مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2015/12/16 09:09
الاستعمار الثقافي -د.ساسين عساف

 

 

منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حتى اليوم والمشروع القومي العربي مشدود الى خطّين: الارتداد الى الماضي لأنّه الأصيل، الارتماء على الآخر لأنّه الحديث. بين الأصالة والحداثة تطرح اشكالية هذا المشروع:

الفجوة بين الفكر والواقع فالاساس النظري له باتجاهيه شيء والواقع العربي شيء مختلف حركته لا تأتي من تاريخ مضى ولا من طارئ متبوع. استرفاد الأصالة في التراث واستثقاء الحداثة في الآخر الوافد أو المستجلب أبقيا الواقع العربي مسروجاً الى أساس نظري لا ينتمي اليه ما أبقى المشروع القومي العربي في دائرة مغلقة يتكوّر على ذاته يستولدها فعل انبعاث مستحيل من أصول تيبّست في لحظتها وينبسط متداعياً أمام غزو خارجي يستنبت منه حداثة صعبة. الفجوة بين الفكر والواقع سبّبت المأزق الأشدّ تعقيداً في هذا المشروع من حيث هو حركة انبعاث حضاري كياني وجودي.

 

البناء على أصالة التراث أو على حداثة الدّخيل أو الوافد أبقى الأفكار أفكاراً مجرّدة وعقيمة وأبقى الوقائع في خطّ متراجع تلامسها مظاهر التغيير في قشرتها السطحية. الدخول في المستقبل من الماضي وفي الواقع من خارج حركته لا يكفي لاستشعار يقظة تاريخية حادّة كفيلة باحداث النهضة الحضارية الكيانية الشاملة، وهو غالباً ما يوقع الشعوب في خديعة تاريخية اذ يتهيّأ لها أنّها تنجز نهضتها امّا باستنهاض أصولي قاصر وامّا باستلحاق حداثوي مزعوم. اذا وضعنا مشروع النهوض القومي على هذه المحكّات يتقلّص فيه حجم التغيير الى حدّ الانعدام!.

 

ثمّة مقولة أنتجها الفكر الاستعماري، مفادها الآتي:

 

انّ الاستعمار ضرورة تاريخية لشعوب متخلّفة!.

 

هذا هو الشكل الحضاري للتعبير عمّا أسمّيه "السيطرة الايجابية". أصحابه يزعمون، من باب التسويغ الذرائعي، أنّ استعمار الشعوب هو مساعدة لها على بناء ذاتها وانجاز نهضتها!. النظرة البريئة الى هذا المفهوم تفيد أنّ ثمّة شعوباً حضارية تؤّدي مهمّات انقاذية!. ولكن النظرة الموضوعية التي تتجاوز "المفهوم التثقيفي الميسّر" على ألسنة هؤلاء الى التبصّر في الفعل والنتيجة تفيد أنّ وراءه عقلاً استئثارياً تسلّطياً واستغلالياً واستتباعياً طامعاً في السيطرة على الشعوب المتخلّفة.

 

فكرة السيطرة التي تحرّك المشاريع الاستعمارية لا يقرأها المتضرّرون منها الاّ بعد معاناة تاريخية تشعرهم بمدى الاستغلال والاستتباع والتهميش ومحو الهويّة.

 

"تثقيف" الشعوب هو الحجّة السهلة للسيطرة عليها. الغزو الثقافي يمهّد العقول والأمزجة لاستقبال المشروع على قاعدة اعتباره واحداً من حكم الضرورات التاريخية الحتمية. تطويع الشعوب يبدأ بالتدجين الثقافي. والتدجين الثقافي هو افراغ الهويّة القومية من مضمونها الذاتي وشحنها بثقافة المستعمر. والمسألة تبدأ باللغة. فاللغة هي المفتاح الذهبي الساحر للدخول الى حرم الخصوصية القومية وانتهاك قدس أقداسه، انها من أبرز مكوّنات الهويّة القوميّة. تبديل المفاهيم والقيم والأذواق والسلوكات والمعارف هو نتيجة حتمية لتبديل اللغة أو لتعديل جوهري في نظام اللغة أو لفرض ضرّة لها تنافسها في وظائفها التكوينية. يشهد تاريخ العلاقات بين الشعوب أنّ لغة المستعمر فرضت نفسها الى حدّ دفعت معه شعوباً كثيرة الى التخلّي عن لغاتها القومية. روّاد النهضة العربية بدأوا معركتهم مع التتريك بسلاح اللغة، فعملوا على احيائها وتشبّثوا بها تعبيراً مادّياً وحقوقياً ومعرفياً عن خصوصيّتهم القوميّة. روّاد حركة التحرّر العربي في المغرب العربي بدأت معركتها بسلاح اللغة العربية.

 

النهضة العربية، مع الاستعمار الزاحف الى بلاد العرب عبر ارسالياته ومدارسه ومبشّريه واكبت هذه الاشكاليات وعبّرت عن مآزقها بجدليّة الصراع بين الرفض والقبول:

 

أهل التكيّف الايجابي مع "الثقافة الاستعمارية" وجدوا فيها مدخلاً للحداثة أو المعاصرة واللّحاق المطلوب بركب الحضارة وانجازات العصر الأوروبي المتقدّم. وجدوا فيها عملاً تنموياً لتطوير الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولاغناء الهوية بأبعاد عالمية أو انسانية كونية، ولتوسيع العقل العربي وفتحه على آفاق المعارف والمدارك والمناهج العلمية المستحدثة باخراجه من حاكمية الفكر الديني السلفي ومن دائرة الانغلاق والتقوقع في تراثية رجعية متخلّفة. كلّ هذا باسم المواكبة العصرية لانجازات العقل المتقدّم القادر على الاطاحة بالثقافة التراثية الآسرة.

 

أهل الرّفض وجدوا في ثقافة الاستعمار وجهاً قبيحاً ترتسم فيه خيوط مؤامرة على الهوية القومية تستهدف محوها بنشر ثقافة تغريبية اقتلاعية تنميطية اخضاعية والحاقية. فدعوا الى ردّات فعل ثورية لردّ هذه الغزوة بتحصين الذات والتأصّل في الأصول. رفضوا ثقافة الانبهار بالغرب والتماهي معه، قبلوا استرفاد مناهلها والمناهج على قاعدة التنقية والامتصاص والتحويل بما يخدم تعزيز البنية الذاتية. هؤلاء مؤمنون فعلاً بأنّ الثقافة العربية تتمتّع بنبض قادر على تجديد نفسه، وبأنّ العقل العربي انماز في تاريخه بقدرته على الانفتاح ولم يحجب نفسه يوماً عن مشروع تجديدي وافد اليه من خارج حدوده. ما رفضه هؤلاء هو الدخول في الثقافة الاستهلاكية لأنّ الاستهلاك، على ضرورته وفائدته، يحمل مشروع ابادة للذات القومية. النهوض الحقيقي المحقّق في جوهر البنية هو نهوض ذاتي، من داخل الهوية المتفاعلة مع تجارب الشعوب وخبراتها من موقع الاحتفاظ بالخصوصية.

 

أدبيات النهضة العربية عكست مواقف أهل القبول وأهل الرفض من "الثقافة الاستعمارية" في الأدب واللغة والفكر والسياسة والدين والقيم الأخلاقية والسلوكية ومظاهر الحياة الاجتماعية، وذلك على قاعدة الوعي التاريخي بالمستقبل العربي ضمن التحوّلات الأساسية التي كانت تشهدها المنطقة برمّتها بعد انهيار الدولة العثمانية.

 

اتّسمت هذه الأدبيات بحدّة الطرح والموقف وأحدثت في المجتمع العربي انقسامات حادّة أعاقت تطوّره الطبيعي وأفقدته القدرة على استكمال وعيه الذاتي بضرورة أن ينجز مشروعه النهضوي الخاص. النهضة القومية لا تتحقّق بغياب المشروع القومي. "واستعمار الضرورة" هو التصفية العملية لهذا المشروع. قد يترك له فسحة للنمو على هامشه. ولكنّه، بالتأكيد، لا يسمح له بالتمدّد خارج حدود هذا الهامش.

 

من هذه الزاوية نرى الى المشروع القومي العربي ومسألة علاقته بما بات يعرف اليوم بثقافة العولمة.

 

أن ينفتح المجتمع العربي على ثقافات الشعوب شيء وأن يخضع لثقافة العولمة شيء آخر وذلك على قاعدة التمييز بين الثقافة العالمية وثقافة العولمة. الحوار أو التفاعل مع الثقافات فمسألة مطلوبة لتكوين حركة انبعاث قومي كياني مستقلّ أمّا الخضوع لثقافة العولمة فمسألة مرفوضة لانّها استعمار ثقافي يفضي الى تغييب الذات ومحو الهوية.

 

المشروع القومي العربي يقوم على وعي الهويّة. وعي الهويّة هو وعي الذات والآخر واتّجاه التاريخ. مآزق وعي الهويّة أنتجتها ثقافة المستعمر، ثقافة قتل الذات. الثقافة الوافدة مع الاستعمار شيء والتثاقف بين الشعوب شيء مختلف. الأولى هي ثقافة اخصاء الذات. والثاني هو ثقافة اخصابها. لذلك نقول:

 

انّ ثقافة العولمة تحدث تغييرات في الحياة العربية وتوقظ العقل العربي على أفاهيم ومناهج فكرية وحقائق علمية ومعرفية حديثة. ولكن هذه التغييرات تظلّ محكومة باستراتيجيات الدول القوية. وهي استراتيجيات طاحنة لكلّ تغيير لا يخدم مصالح تلك الدول.

 

العقلانية الديكارتية مهّدت لفكرة الاستعمار في تحضير الشعوب وعقلنة ثقافاتها وتنظيماتها السياسية والادارية والاجتماعية والاقتصادية. فالاستعمار، بهذا المعنى، كما أشرنا سابقاً، يقدّم نفسه للشعوب التي هي في طور النمو رسالة تنويرية. عقلانية ديكارت وسبينوزا وكانط وهيجل شكّلت ايديولوجيا الاستعمار الغربي الذي جسّدته الدولة الأوروبية الصناعية الحديثة.

 

هذه الايديولوجيا قوّضتها لاحقاً الماركسية والفرويدية ونظريات أوغوست كونت وآميل دوركهايم في علم الاجتماع الثقافي، وهي نظريات أظهرت أنّ العقلانية الأوروبية ليست نموذجاً صالحاً للتعميم كما ادّعت الثقافة الاستعمارية بل ثمّة خصوصيات ثقافية آسيوية وأفريقية وعربية لها الحقّ في الوجود والنموّ والاستمرار بعيداً من مركزية العقل الأوروبي وشهواته التدميرية والاستقطابية.

 

ديكارت هو بداية التحوّل في مسار الفلسفة الأوروبية الحديثة التي قامت على نزعة التمركز حول الذات الغربية. وهي نزعة قائمة على أساس التفاوت بين الغرب المتقدّم ثقافياً والعالم المتخلّف. هيجل بدوره أسهم في تغذية هذه النزعة الاستعلائية للذات الغربية.

 

النهضة الأوروبية أطلقت حركة الاستعمار في المجال الجغرافي والثقافي، تحديداً في اتّجاه الشرق الذي كان يشهد تداعيات انهيار الدولة العثمانية. هذه الحركة أيقظت العقل العربي على مفاهيم ومناهج فكرية عبر عمليات ضبط حركة نموّه وربطها بآليات تعمل لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، وهذا ما أعاق المسارات النهضوية التي كان لها أن تتحرّك بدفع ذاتي أصيل. هذه المسارات لها عمقها التاريخي في الثقافة العربية. فالليبرالية مثلاً من حيث هي دعوة لاطلاق الفكر الحرّ ليست من الوافد على الفكر العربي. الفكر الاسلامي الاجتهادي التأويلي هو فكر ليبرالي جعل النصّ الديني في دائرة اعمال العقل التفسيري. فكرة الدولة/ الأمّة ليست من تسريبات العقل الغربي بل من أصالة التفكير العربي/ الاسلامي. من هذين الملمحين، على مستوى المرجعية الايديولوجية لعصر النهضة، نتبيّن أنّ المشروع القومي العربي ممكن الحدوث من داخل حدود الأمّة بشرط أن يعي أبناؤها ما في تراثها من أصول التغيير والانبعاث.

 

النهضة الأوروبية التي وفدت الينا اصلاحاً دينياً وثورة عقلية ونهوضاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً لم تكن غريبة عن انجازات أمّتنا، لم تطرح علينا جديداً لم نألفه في تاريخنا الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي. بدا الأمر على نقيض ذلك لأنّنا كنّا نعبر مرحلة تخلّف وانحطاط تاريخي كبير فرضها علينا دخول هولاكو المغولي مدينة بغداد سنة 1258 م واستمرّت حتى ظهور بوادر النهضة منذ المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر. في أثنائها تفكّك الكيان العربي في المجالات كافّة.

 

المفكّرون الأحرار في التاريخ العربي تقدّموا في الزمن على الايديولوجيا الليبرالية التي غلبت على أوروبا في القرن التاسع عشر. الدولة/ الأمّة في التصوّر الاسلامي العربي سابقة في الزمن على ايديولوجيا الدولة/ الأمّة التي شغلت أوروبا على امتداد القرن نفسه. الفكر الاشتراكي العربي على يد القرامطة الذين أقاموا دولتهم الاشتراكية سابق على الايديولوجيا الاشتراكية التي غيّرت وجه العالم في بدايات القرن العشرين. هذا، فضلاً عن كلام كثير يمكن أن يقال حول العلوم والمعارف والعمران لنؤكّد أنّ امكان النهوض القومي العربي هو متأصّل فينا وليس بالوافد الينا. ونقيض ذلك أظهرته غلبة التقدّم على التخلّف.

 

النهضة الأوروبية، اذاً، أيقظت فينا الأصول ولم تبتدعها. أدخلتنا في الحداثة ولم تحدث فينا جديداً. طوّعتنا وجنّدت طاقاتنا لخدمة استراتيجيات حكوماتها في المنطقة. الوافد تغلّب على الأصيل وقتل فيه امكان النّهوض الذاتي. من هنا جاءت مأزومية المشروع العربي في الهيئة والفعل والقدرة على التنامي.

 

مؤسسات هذا المشروع لم تكتمل بناء وطرحاً وحركة ملموسة لأنّها نشأت وظلّت مسروجة الى مشروع استعماري أعدم ديناميكية تحوّلها الذاتي.

 

الوافد الأوروبي لم يحدث فينا جديداً انّما شدّنا الى بعض أشكاله وأنماطه. أغرانا "بنبل مقاصده التثقيفية" ولم نتنبّه الى خبث مقاصده السياسية!. الثقافة ليست مطهّرة من لوثة السياسة، ليست بريئة من دفعنا الى الوقوع في مخطّطات استخدامنا في لعبة المصالح الدولية.

 

ماذا تحدّر الينا، مثلاً، عبر الوافد الأوروبي من فلسفة الأنوار؟!.

 

فلسفة الأنوار انسانية النزعة وهي فوق العصبيات القومية والحدود الجغرافية، محورها وقضيّتها هما الانسان الحرّ، تعزّز فكرة التسامح، تنبذ التعصّب الديني، تمجّد الحرّية والمساواة باعتبارهما حقّاً طبيعياً للانسان، تكرّس سيادة الشعوب في ممارسة الارادة العامة وحماية الخير العام.

 

وصلنا منها عبر الاستعمار وأدواته النزاعات الأهلية بين أقلّيات دينية واتنية. وصلنا منها تقسيمات بشرية وجغرافية على قياس المصالح الأجنبية.. وصلنا منها اقامة أنظمة سياسية قهرية. أورثتنا حروباً دينية. نهبت ثرواتنا الطبيعية وأذلّت شعبنا. اغتصبت حقوقنا وزرعت في أرضنا الكيان الصهيوني.

 

الوافد الأوروبي، عبر الاستعمار، أوجد في مناطق احتلاله عموماً مشكلات ثقافية/ سياسية عميقة وأوجد شرخاً وجدانياً واسعاً بين أبناء الأمّة الواحدة وحاصر المواقع الفكرية الأصيلة، الوطنية والقومية المتنوّرة، لقمع امكانات النهوض الذاتي. وكان يعمد عبر مدارسه وارسالياته الى تركيز نظام قيمي/ معرفي يخدم مصالحه ويسمح له بالمزيد من التمدّد وبسط الهيمنة.

 

وعليه،

 

انّ حركة المشروع العربي كانت مقيّدة ومراقبة ومحدودة الآفاق بما يتيح لحركة الوافد/ المستعمر بالتوسّع المطلوب.

أضافة تعليق
آخر مقالات