اللغة العربية و تحديات البقاء من منظور الأحقية القرآنية
مداخلة أعدت بمناسبة المؤتمر الدولي الخامس للغة العربية بدولة الامارات العربية المتحدة - دبي - أيام :4-7 مايو 2016
إن اللغة العربية في عصر العولمة باتت تعيش تهديدا حقيقيا لمكانتها بتكنولوجيا رفيعة المستوى تستعمل في التواصل و التخاطب تقنية متطورة و هذا ما بدى واضحا عبر مجالات التواصل الاجتماعي و كذا اختيار اللغات المنافسة كلغة أولية للتعلم و البحث عن المعلومة و باقي الخدمات الأخرى كالسياحة و التكوين بالخارج مما صعب على اللغة العربية أن تأخذ لها مكانة بمثل باقي اللغات في استعمال التقنية الحديثة ، و لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو : هل فعلا ستستمر سيطرة اللغة الانجليزية بحكم أنها لغة عالمية لأكبر قوة عالمية و كذا الصينية بحكم انتشار الجنس الأصفر عبر مختلف نقاط العالم بسبب الهجرة و التجارة و الاستثمار في أن تتأرجح مكانة اللغة العربية إلى الخلف بسبب ظاهرة المنافسة اللغوية و هي اللغة التي خاطب بها الله تعالى خلقه في قرآن كريم منزل من لدن حكيم ؟.
فالقرآن الكريم هو كلام الله تعالى المنزل إلينا و المتعبد بتلاوته و المتحدي بإعجازه ، هذا الإعجاز متضمن لغة جميلة وواضحة المعالم و الأبعاد ، خاصة إذا ما تناولنا هذا القرآن بالتفسير ، فقد اختار الله سبحانه و تعالى اللغة العربية لغة كتابه المقدس ، لما لهذه اللغة من مزايا التعبير و البيان ما لم تحظ به لغة أخرى مصداقا لقوله تعالى " قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون " الآية 28 من سورة الزمر ، و قوله أيضا " ومن قبله كتاب موسى اماما و رحمة و هذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا و بشرى للمحسنين "الآية 12 من سورة الأحقاف.
و النصوص عديدة تضمنت توضيح مكانة اللغة العربية ، حيث أن التعبير الجمالي يحمل الدقة في البيان و البراعة في صياغة الجمل و التعابير و ما اظفى على هذه اللغة من دقة الوصف فهو بسبب صفة الإعجاز العلمي التي تحلى بها القرآن الكريم ليمتزج هذا الوصف بالدليل على قدرة الله تعالى في مخلوقاته و فيما أبدعه من صنع ، وما سلاسة اللغة الموضحة للمعنى من هذا البيان القرآني إلا تأكيد على قوة تأثيرها و انتشارها ، حتى أن هذا الجمال و التميز جذب العديد من المهتمين بشأن اللغة العربية و اجتهدوا في معرفة المزيد من تنوع الثراء لهذه اللغة العريقة.
و لذلك وجد هؤلاء الباحثين أن ترجمة القرآن إلى لغات أخرى من شأنها أن تذهب صفة الإعجاز و التفرد بالشرح الوافي نظرا لغناء اللغة العربية بالوصف اللفظي مقارنة مع غيرها من اللغات ، و قد تحدى الرسول صلى الله عليه وسلم –العرب قاطبة- و هم أهل البلاغة و البيان على أن يأتوا بمثل ما جاء في القرآن و لو سورة واحدة ، و هذا التحدي لم يكن فيما احتواه القرآن من أحكام و نصوص تشريعية و إنما في تنظيمه الإبداعي ، و لكنهم لم يقدروا ،لأن من سمات الإعجاز للقرآن الكريم أنه مكتوب بلغة فريدة في معانيها و صياغتها الأدبية الرائعة ، و هذا ما سيمنح للغة العربية بقاءا أبديا ما دام القرآن الكريم باق بنص منه و هو قوله تعالى " انا نحن نزلنا الذكرى و انا له لحافظون " الآية 9 من سورة الحجر.
و ربما يطرح سؤال بشأن نزول القرآن بغير اللغة العربية ، أي لماذا نزل القرآن الكريم باللغة العربية و لم ينزل بغيرها ؟، و الجواب هو في قوله تعالى " و لو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته ، أأعجمي و عربي ، قل هو للذين آمنوا هدى و شفاء
و الذين لا يؤمنون في آذانهم وقر و هو عليهم عمى ، أولئك ينادون من مكان بعيد" الآية 44 من سورة فصلت ، و أي كتاب سماوي نزل باللغة التي يفهمها الرسول، و عليه اختيرت اللغة العربية لينزل بها القرآن الكريم و هو واضح في قوله تعالى "و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء و يهدي من يشاء و هو العزيز الحكيم" الآية 04 من سورة إبراهيم ، و عليه فان اللغة العربية هي لغة الرسول صلى الله عليه وسلم و هي اللغة التي يتكلم بها مع قومه لشرح أمر الله تعالى في تبليغ الرسالة ، أضف إلى ذلك خصائص اللغة العربية و ما تتميز به من مرونة و عذوبة في الألفاظ و كذا إمكانية تعريب الكلمات ما يجعل اختيارها كلغة للقرآن الكريم اختيارا صحيحا و من هنا امتلكت اللغة العربية أحقية قرآنية من منظور النطق و البلاغة و الفصاحة لتزيد الإعجاز العلمي للقرآن الكريم جمالا و روعة و تحديا لكل من تسول له نفسه التشكيك في أهمية
و قيمة اللغة العربية من منطلق هذه الأحقية العريقة.
فاللغة أيا كان نوعها و طريقة النطق بها هي بمثابة الفكر الصامت الذي فيه القيمة الجوهرية الكبرى في حياة كل أمة و اللغة هي الأداة التي يتم بها التعبير عن رغبة أفراد أي مجتمع في التمسك بهويته و انتمائه الحضاري ، اللغة هي سلاح يقر به الناطق عن أصله و
جنسيته و منهاج تفكيره و ميوله ، باللغة يتم نقل المفاهيم و الأفكار من شخص لآخر ، باللغة تتم ترجمة المعاني حتى يتم فهمها على النحو الصحيح خاصة إذا ما اعتمدت على الترجمة الصحيحة ، باللغة يتم الكشف عن الغموض و تيسير الصعب و تقريب الميولات و الرغبات ، باللغة يتم التصريح عن مكنونات العقل و القلب معا فيتم لم ذاك النسيج المتدفق من الأهداف ليتم إيصالها للغير من غير غموض ، فمتى اعتمدت اللغة على التبسيط في النطق كانت أقرب لسامعيها في الفهم .
يقول الدكتور الأستاذ فرحان السليم في مقاله المعنون باللغة العربية و مكانتها بين اللغات أن اللغة هي الترسانة الثقافية التي تبني الأمة و تحمي كيانها، و قد قال فيلسوف الألمان فيخته
"اللغة تجعل من الأمة الناطقة بها كلا متراصا خاضعا لقوانين ، إنها الرابطة الحقيقية بين عالم الأجسام و عالم الأذهان" ، و يقول مصطفى صادق الرافعي " إن اللغة مظهر من مظاهر التاريخ ، و التاريخ صفة الأمة كيفما قبلت أمر اللغة –من حيث اتصالها بتاريخ الأمة و اتصال الأمة بها- أوجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول بزوال الجنسية و انسلاخ الأمة من تاريخها".
و لا يمكن إخفاء حقيقة العرب و ما قاموا به من نشر الإسلام إلى العالم حيث حملوا معهم القرآن بالعربية و قامت شعوب آسيوية باستعراب مراجعهم و كتبهم و اختاروا بذلك لغة القرآن على لغتهم الأصلية لإعجابهم باللغة العربية و ما تحتويه من قوة البيان و فصاحة اللسان الناطق بها ، و ليس يخفى على احد إقبال رؤساء أكبر الدول المتقدمة على تعلم اللغة العربية لاعجابهم بها و من ثم اقبالهم على فهم فصولها و معانيها ، ليس لتوظيفها في السياسة و ما تتطلبه من معاملات ديبلوماسية و انما أيضا لفضولهم و شغفهم في تعلمها و اتقان النطق بها.
هذا و يصرح الدكتور فرحان السليم أن الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام شاركوا الأعاجم في عبء شرح قواعد اللغة العربية و آدابها للآخرين فكانوا علماء النحو و الصرف و البلاغة بفنونها الثلاثة : المعاني ، البيان و البديع ، و قد غبر وقت طويل كانت اللغة العربية هي اللغة الحضارية الأولى في العالم ، و هي أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها من ألفاظ و تراكيب و صرف و نحو و أدب و خيال ، مع الاستطاعة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة و نظرا لتمام القاموس العربي و كمال الصرف و النحو فإنها تعد أم مجموعة من اللغات تعرف باللغات الأعرابية أي التي نشأت في شبه جزيرة العرب ، أو العربيات من حميرية و بابلية و آرامية و عبرية و حبشية ، أو الساميات في الاصطلاح الغربي و هو مصطلح عنصري يعود إلى أبناء نوح الثلاثة : سام و حام و يافث ،فكيف ينشأ ثلاثة إخوة في بيت واحد و يتكلمون ثلاث لغات ؟ ، هي اللغة العربية أداة
للتعارف بين ملايين البشر المنتشرين في آفاق الأرض ، و هي ثابتة في أصولها و جذورها متجددة بفضل ميزاتها و خصائصها.و من هنا برزت مكانة و قيمة اللغة العربية و بدى لها الشأن الكبير في نقل الثقافة العربية كأداة لنقل الثقافة العربية عبر قرون من الزمن ، و بالتالي كانت و لا زالت اللغة العربية هي لغة الالتقاء بين العرب و شعوب كثيرة في هذه الأرض قبل أن تكون الأونيسكو و المؤسسات الدولية في الكثير من مفاهيمهم و أفكارهم و مثلهم ،حيث جعلت من الكتاب العربي المبين ركنا أساسيا من ثقافتها و عنصرا جوهريا في تربيتها الفكرية و الخلقية.
و من باب الأحقية القرآنية كما سبق و ذكرت فان اللغة العربية غدت لغة تحمل رسالة نبيلة و استطاعت أن تكون لغة حضارة إنسانية واسعة اشتركت فيها أمم شتى كان العرب نواتها الأساسية و الموجهين لسفينتها ، حيث اعتبروها جميعا لغة حضارتهم و ثقافتهم ،فاستطاعت أن تكون لغة العلم و السياسة و التجارة و العمل و سن القوانين ، و كتابة الفلسفة و التصوف و الأدب و الفن و غيرها من الميادين و المجالات .
أما القرآن الكريم فبالنسبة للعرب هو مرجعيتهم المقدسة و التي لا جدال فيها على الإطلاق فهو يكتسي ثوب الإعجاز الرباني و هو المصدر الوحيد الذي جذب إليه نسبة كبيرة من ملايين البشر و من مختلف الأجناس ، و من هذه القيمة اللغوية نالت اللغة العربية تشريفا منقطع النظير و الفضل كل الفضل للقرآن الكريم الذي منحها تاج التفوق و الريادة و من غير منافس.