مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2016/05/07 00:35
نحو اتحاد عربي وحدوي

د. ساسين عساف 

الشعب العربي لم يقرّر التخلّي عن فكرة الوحدة على الرغم من فشل صيغة الجامعة ودورها في قيادة العمل العربي المشترك بل انّه ما زال يعي مدى الحاجة إلى تطوير آليات عملها واعادة النّظر في مؤسّساتها ومواثيقها فالكيان السياسي العربي أو النظام العربي الرسمي مرهون بهذه الآليات بنية ودوراً ومسؤولية واستراتيجية عمل.

أ- الاتحاد العربي الوحدوي ضرورة واقعية

ضرورته تعود لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية وجميعها مرتبط بتحدّيات المستقبل العربي في التحرير والوحدة والتنمية والديموقراطية والعدالة والتجدّد الحضاري.

فالاحتلال الصهيوني لفلسطين يزداد قوّة وهو يهدّد بشتات فلسطيني جديد على الرّغم من أعمال الانتفاضة الثالثة وقوّة صمودها وقدرتها المتزايدة على الحاق الخسائر المادية والبشرية والهزائم النفسية بجيش الاحتلال والمجتمع الصهيوني..

والاحتلال الأميركي العائد إلى العراق بصورة مباشرة وغير مباشرة ليس الى زوال في المدى المنظور لأنّه احتلال استراتيجي لحماية المصالح الأميركية في منطقة آسيا والشرق الأوسط على الرّغم من انهزامه أمام ضربات المقاومة العراقية التي أذهلته بسرعة ردود فعلها وتحوّلها الى مقاومة وطنية أنزلت به خلال أقلّ من سنة خسائر بشرية ومعنوية لم ينزلها به الفيتناميون الاّ بعد مرور أربع سنوات على احتلاله لأرضهم..

الحرب الكونية على سوريا وفيها باستراتيجيات وأدوات متعدّدة لم تتوقّف ولن تتوقّف إلاّ بتدمير وحدتها وإنهاء دورها في الصراع العربي/ الصهيوني..

والنزاعات العربية/ العربية، خصوصاً المذهبية منها، ما زالت قائمة ويشتدّ أوارها بفعل تدخلات إقليمية تحديداً في اليمن والعراق وسوريا ولبنان والبحرين والسعودية والكويت.. وواقع انهيار الكيانات القطرية ينبئ بتحلّل الدولة..

التخلّف بمختلف تصنيفاته ينبسط بقوّة من المحيط إلى الخليج.. والثروات القومية مبدّدة ومنهوبة..

قوى الغلو والتطرّف والعنف والإرهاب تمكّنت من قضم "الربيع العربي".

النظام العربي الرسمي مفلس.. أفلسته القطريّات الهشّة التي قدّمت كلّ ما هو قطري على كلّ ما هو قومي.. و"السيادة القطرية" الوهمية أو الافتراضية تحوّلت إلى عنصرية.. "الانتماء القطري" ألغى أو يكاد أن يلغي "الانتماء القومي"..

جامعة الدول العربية لم تتمكّن من وقف الحروب بأشكالها كافة ومن معالجة التناقضات بين الأقطار بإلغائها أو بالحدّ منها ومن تفاعلاتها.. وهي متناقضات مرتكزها الكيان القطري.. بل فاقمتها يوم استجارت بالأمم المتّحدة (عملياً بالأطلسي) لضرب ليبيا ويوم علّقت عضوية سوريا ونزعت عن الحكم شرعيته، فأمست الجامعة، بنتيجة عجزها في بعض المواقع، وربما تواطئها في مواقع أخرى، نقيضاً لرغبات الشعب العربي في الوحدة ولشعوره بالانتماء الى ثقافة واحدة وأمّة واحدة وتاريخ واحد.. فكرّست واقع التجزئة.. وتحوّلت الى هيكل فارغ الاّ من بعض القرارات غير المجدية والبيانات الموسمية..

أمّا اليوم، والعرب مدعوون الى اعادة ترتيب أوضاعهم الداخلية على قاعدة الاعتراف بانهيار النظام العربي الرسمي السابق بكلّ مؤسساته وسياساته انهياراً كلّياً، فالمبادرات التي أطلقت لبناء نظام عربي جديد ومؤسسات عمل قومي بديلة هي مبادرات جدّية وجادّة وتنطوي على أفكار كفيلة باخراج العرب من مآزقهم الراهنة.

ب- دور الاتحاد العتيد

انّ دور الاتحاد العتيد مرتبط بصيغته.. ونحن من مؤيّدي "الصيغة الاتحادية " القريبة جدّاً من صيغة الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والمترجمة فعلاً في المجالات الاقتصادية والأمنية والسياسية والثقافية..

هذه هي الصيغة الوحيدة القادرة على مواجهة مشاريع "الشرق الأوسط الكبير" أو "الجديد" أو أيّ شرق آخر أميركي/ صهيوني، وعلى استيعاب المتغيّرات الاقليمية والدولية الراهنة وعلى الدخول في نظام دولي متعدّد الأطراف وفي "الشراكات" المتعدّدة من موقع الكتلة التاريخية والقوّة الفعلية والشريك الحقيقي..

هذه هي الصيغة الوحيدة القادرة على إقامة نظام أمن قومي عربي مقاوم ومتمكّن من إنجاز التحرير والاستقلال والسيادة القومية..

هذه هي الصيغة الوحيدة القادرة على مواجهة التجزئة بكلّ أشكالها القطرية والدينية والطائفية والمذهبية والاتنية من دون أن تلغي الخصوصيات الثقافية ومن دون أن تسمح لها بالتحوّل الى حقوق سياسية في الاستقلال أو الانفصال عن هويّة الأمّة..

الصيغة الاتحادية تتطلّب وعياُ سياسياً وقومياً يترافق مع مجموعة إجراءات إصلاحية، فمشكلة جامعة الدول العربية تكمن في الدول العربية وتحديداً في أنظمتها السياسية وفي ثقافتها القومية.

إنّ إصلاح الأنظمة على قواعد الديموقراطية والحرية وحقوق الانسان والعدالة والتنمية يفضي بالطبع إلى قيام اتحاد عربي وحدوي تتمثّل فيه حكومات تمثّل شعوبها، وتالياً، يفتح مؤسّساته لقوى المجتمع المدني وقطاعاته الحيوية..

هذا ما نراه مناسباً وضرورياً لإخراج النظام العربي من مأزقه الراهن.

إصلاح الأنظمة على القواعد التي إليها أشرت يؤسّس لنظام عربي جديد يقوده اتحاد عربي جديد وقويّ وقادر على حماية المصالح القومية ومواجهة المشاريع المضادّة لمشروع الوحدة العربية.

إصلاح الأنظمة يحرّر الحكومات العتيدة من أشكال التبعية والارتهان كافة لإرادة القوى الإقليمية والدولية ورغباتها، فالأنظمة المنبثقة من خيار الشعب والحائزة على تأييده والمعبّرة عن إرادته هي بغنى عن أيّ شكل من أشكال الارتهان.

تحرير الحكومات يفضي حكماً إلى قيام اتحاد عربي وحدوي ذي قرار حرّ وسيادة تامة..

وعليه، إنّ تفعيل منظومة العمل العربي المشترك متعذّر ما دامت الأنظمة تابعة ومرتهنة وغير معبّرة عن إرادة شعوبها.. فتلك المنظومة تعكس واقع هذه الأنظمة.. واذا كان قرار الأنظمة يصنع في الدوائر الأميركية وغير الأميركية ويملى عليها فكيف لأيّ اتحاد كان أن يكون له قرار وسيادة؟!

ج- مضامين الاتحاد العتيد

- المضمون الاقتصادي

الصيغة الاتحادية تستدعي الانتقال من المضمون الايديولوجي إلى المضمون الاقتصادي. فالأولويّة، في زمن التكتّلات الدولية الاقتصادية الكبرى، هي لقيام كتلة اقتصادية عربية تمهيداً لقيام الوحدة السياسية.. والعكس لا يستقيم.. التكامل الاقتصادي هو المبدأ الحاكم في مرحلة التأسيس وذلك من خلال تنمية المصالح المشتركة (إصلاحات، تشريعات، منطقة تجارية حرّة، سوق مشتركة، طرق ومواصلات ووسائل اتّصال وتبادل خبرات ومعلومات، تسهيل انتقال رؤوس الأموال والعمالة، مياه وريّ وسدود وإنارة...)

- المضمون الأمني

الصيغة الاتحادية تستدعي الانتقال من مفهوم الأمن القطري إلى مفهوم الأمن القومي. فالأولوية، في زمن الاحتلال المباشر والعدوان المستمر والحروب والفتن المتنقلة ووجود القواعد العسكرية الأجنبية في غير قطر عربي، هي لاستراتيجية أمن قومي عربي قوامها قوّات عربية منتظمة في جيش عربي واحد ترتبط قيادته بمجلس دفاع تابع للاتحاد ومسؤول عن تحرير الأرض وحماية الأمن القومي. وثمّة خطوات تمهيدية تؤسّس لبناء جيش عربي واحد، منها: انشاء مجلس تنسيق لقيادات الأركان في الجيوش القطرية لوضع الترتيبات والاستراتيجيات التحريرية والدفاعية، تشكيل قوّات حفظ سلام عربية، إنشاء أجهزة تنسيق خطط التسليح والتدريب والموازنات وسائر الأعمال اللوجستية.. هذه الخطوات لن ترسم ولن تنفّذ ما لم تحسم الأنظمة والحكومات أمرها لجهة الاصلاح السياسي وإعادة النظر في كلّ سياسات الاعتراف بالكيان الصهيوني وإلغاء المعاهدات المعقودة معه، وفي كلّ المواقف المؤيّدة للحرب على سوريا وفيها وعلى اليمن وفيه وعلى ليبيا وفيها..

- المضمون السياسي

الصيغة الاتحادية تستدعي الانتقال من سلطة الاستبداد إلى الدولة الحديثة، دولة المجتمع المدني المشارك في إدارة السلطة، دولة المؤسسات والممارسات الديموقراطية واحترام الحريات وحقوق الانسان، دولة الدساتير والقوانين المدنية والقضاء العادل، دولة المواطنين والتنمية والعدالة الاجتماعية، دولة المجتمع المتعدّد سياسياً وثقافياً حيث لا هيمنات فئوية ولا "هويات أقلّوية مقموعة"..

يتعذّر قيام صيغة اتحادية ديموقراطية وحديثة ما لم تسقط سلطات الاستبداد السياسي والثقافي في الوطن العربي.. من ليس ديموقراطياً في الساحة القطرية لن يكون ديموقراطياً في الساحة القومية.. لذلك، إنّ اتحاداً عربياً عتيداً يجب أن يتشكّل من دول عربية حديثة وليس من سلطات استبدادية. إنّ شرعيّة الاتحاد من شرعيّة أعضائه. ومجلس دول الاتحاد لن يكون شرعياً ما لم تكن هذه الدول دولاً حديثة بالتوصيفات التي إليها أشرت في كلام سابق..

هذا المجلس الاتحادي يمارس عمله ويرسم سياساته ويبني مؤسساته ديموقراطياً بشرط أن يكون أعضاؤه (رؤساء الدول القطرية) يمارسون أعمالهم ويرسمون سياساتهم ويبنون مؤسساتهم ديموقراطياً، أي بشرط أن يكونوا رؤساء دول حديثة.. وعليه، بعد قيام مثل هذه الدول في جميع الأقطار يكون الكلام على صيغة اتحادية تمهّد لقيام دولة الوحدة العربية واقعاً في سياقه التاريخي.

فضلاً عن ذلك ثمّة خطوات للدولة القومية الاتحادية، منها:

تشكيل مجلس أعلى للاتحاد من رؤساء الدول القطرية يحوّل مؤتمر القمّة إلى مؤسّسة دائمة، تشكيل مجلس الشعب العربي أو مجلس الأمّة (مجلس تشريعي) من رؤساء المجالس النيابية ونوابهم ورؤساء اللجان، تشكيل مجلس تنفيذي للاتحاد من رؤساء الحكومات ونوّابهم ووزراء الخارجية والدفاع، تشكيل محكمة العدل العربية من رؤساء مجالس القضاء الأعلى..

مستقبل النظام العربي الرسمي مفتوح على احتمالات كثيرة ومتناقضة تتراوح ما بين احتمال الزوال النهائي واحتمال إعادة التركيب وتوافر القدرة على الاستمرار بآليات واستراتيجيات ومؤسسات جديدة للعمل القومي.. إشارة السير في اتّجاه هذا الاحتمال أو ذاك هي الصورة التي ستقدّمها الأنظمة العربية للناس عن نفسها وعن صيغة المستقبل العربي من خلال كيفيّة تصدّيها لمشاريع الهيمنة والفتن والتجزئة.. وكلّ صورة تقدّمها بالابتعاد عن هذا التحدّي أو الهروب منه تعني أنّ العرب باتوا فعلاً خارج التاريخ..

***

* كتب عشية انعقاد الدورة السابعة والعشرين للمؤتمر القومي العربي في تونس.

أضافة تعليق
آخر مقالات