزمن الثورة الفلسطينية بما كان لها من تداعيات على مجرى الصراعات الاقليمية والدولية. كلّ هذا لم يكن يعني فصلاً تاماً وجذرياً للقضية الفلسطينية عن القضايا العربية خصوصاً قضيّتي الوحدة والتحرّر ولم يكن يعني تالياً اخراجاً لها ومن النضالات الشعبية العربية ومن السياسات العربية الرسمية ومن الخطاب العربي الرسمي ومن مقررات القمم العربية ومؤسسة جامعة الدول العربية ذلك أنّ الكلّ سلّم بضرورة أن تكون للشعب الفلسطيني شخصية وطنية فلسطينية وأن يكون لهذه الشخصية ممثلوّن شرعيون في مؤسسات العمل العربي المشترك وفي العواصم العربية وبعض عواصم الدول الأجنبية الصديقة لا سيّما عواصم دول ما كان يعرف بعواصم دول المعسكر الاشتراكي.
بعد كامب ديفيد ومن ثمّ تصدّع جبهة الصمود والتصدّي ثمّ الانتفاضة الفلسطينية الأولى ومؤتمر مدريد واتفاق أوسلو وانتفاضة الأقصى المبارك أصبح الشعب الفلسطيني وحده في مواجهة مباشرة ويومية مع الاحتلال الصهيوني اذ انتهت مرحلة المواجهات العسكرية النظامية بين الجيوش العربية وجيش الاحتلال واذ رفع شعار السلام خياراً استراتيجياً لمعظم الدول العربية فضلاً عن تطبيع العلاقات مع العدو بصورة مباشرة وأخرى غير مباشرة.
المقاومة الوطنية داخل فلسطين باتت اليوم المؤتمن الأوّل ان لم نقل الأوحد على القضية الفلسطينية. هذا الائتمان يقتضي:
- اعادة التكوين البنيوي لمنظمة التحرير الفلسطينية فالمنظّمة انجاز وطني لا يجوز التفريط به كاطار واقعي وقانوني وشرعي يجمع قوى الشعب الفلسطيني في وحدة هدف ووحدة نضال.
- الاتفاق على ميثاق وطني يكرّس التمسّك بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرّف.
- التمسّك بخيار المقاومة والكفاح المسلّح خياراً استراتيجياً أوحد للتحرير والعودة.
- اعتبار قضيّة فلسطين قضية مشتركة جامعة للفلسطينيين بانتماءاتهم كافة وليست مجال تنافس أو مزاودة فالكلّ موجود في الساحة والتلاقي على أرضية نضال مشترك هو الأمر الطبيعي فالعقل الاقصائي كما الاستئثاري لا يخدم القضية. النكبات والهزائم التي حلّت بالقضية يعود معظمها بالأساس الى التفرقة والتشرذم والتفرّد والتناحر وعدم الاعتراف بالآخر.
- الثبات في مقولة "حقّ الأمّة في فلسطين وحقّ فلسطين على الأمّة" وفي مقولة الصراع العربي/ الصهيوني والتصدّي بقوّة لمقولة "النزاع الفلسطيني/ الإسرائيلي".
ثانياً: قضيّة فلسطين قضيّة قومية
عروبة فلسطين لها مقوّماتها المعنوية والمادية بشراً وتراثاً، ومسؤولية الحفاظ على هويّتها القومية ليست مسؤولية فلسطينية فقط انّما هي أيضاً مسؤولية عربية رسمية وشعبية.
من موجبات هذه المسؤولية ما يتعلّق بطبيعة الكيان الصهيوني الذي هو كيان توسّعي واحلالي فهو لن يكتفي باحتلال فلسطين والصراع معه صراع وجود لا حدود. أهدافه التوسّعية تتعدّى أرض فلسطين وهي توجب اعادة بناء الوعي القومي بالترابط العضوي بين القضية الفلسطينية والأمّة جمعاء فالقضية ليست مسألة نزاع على أرض بل على شرعية وجود كيان استعماري عنصري غريب عنها مزروع فيها بالاحتلال والاستجلاب والاستيطان.
ومن موجبات هذه المسؤولية ما يتعلّق بطبيعة المشروع الاستعماري المعدّ للوطن العربي، مشروع السيطرة والاضعاف والتجزئة والتخلّف والتبعية فانشاء الكيان الصهيوني كان الحلقة الأولى من حلقات تنفيذ هذا المشروع وذلك لمنع وحدة بلاد الشام أوّلاً ومنع وحدة بلاد الشام وبلاد النيل ثانياً ولمنع الوحدة العربية الشاملة وقيام الدولة/ الأمّة ثالثاً.
الكيان الصهيوني هو صنيعة مشروع استعماري/ غربي له امتداداته في الوطن العربي من محيطه الى خليجه.
ومن موجبات هذه المسؤولية كذلك أنّ شعار "من النيل الى الفرات" لا يواجه الاّ بشعار "من المحيط الى الخليج". والترجمة العسكرية لهذا الشعار لا تواجه الا بمنظومة الأمن القومي العربي، وترجمته الاقتصادية لا تواجه الاّ بالسوق العربية المشتركة والتنمية والمقاطعة الشاملة، وترجمته السياسية الى دولة قومية لليهود لا تواجه الاّ بالدولة الفلسطينية الديموقراطية بحدودها التاريخية من البحر الى النهر.
ومن موجبات هذه المسؤولية ما يتعلّق بالخلفيات والأبعاد والتداعيات والتحديات والمخاطر التي أوجدها احتلال فلسطين على امتداد مساحة الوطن العربي (شرق أوسط جديد، شرق أوسط كبير، خرائط جديدة، حروب اقليمية، نزاعات أهلية، احتلالات أجنبية...) التي تثبت مرّة أخرى أنّ مصير فلسطين يرسم المصير العربي. هذه حقيقة موضوعية يؤكّدها ما هو مقروء أو مرئي في المشهد السياسي الراهن في الوطن العربي وجواره الاقليمي.
كلّ هذه الموجبات تفسّر لماذا قضيّة فلسطين هي قضية قومية وليست حالة مجرّدة عن عمقها القومي، وهي تفسّر تالياً لماذا كانت من أجلها الحروب على العرب ولماذا كانت هزائمهم والانتصارات وذلك منذ النكبة حتى الحرب الأخيرة على غزّة.
من تلك الحروب والهزائم حرب زرع الكيان 1948 وحرب حزيران 1967 واجتياح جنوب لبنان 1978 وتدمير مفاعل تموز العراقي 1981 واجتياح بيروت 1982 واحتلال العراق 2003.
ومن تلك الانتصارات انتصار الجيشين المصري والسوري في حرب تشرين 1973 وانتصار المقاومة في تحرير الجنوب اللبناني في العام 2000 وانتصار صمود المقاومة في تموز 2006 وانتصارها في غزّة 2008- 2009
أ- قضية فلسطين ومسؤولية النظام العربي الرسمي
منذ العام 1947 رفضت الدول العربية قرار التقسيم رقم 181 بتاريخ 1947/11/29 وبذلت مساعيها الديبلوماسية لمنع قيام "دولة إسرائيل" ففشلت. في العام 1948 قامت فرق من جيوش مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق بشنّ هجوم على الكيان الصهيوني ففشل الهجوم. مصر بعد ثورة الضباط الأحرار تحوّلت الى مركز الثقل في مقاومة الكيان الصهيوني فنالت جزاءها بالعدوان الثلاثي في 1956/10/29.
منذ اعلان انشاء الكيان الصهيوني واقتلاع الشعب الفلسطيني وترحيله عن أرضه ووطنه حتى نكسة 1967 وحكومات النظام العربي الرسمي كانت ترى أنّ القضيّة الفلسطينية هي قضيّة عربية قومية شاملة فاحتكرت حقّ الكلام باسم الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية ذلك أنّ الشعار الذي كان مرفوعاً بقوّة في تلك المرحلة هو شعار الوحدة من أجل فلسطين.
ومنذ العام 1964 ومؤتمر القمّة والدعوة الى انشاء منظّمة التحرير واعداد ميثاقها وبناء مؤسساتها واعتراف الدول العربية بها كممثّل وحيد للشعب الفلسطيني في العام 1974 واعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر في العام 1988 حتى اتفاقات أوسلو في العام 1993 كانت مواجهة الكيان الصهيوني مسؤولية قومية تحمّلها النظام العربي الرسمي باستثناء مصر بعد زيارة الرئيس السادات الى القدس وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد حيث أسقطت عضويتها من النظام العربي الرسمي وتمّ نقل مركز جامعة الدول العربية من القاهرة الى تونس.
ولكن بدءً من مفاوضات أوسلو السرّية حتى أنابوليس مروراً بخارطة الطريق تعمّق المنهج القطري في ادارة المفاوضات واتّخاذ القرارات بشأن القضية الفلسطينية فانحسر الدور العربي الرسمي في مواجهة الكيان الصهيوني واقتصرت أدبياته على المناشدة والشجب والادانة والاستنكار والتسليم المطلق ﺑ"نزاهة" الراعي الأميركي للمفاوضات الثنائية بين الإسرائيليين والسلطة الفلسطينية وتبنّي الرؤية الأميركية في عدم التفريق بين المقاومة والإرهاب والهرولة في اتّجاه العدو لمصافحته والتطبيع معه لا بل لجعله عضواً في حلف "الاعتدال العربي".
انّ أطرافاً أساسيين في النظام العربي الرسمي، بالتخلي عن المواجهة أسقطوا المبدأ القومي الأوّل القائل: انّ أرض فلسطين هي أرض عربية وهي جزء لا يتجزّأ من الوطن العربي. هذا المبدأ هو مبدأ تأسيسي وأصل حاكم في الفكر القومي العربي الذي كان له الأثر الفاعل في تأصيل القضية الفلسطينية تأصيلاً قومياً وفي جعلها قضيّة العرب الأولى والمركزية.
منذ اتفاقات أوسلو اذاً والوعد بقيام دولة فلسطينية منتظرة وجد بعض الحكّام العرب نفوسهم في حلّ من عبء القضيّة واعتبروا حلّها مسألة اجرائية تسوّى بين الفلسطينيين والإسرائيليين وأقنعوا نفوسهم والآخرين بأنّ المفاوضات الثنائية هي السبيل الوحيد والمتاح أمام الفريقين للتفاهم على الحلّ الممكن.
هنا ارتسمت حدود واضحة بين ما هو حقّ فلسطيني وما هو حقّ قومي على قاعدة تقول: "لن نكون ملكيين أكثر من الملك".
ولكن المقاومة الفلسطينية أعادت فلسطين الى خارطة القضايا العربية بعد أن شعر بعض النظام العربي الرسمي بتحرّره من عبئها فاضطرّت القمّة العربية المنعقدة في بيروت في العام 2002 الى اطلاق ما عرف بالمبادرة العربية للسلام انقاذاً لمسارات التسوية بعد تعثّرها ووصولها الى أفق مسدود. العمل الفلسطيني المقاوم والمنتصر في غزّة أجبر مجدّداً النظام العربي الرسمي على التهديد بسحب هذه المبادرة بعد حين ما لم يقابلها الطرف الاسرائيلي بالتجاوب المطلوب.
بعض هذا النظام عاجز عن سحبها في أيّ ظرف لأنّه يراهن على سلام العدو وهو منخرط فيه أو ساع اليه أو مروّج له، ولأنّه رهن مصيره ومصير الأمّة وأمنها القومي بالإرادة الأميركية وبالتسليم المطلق بأنّ أميركا هي القادرة وحدها على حماية الحقوق العربية والفلسطينية في فلسطين المحتلّة، فوقف هذا البعض عاجزاً أمام حرب الابادة على غزّة وقبل ذلك أمام تهويد القدس وتوسيع شبكة الاستيطان ورفض حقّ العودة واقامة جدار الفصل العنصري. وما أفشل رهانهم على سلام العدو مؤخّراً قيام حكومة صهيونية من عتاة المتطرّفين الصهاينة الذين يشترطون للعودة الى المفاوضات الثنائية اعترافاً فلسطينياً معلناً بدولة إسرائيل دولة يهودية.
وتأسيساً على ذلك لا يمكن أن تكون قضيّة فلسطين أسيرة رؤية هذا النظام أو بعضه في كيفية انهاء الصراع العربي/ الصهيوني.
أضف الى ذلك أنّ هذا النظام تخلّى عن المواجهة القومية الشاملة بالمعنى السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي والثقافي فارتدّت النتيجة سوءً على الوضع الفلسطيني برمّته فشرذموا قواه واستفردوا بعضه وأضعفوه وأخضعوه لشروط السلم الإسرائيلي وتركوه بدون حاضنة قومية. (لنتذكّر في هذا السياق وضع الرئيس ياسر عرفات محاصراً في المقاطعة، رئيس عربي واحد لم يسع الى فكّ الحصار عنه ولو هاتفياً..)
النظام العربي الرسمي بمؤسّستيه القمّة والجامعة هيكل يتداعى بديله الحاضنة الشعبية التي وحدها ما زالت مؤمنة بقضيّة فلسطين قضية قومية.
ب- قضية فلسطين ومسؤولية الجماهير العربية
أولى الأولويات وغاية الغايات للنضال القومي الشعبي تحرير فلسطين واستعادة كلّ الأراضي العربية المحتلّة. قادت هذا النضال وتقوده أحزاب وقوى وتيارات وشخصيات قومية في مختلف الساحات العربية والعنوان هو نفسه منذ ستين عاماً. فالقضيّة الفلسطينية شكّلت قاعدة النضال لتحديد المواقف من الأنظمة والحكومات العربية والأجنبية وللفرز بين الحلفاء والأصدقاء والأعداء.
الحركة القومية الشعبية بمختلف قواها احتضنت المقاومة الفلسطينية وقدّمت لها الدعم المادي والسياسي والمعنوي وعبّأت الساحات بالمواقف الصامدة ضدّ الاستعمار والصهيونية وصدّرت جداول أعمال لقاءاتها ومؤتمراتها وبياناتها بعنوان القضيّة وقدّمت المقاربات الفكرية ودحضت الادّعاءات الصهيونية وأبقت القضيّة حيّة من جيل الى جيل وقدّمت الشهداء الذين انخرطوا في صفوف المقاومة تأكيداً للتلاحم العضوي بين النضال القومي الوحدوي والنضال الوطني الفلسطيني.
انّ حركة الجماهير العربية أبقت قضيّة فلسطين هاجسها اليومي وهمّها النضالي الأوّل بعيداً من هواجس الأنظمة وهمومها فالقضيّة تفرض نفسها على حياة الجماهير اليومية وعلى مستقبلها في الوحدة كما في التجزئة في التحرّر كما في التبعية في التنمية كما في التخلّف في الديموقراطية كما في الاستبداد. الأجيال العربية تنفعل بها وتتفاعل معها بأبعادها السياسية والثقافية فهي حافز نموّها السياسي ووعيها القومي وهي القضيّة التي تستقطب كلّ العناوين وتثير كلّ الأسئلة الآنية والمستقبلية وهي محلّ استجماع كلّ الأدوات النضالية ومصطلحات الحرية والتحرّر والتنمية والديموقراطية والتجدّد الحضاري.
انّ الحركة الشعبية العربية تعي تماماً أنّه بدون سيادة الشعب الفلسطيني فوق أرضه التاريخية ستبقى سيادات الدول القطرية شكلاً بدون مضمون.
مفهوم السيادة القومية والقطرية هو الرابط الأقوى بين الأمّة والقضيّة.
ج- بين القومي والديني والسيادتين القطرية والقومية في قضيّة فلسطين
"الواقعية السياسية" التي مارسها معظم الحكّام العرب في "التعامل" مع الكيان الصهيوني أدّت الى نشوء خلاف حول من هو الأحقّ في ادارة الصراع معه. وخير مثال على هذا الخلاف من داخل الوطن العربي هو الخلاف القائم بين الدولة المصرية وحزب الله. وخير مثال على هذا الخلاف من خارج الوطن العربي هو الخلاف القائم بين بعض النظام العربي الرسمي وإيران.
حزب الله من واقع التكليف الشرعي الاعتقادي والايماني استشعر مسؤوليته في مساعدة اخوانه (انّما المؤمنون اخوة) في قطاع غزة المحاصر وبروح جهادية حاول أن يمدّ المقاومين بالسلاح انطلاقاً من الأراضي المصرية.
مصر من موقع الدولة السيّدة المقيّدة باتفاقات سلام مع الكيان الصهيوني اعتبرت ما قام به حزب الله انتهاكاً لسيادتها واعتداء على أمنها.
هنا احتدم الجدال حول ما يسمو على الآخر "القانون الالهي" أو "القانون الوضعي". أحقّ المسلم في نصرة أخيه المسلم يتقدّم على حقّ الإنسان المصري في حدود دولة سيّدة أم لا؟ هل أرض فلسطين هي أرض فلسطينية أو هي أرض عربية وإسلامية؟ أين تبدأ وأين تنتهي حدود سيادات الدول القطرية وحدود السيادة القومية والسيادة الدينية؟ ما الذي يترتّب من حقوق لتلك على هذه ولهذه على تلك؟
هذه الأسئلة الاشكالية تحدث على المستوى النظري والفلسفي والسياسي والفقهي والحقوقي جدلاً من دون نهاية، فلا العقل قادر على حسمه ولا الواقع قادر على حسمه. موازين القوى ما زالت متوازية.. ويبدو الكلّ بلا أفق سياسي أو استراتيجي حتى باتت قضيّة فلسطين عامل تقسيم لا وحدة بين عناصر مكوّنات الأمّة، عامل تصادم لا التحام بين الحقوق الوطنية والحقوق القومية والحقوق الدينية.
الإسلاميون ينطلقون في صياغة مواقفهم من قضيّة فلسطين من منطلق ايماني باعتبارها قضيّة إسلامية تشدّ المسلمين اليها العلاقة الايمانية الأخوية وواجب التناصر.
هذا المنطلق الايماني لا يقبل مفاعيله منطق السيادات القطرية.
المبادئ الإسلامية قادرة على توحيد الصفوف وجمع الكلمة وتسليح الموقف بثقافة الجهاد والمقاومة.
انّ المنظور القومي كما المنظور الوطني لا ينفي البعد الديني في طبيعة الصراع العربي/ الصهيوني ما دام عنوان العدو "فلسطين دولة يهودية" فالوطنيون الفلسطينيون والقوميون العرب وان كانوا يخوضون الصراع من منطلق وطني/ قومي فهم يدركون أنّ اقصاء الإسلاميين عن القضيّة الفلسطينية بدعوى أنّها قضيّة وطنية أو قومية هو اضعاف لحاضنها الحقيقي الإسلام والعروبة.
استبعاد أهمّية العامل الديني في حسم الصراع هو اشاحة عن حقيقة الصراع في فلسطين وعليها كما أرادها الصهاينة. وانّ أيّ تحليل لهذه الحقيقة ينفي العامل الديني هو تحليل ناقص وعاجز عن فهم ما للدول الإسلامية وشعوبها من دور وازن في الصراع العربي/ الصهيوني.
أمّا من خارج حدود الوطن العربي فالمثال المعبّر عن اشكالية العلاقة بين الديني والوطني والقومي هو الخلاف القائم بين بعض النظام العربي الرسمي وإيران.
"الدور الإيراني الطافح" والزائد عمّا كان يريده بعض النظام العربي الرسمي رأى فيه هذا البعض "انتهازية إيرانية" دفعته الى القول: "فلسطين هي قضيّة قومية ولا أرى فائدة في اعتبارها دينية".
هذا، وبسبب تنامي الوعي الديني وازدياد قوّة المقاومات الإسلامية (حزب الله وحماس والجهاد) طغى البعد الديني في راهنية الصراع على البعدين الآخرين الوطني والقومي. هذه الأرجحية عبّرت عن نفسها في المدّة الأخيرة بمزيد من التدخّل الإيراني في شؤون القضيّة الفلسطينية (من حدّ القول بإزالة الكيان الصهيوني الى حدّ القول بحلّ الدولتين!) باعتبارها قضيّة إسلامية يحقّ لإيران أن يكون لها فيها رأي وموقف.
انّ بعض النظام العربي الرسمي، ازاء ذلك، اتّهم إيران بأنّها "خطفت القضيّة الفلسطينية".
وبديل أن يعمل هذا البعض لتقنين الدور الإيراني واستيعابه أو احتوائه في اطار من الشراكة المتفاهم بشأنها راح يعمل لصدّه أو ردعه أو التشكيك بمقاصده ربطاً بمشروع "هيمنة فارسية" على الوطن العربي.
وبذلك تبدّلت وجهة الصراع في المنطقة لدى هذا البعض من صراع عربي/ صهيوني الى صراع عربي/ فارسي، ما جعل نتنياهو يدّعي في كلام له منذ أيّام أنّ لإسرائيل وللدول العربية عدوّاً مشتركاً هو إيران.
لقد غرب عن بال هؤلاء السؤال الآتي:
من وضع القضيّة الفلسطينية في يد إيران؟
الاعتراف بالكيان الصهيوني واقامة الصلح المنفرد معه وتطبيع العلاقات به، حصار غزّة ومحاصرة المقاومة في فلسطين ووصف أعمالها بالإرهاب، التخلّي الاستراتيجي عن خيار المقاومة العسكرية وعن تهيئة الجيوش النظامية لحرب تحريرية شاملة، ترك الفلسطينيين داخل الضفّة والقطاع في مواجهة حرب ابادة يومية وهم مكشوفون سياسياً وعسكرياً ومادياً، اقامة حلف دول اعتدال عربي مرشح الكيان الصهيوني لأن يكون عضواً فيه كهيئة اقليمية بديلة عن جامعة الدول العربية، كلّ هذا، وهذا هو غيض من فيض، هو المسؤول عن وضع القضيّة الفلسطينية بيد إيران.
من حقائق المرحلة أنّ الدور الإيراني تمدّد بقوّة في منطقة الفراغ العربي وجعل عدداً من الدول العربية تتخوّف من استخدام إيران القضيّة الفلسطينية لتكريس موقعها الاقليمي وتأمين مصالحها في التسويات الشاملة وتعزيز نفوذها في منطقة الخليج العربي وفي العراق وفي فلسطين وفي لبنان وفي أجزاء واسعة من الوطن العربي حيث تتواجد مجموعات شيعية متعاطفة معها.
مهما يكن من أمر سواء كان هذا التخوّف في مكانه أم لا يبدو من المؤكّد أنّ الخلاف القائم بين إيران وبعض الدول العربية بشأن القضيّة الفلسطينية أو بشأن قضايا أخرى ستكون له تداعيات سلبية عليها وسيضع القوى والفصائل الفلسطينية أمام تحدّيات مصيرية أبرزها تحدّي المحافظة على الوحدة الوطنية ووحدة القضية والهدف والموقف منها والنضال في سبيلها برؤيا وطنية تجعل المصلحة الفلسطينية فوق المصالح الإيرانية الخاصة وفوق المصالح العربية الخاصة.
هنا الوطني في ظلّ الخلاف الإيراني/ العربي يتقدّم على القومي وعلى الديني سواء بسواء.
لقد دفعت القضية الفلسطينية أثماناً باهظة وما زالت نتيجة الصراعات العربية/ العربية، وهي مرشّحة اليوم لدفع أثمان تضاهيها أو يزيد نتيجة الصراع العربي/ الإيراني.
ما يعيد الأمر الى نصابه الحقيقي والصراع في المنطقة الى مساره الطبيعي هو وحدة الفلسطينيين من قضيّتهم بالعودة الى المقاومة كخيار استراتيجي وحيد لانتصار هذه القضيّة وتحرير فلسطين من البحر الى النهر.