د. ساسين عساف
لن يتمكّن العرب من مواجهة التحدّيات الخارجية والداخلية التي تفرضها عليهم الحروب والفتن الراهنة ما لم يعمدوا إلى إعادة بناء النظام العربي على أسس تكاملية في المؤسسات والمجالات الآتية: جامعة الدول العربية، التنمية القومية، الأمن القومي، الثقافة القومية.
جامعة الدول العربية إنجاز قومي تجب المحافظة عليه. فهي مرجعية العرب القومية وهي المؤسسة الجامعة التي يلتقي فيها كلّ العرب، وهي المنبر القومي الذي منه يخاطبون العالم الخارجي. انّها واجبة الوجود للمستقبل العربي. ولكي تكون في مستوى هذا الطموح لا بدّ من إجراء تعديلات أساسية في ميثاقها وأجهزتها والمؤسسات التابعة لها وآلية عملها بحيث تتحوّل من "جامعة توصية" إلى جامعة "قرار ملزم"، من "جامعة تعاون في حدّه الأدنى" إلى "جامعة تكامل في حدّه الأقصى"، من "جامعة اجتماع الأجزاء القطرية" إلى "جامعة الوحدة القومية".
إنّ جامعة عربية بهذه التوصيفات هي وحدها القادرة على أن تكون في مستوى التحدّيات التي يطرحها عليها واقع المتغيّرات الدولية والإقليمية والمحلية. فهي تنتقل بالعرب من موقع التهميش والتبعية والإحتراب الداخلي إلى موقع التأثير والمشاركة في نظام عالمي متحوّل من سيطرة الأحادية القطبية لصالح التعدّدية. هذه المؤسسة القومية الجامعة لا نريدها وسيلة قطع مع العالم أو انقطاع عنه بل وسيلة تحرّر وفاعلية وتكثيف حضور وتواصل متكافئ وقادر على حماية المصالح القومية.
إنّ جامعة بهذه التوصيفات تخرجنا من دائرة الشعور بعقدة الاستهداف إلى رحاب التطلّع الكوني. فمن موقع التمايز والخصوصية نشارك ببناء الحضارة الانسانية الجديدة بشرط أن نبدأ ببناء مشروعنا النهضوي الحضاري الجديد الذي يجد قيادته في جامعة عربية جديدة.
إنّ جامعة بهذه التوصيفات لا تلغي مجالس واتّحادات عربية قائمة كمجلس التعاون الخليجي ومجلس التعاون العربي وإعلان دمشق والاتّحاد المغاربي بل تنسّق وتصعّد درجة التكامل بينها في اتجاه قومي وحدوي.
إنّ جامعة بهذه التوصيفات لا تنتهك السيادات القطرية فالعمل السيادي لا يعني الانفصال عن ارادة الأمّة التي يعبّر عنها داخل هذه الجامعة.
إنّ جامعة بهذه التوصيفات لن تقوم ما لم تقم في الأقطار العربية الدولة الحديثة، دولة الديموقراطية والحريات وحقوق الانسان، دولة القانون والمؤسسات والعدالة، دولة لا تعرف قانون الطوارئ والمعتقلات السياسية ولا تؤبّد فيه السلطة بيد الحاكم المطلق، دولة يكون فيها الناس مواطنين لا رعايا.
ما لم يتعاون العرب لأن تكون لهم جامعة بهذه التوصيفات والمهماتّ لن يتوصّلوا أبداً لوضع استراتيجيات عمل قومي، ولتوحيد السياسات الخارجية، وللتصدّي للمشكلات الناتجة عن النزاعات الأهلية.
هذا، والعرب مدعوون، في جانب مكمّل، إلى التعاون من أجل تطوير المعاهدات والمواثيق القومية القائمة بعد مراجعة علمية لها ولمردودها على الوحدة العربية، وعندهم من هذا القبيل: معاهدة الدفاع المشترك لعام 1950، ميثاق التضامن العربي لعام 1965، ميثاق العمل الاقتصادي القومي لعام 1980..
التنمية القومية هي العنوان الثاني للتكامل العربي المطلوب من أجل الخروج من حال الشعور بالانكسار التاريخي. قانون الصراع هو الذي يسيّر التاريخ وليس قانون الهيمنة. نتائج هذا الصراع محكومة بموازين القوى العسكرية وموازين الإرادات. إن لم يكن العرب يمتلكون اليوم القوّة العسكرية الحاسمة، فلتكن لديهم قوّة الإرادة في الصّمود وفي عدم الاستسلام للشّعور بالانكسار الدائم. فلتكن لهم قوّة الإرادة في مجال القرار بشأن استخدام ثرواتهم القومية ومواردهم الطبيعية في علاقاتهم الدولية خصوصاً في علاقاتهم بالدول صاحبة الشأن المرجّح في صراعهم مع الكيان الصهيوني. فالثروة القومية هي ذات فاعلية في نصرة قضاياهم بشرط حسن استخدامها في اللحظة السياسية المناسبة والدفاعية. فلتكن لهم قوّة الإرادة في البناء الذاتي على قاعدة التنمية القومية الشاملة فيتمّ توزيع عادل للثروات العربية عبر قيام مؤسسات قومية ملائمة لهذا الغرض. وعدالة التوزيع تكون لصالح التنمية في البلدان العربية الفقيرة. هذا الإجراء يستوجب إعادة تنظيم العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية على أساس التكافؤ في تأمين المصالح المشتركة واحتياجات التنمية لكلّ منها. المنطلق في كلّ هذا هو أن تكون للعرب قوّة الإرادة في ازالة التناقض بين "القومي" و"القطري" في المجالات كافّة خصوصاً في مجالات التنمية. يتطلّب إنجاز هذا الهدف إقامة مؤسسات قطاعية تمثّل المصالح التي تتحرّك في الساحتين القطرية والقومية. قد يكون ما يمكن تسميته "المجلس القطاعي العربي" المؤسسة الأم الحاضنة لهذه المؤسسات. إنّ تكاملاً عربياً/ عربياً مبنياً على فرضية امتلاك قوّة الإرادة في البناء الذاتي بالمرتكزات التي ذكرتها آنفاً هو ناتج وعي قومي يستوعب معنى العلاقة بين "القطري" و"القومي"، بين القوّة العسكرية والتنمية القطاعية والبشرية الشاملة، بين الفاعلية الاقتصادية وقيم العدالة والأخوّة القومية.
هذا هو قانون التكامل التنموي الموضوعي الذي لا مفرّ منه في اللحظة العربية الراهنة. فالتنمية الشاملة والمستدامة هي الإجابة القومية الواجبة للتحدّيات المطروحة على الأمّة في ضوء الوقائع التي تمكّنت من فصل أغنياء العرب عن فقرائهم باحتلال مناطق النّفط الخليجي وتحويل دولها إلى محميّات مسلوبة الإرادة المالية والسياسية والأمنية.
إنّ تمزيق الوطن العربي دوائر اقتصادية محتلّة وملحقة يتطلّب ردّاً قومياً شاملاً عنوانه: التكامل من أجل تنمية قومية شاملة ومستدامة.
هذا العنوان يفرض بالضرورة إعادة بناء التيّار القومي العربي القادر على استجماع القوى القومية في كلّ قطر وشدّها إلى المشروع النّهضوي العربي الجديد خطاباً وأشكالاً تنظيمية وآليات عمل ونضال.
ثالث عناوين التعاون العربي الذي تتطلّبه المواجهة الشاملة في ظلّ المتغيّرات الدولية القائمة هو الأمن القومي.
الحروب والفتن القائمة في غير دولة عربية أحدثت انقلاباً في مفاهيم الأمن القومي.
والكلام على الأمن القومي في ضوء النظرية التقليدية للأمن لم يعد واقعاً في نصابه التاريخي. ما يستقيم اليوم هو الكلام عليه في ضوء النظرية الحديثة المرتكزة إلى الآتي:
- الأمن الثقافي الذي توفّره اللغة القومية وثقافة وسائل التواصل والإعلام والجامعات ومراكز البحوث والدراسات الإستراتيجية ومناهج التربية والتعليم. فالمقترح بهذا الشأن مقاومة التطبيع مع العدو ووقف أشكال التعامل معه كافّة وفي المجالات كافّة خصوصاً في المجال الثقافي. العرب مدعوون إلى حماية أمنهم الثقافي عبر التعاون اليومي والمتواصل داخل المنظّمة العربية للثقافة والعلوم وداخل اتّحاد الجامعات العربية وداخل جميع مؤسسات المجتمع المدني: اتّحادات مهن حرّة وروابط شبابية ونسائية ومعلّمين وطلاّب واتّحادات قطاعية أخرى خصوصاً القطاع الإعلامي.
- الأمن الاجتماعي الذي توفّره العدالة والديموقراطية والحريات وحقوق الانسان. فالمقترح بهذا الشأن مقاومة أنظمة القهر والتخلّف والتبعية وتعميم مفهوم المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص والحقّ والواجب.. العرب مدعوون الى حماية أمنهم الاجتماعي عبر التعاون اليومي والمتواصل داخل المؤسسات الساعية إلى بناء الدولة الحديثة، دولة التكافل والتداول السّلمي للسلطة، دولة الحقّ والقانون والقضاء النزيه والعادل. شرط التكامل العربي المجدي والفاعل على صعيد رفع التحديات المطروحة على الأمّة هو قيام الدولة الحديثة في كلّ الأقطار العربية.
- الأمن الغذائي الذي يوفّره اقتصاد منتج لا ريعي. فالمقترح بهذا الشأن الانتقال بالاقتصادات العربية من نظام الاقتصادات المتآكلة والمتضاربة إلى نظام الاقتصادات المتنامية والمتكاملة. العرب مدعوون إلى حماية أمنهم الغذائي عبر التعاون اليومي والمتواصل في القطاعين الزراعي والصناعي لجهة تطوير الصناعات الغذائية بزيادة كمّياتها وتحسين نوعياتها. هذه الحماية يجب أن تأتي مشفوعة بأنظمة جمركية مسهّلة لحركة التبادل التجاري.
ان لم يكن العرب قادرين اليوم على حماية أمنهم القومي بتطبيق نظرية الأمن التقليدية بمعناه العسكري (تكديس أسلحة متطوّرة، إعداد جيوش حديثة، تفوّق عسكري بأسلحة نووية وبيولوجية وباليستية، أحلاف عسكرية وتوازنات إستراتيجية) فلتكن لهم الإرادة في التكامل على حماية أمنهم القومي بتطبيق نظرية الأمن الحديثة بمعناه الثقافي/ الاجتماعي/ الغذائي. وهي نظرية قد لا توفّر لهم الانتصار أو التفوّق ولكنّها توفّر لهم بالتأكيد الصمود والقدرة على الاستمرار في المواجهة.
إنّ الاعتماد على الأمن الأميركي في منطقة الخليج، مثلاً، يعمّق التبعية وهو رهان إستراتيجي خاسر. فالأمن العربي هو البديل المطلوب. وبداية التكامل العربي في هذا السبيل تبدأ بإلغاء اتفاقات الدفاع الموقّعة مع الولايات المتّحدة وإزالة القواعد العسكرية الأجنبية من منطقة الخليج.
العنوان الرابع في عناوين التعاون العربي ومتطلّباته هو الثقافة القومية.
مستقبل العالم أصبح مرتبطاً بالثورة التكنولوجية في صناعة المعلومات والإلكترونيات وفي وسائل الإعلام والاتّصال. فالتكنولوجيا حلّت محلّ الإيديولوجيا في قيادة المجتمعات الحديثة. هذا المتغيّر في عالم اليوم يطرح تحدّياً مصيرياً أمام العرب يختصر بسؤال: هل هم قادرون على استيعاب هذه الثورة والانخراط فيها؟ هل العقل العربي قادر على الانفتاح في اتّجاه الزمن التكنولوجي الحديث؟ إنّ تاريخ العرب الثقافي والعلمي وتاريخ حضارات الشعوب يثبتان أنّ العرب شعب حضاري قادر على إنتاج العلوم وأنّ العقل العربي عقل منفتح على المعارف ومبدع فيها. محنة العقل العربي، إذا، ليست من أصوله أو مساره أو قدرته على التواصل والتفاعل، إنّها محنة سلطات القهر الفكري في تعاملها معه بالتكفير والاعتقال والتدجين والتهجير والإبعاد والتصفية.
هل يدرك العرب عمق الارتباط بين العلم والمستقبل؟ بين آفاق التغيّر السريع في آفاق المعرفة ومستقبل الإنسان العربي في مهبّ هذا المتغيّر؟
إنّها مسألة وعي قومي وإدراك شامل وإرادة عامّة في التعاون على إبراز الوجه الحضاري للأمّة التي هي في رأيي أمّة وحي وأمّة عقل في تكوينها ومسارها والرسالة.
من تعقيدات الزمن العربي الراهن فقدان الثقة بالذات وارتضاء التبعية للآخر. فالثقافة المجلوبة أو الموطّنة هي ثقافة طلاء خارجي لا تمسّ الجوهر، وهي ثقافة الغريب عن الكيان والطارئ عليه والمهدّد لمرتكزاته الحضارية والقيمية.
لا أدعو في هذا الكلام إلى الانعزال عن منجزات العقل العالمي أو إلى التقوقع والانزواء في المآوي الثقافية الضيّقة بل، على العكس من ذلك، فأنا من المؤمنين بالتفاعل الكوني على المستوى الحضاري العام. فالتفاعل هو الخطّ الذي سارت عليه أمّتنا في مراحل تألّقها. ولكن ثمّة فارق بين التفاعل والتبعية.
ومن تعقيدات الزمن العربي الراهن فقدان الرؤية القومية للمواطن العربي في زمن الكلام على الانتماء إلى "القرية الكونية" المصطلح الذي شاع في بداية التسعينيات تعبيراً عن قدرة النظام العالمي، بفعل الثورة التكنولوجية في صناعة المعلومات والإلكترونيات وفي وسائل الإعلام والاتّصال التي قلّصت حجم العالم، على جعل الانسان مشدوداً إلى ما هو أبعد من حدوده القومية وإشعاره، تالياً، بأنّه "مواطن عالمي" مدعو إلى الاندماج في الثقافة الكونية الكليانية.
هذا الواقع المتغيّر في اتّجاه عولمة المواطن باستلابه وإفراغه من ذاتيته وخصوصيته واقتلاعه من جذوره والهويّة يتطلّب من جميع المؤسسات العربية المعنية بتكوين المواطن العربي وإعداده وتثقيفه رؤية قومية جديدة تعيده إلى النضال السياسي والثقافي سعياً لبناء دولته القومية اذ لا هوية قومية بدون دولة قومية، وتصرفه عن التعلّق الوهمي بالآخر الغربي وتحديداً الأميركي الذي يجد فيه البعض الطريق السّهل للخروج من واقع التخلّف، أمّا نحن فنجد فيه آلة استتباع وتهميش وسحق وإبادة.
"المواطن العالمي"، بوجود مستغلّ ومستغلّ، بوجود شمال غني وجنوب فقير، بوجود قوى إستكبار واستعمار وهيمنة، وهم وخدعة ومشروع يخدم مشروع التسلّط الأميركي. ألا تنبّه بعض العرب وبعض مثقّفيهم تحديداً (هؤلاء هم عملاء حضاريون) إلى أنّ الروح القومية والمصالح القومية هي التي تحرّك التاريخ وتنتج ديناميكيات الصراع الدولي؟ هذا هو السؤال الحاسم في اتّجاه أيّ تكامل عربي ممكن.
الأمّة اليوم تعاني من وهن كبير نتيجة الحروب عليها وفيها، تعاني من حصار واحتلال وهيمنة ونهب ثروة وفتن وحروب داخلية. فلكلّ قطر مصالحه وحساباته وحروبه. والأفق القومي مكسور. التحرير ما زال قضيّة. التحرّر ما زال قضيّة. التنمية مازالت قضيّة. الديموقراطية والحريات وحقوق الانسان مازالت قضية. الوحدة مازالت كلّ القضايا. وذلك منذ الأربعينات والخمسينات والستينات حتى اليوم. وهذا ما يستوجب وضع منهج تكاملي للعلاقات العربية/ العربية وللعلاقات العربية بدول الجوار وللعلاقات العربية بدول العالم. فالأمّة، في غياب هذا المنهج، لا يمكن أن تعيش صراعاً أبدياً مع ذاتها والآخرين.
السّلام المطلوب هو بين العرب والعرب أوّلاً. ذلك ليكون للأمّة شأن واعتبار في سلام الدول والشعوب، إذا لم يكن العرب قادرين على التأثير في إعادة التوازن الدولي فليحاولوا، بالتكامل إعادة التوازن في ما بينهم على قاعدة إنهاء حروبهم وحروب الآخرين عليهم في سوريا والعراق واليمن وليبيا.
واذا لم يكن لهم دور في بناء نظام إقليمي متوازن، فلتكن لهم القدرة، أو النيّة والإرادة على الأقلّ، على بناء نظام عربي جديد.
وإذا لم يكن بوسعهم ألتفلّت من سيطرة قوى الاحتكارات الكبرى (الرأسمالية العالمية المتوحّشة) فليعمدوا إلى تحرير أنفسهم وثرواتهم الوطنية والقومية من قوى الاحتكارات الصغرى، وكلائها المحلّيين.
وإذا كانوا عاجزين عن إنهاء الحروب عليهم فليعملوا على تصفية حروبهم القبلية والدينية والمذهبية.
لقد بات من أقصى طموحات المرحلة إنجاز بعض من بعض تفاهم مطلوب بين العرب والعرب.