مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2015/05/06 00:47
نظرية العمل في الإسلام ودورها في تنمية المجتمع
د. أم كلثوم بن يحي
أستاذ مشارك/ جامعة طاهري محمد، بشار، الجزائر
[email protected]
 
الاستشهاد المرجعي للمقال: مجلة الناصرية، مخبر البحوث الاجتماعية والتاريخية، جامعة معسكر، العدد:4، جوان 2013م، ص:33-57.
 
مقدمة:
         الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين... أما بعد :
         فإن خيرية أي أمة وعزتها إنما هي مرهونة بعزمها وهمتها، مقدار سعيها لإعمار الأرض بالاجتهاد والعمل، والإسلام لم يجعل الحياة سهلة للمؤمنين لمجرد أنهم مؤمنون إنما أجرى عليهم سنن الكون التي تنص على أن الأرض يرثها من سعى لذلك وبذل الوسع من أجل اعمارها، بل وجعل قيمة كل إنسان في هذه الأمة تتحدد بما يتقنه من عمل.
         والعمل في الإسلام لا يقل أهمية عن العبادة وهذا ما يوضحه اهتمام القرآن بهذه الكلمة التي تعتبر من أكثر الكلمات ورودا فيه، حيث أشار إلى كلمة عمل: (19 مرة) وكلمة عملوا: (73 مرة)، وتعملون: (83 مرة) ويعملون: (56 مرة)، وأعمالهم: (27 مرة) ويعمل: (14 مرة) فضلا عن بقية المشتقات التي ذكرت مرات أقل مثل عملت – أعمل – يعمل – عملا – عملكم – أعمالكم – أعمالنا – عامل – عاملون – عاملين.. ويصل مجموع هذه الإشارات إلى ما يقارب 359 مرة، (عبد الباقي، م، د.ت:483) ويوضحه قول سيدنا عمر رضي الله عنه: " لان أموت بين شعبتي رحلي(حصاني) اضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي أن أقاتل مجاهدا في سبيل الله".( المتقي الهندي، ع، 1998م:4/125).
والباحث في تاريخ المغرب الأوسط يستطيع الوقوف على التغيير الملموس الذي أحدثه الفتح الإسلامي في نظرة المغربي للعمل وتطورها من اعتباره وسيلة ضرورية لتحقيق الاكتفاء والعيش الكريم إلى وسيلة لتحقيق التقرب من الله عز وجل ونيل رضاه، والتمكين لدينه في الأرض ونشر رسالته في جميع أقطار المعمورة، إضافة إلى كونه وسيلة الكسب الشريف والعيش الكريم، وقد حاولت من خلال هذا البحث بيان نظرية العمل في الإسلام، ثم بيان انعكاساتها الايجابية على المجتمع المسلم. 
المبحث الأول: مفهوم العمل في الإسلام
المطلب الأول: تعريف العمل
         إن للعمل في الإسلام مفهوما أشمل لا يقتصر على العمل اليدوي، أو الفعل الصناعي بأنواعه ومستوياته وأشكاله المختلفة، إذ يتسع ويمتد ليشمل العمل الأخلاقي والسلوكي الإنساني كله والعمل العلمي والأدبي والفكري.(الرزي،ح، 1998م:107).
والعمل لغة: المهنة والفعل من عمل عملا أي فعل فعلا عن قصد، والجمع أعمال وأعمله واستعمله غيره طلب إليه العمل، والعامل من يعمل في مهنة أو صنعة.(مصطفى وآخرون،1988م،ص:643).
وأما اصطلاحا: كل جهد مشروع يبذله الإنسان ويعود عليه أو على غيره بالخير والفائدة والمنفعة، سواء أكان هذا الجهد جسميا كالحرف اليدوية، أو فكريا كالتعليم والقضاء.(عاقل، ف،1974م،ص:345).
 المطلب الثاني: قيمة العمل في الإسلام
         إن الإسلام الذي ختم الله به الشرائع والرسالات السماوية أودع الله فيه عنصر الثبات والخلود وعنصر المرونة والتطور معا..... وهذا من روائع الإعجاز في هذا الدين وآية من  آيات عمومه وصلاحيته لكل زمان ومكان، وبهذه المزية يستطيع المسلم أن يعيش ويرتقي ثابتا على أصوله وقيمه وغاياته متطورا في معارفه وأساليبه وأدواته، متخذا من العمل وسيلته الأساسية في ذلك، حيث يوضح القرآن الكريم أن خيرية الإنسانية يكمن في العمل. (الرزي،ح، 1998م:8).
         وبالنظر إلى سيرة الأنبياء والرسل نجد كل واحد منهم أتقن من المهن والحرف ما كان مصدر رزقه فهذا نوح عليه السلام كان نجارا، وهذا إبراهيم خليل الله يمتهن الرعي، وهذا إدريس يشتغل خياطا، وهذا داوود يشتغل خواصا، وهذا يوسف يعمل قيما على خزائن مصر، وهذا زكريا يمتهن النجارة، وهذا  موسى كليم الله يشتغل أجيرا عند شعيب ثم راعيا، وهذا محمد حبيب الله يمتهن الرعي ومن بعده يحترف التجارة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم فقال أصحابه وأنت فقال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة .(العسقلاني،إ،1986م:2/516).
ومن الفوائد التي ذكرها العلماء من هذا الحديث أن: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادا. (العسقلاني،إ،1986م:2/516)
وقد كان الصحابة إلى جانب اشتغالهم بالجهاد والإعداد له يعملون في حرف ومهن توفر لهم قوت عيالهم فهذا أبو بكر يشتغل تاجرا، وهذا عثمان بن طلحة خياطا، وهذا خباب بن الأرت حداداً، وعبد الله بن مسعود راعياً للغنم، والزبير بن العوام خياطاً وتاجراً، وسلمان الفارسي حلاقاً.(الطبري،م، 1407هـ:2/305، الخزاعي،1985م:1/709).
         لقد جاء القرآن الكريم والسنة النبوية زاخرين بما يحث على العمل ويقدسه ويجعله لصيق الإيمان بحيث لا يتحقق أحدهما دون الآخر، وبما يحث على أن يعتمد المسلم في عيشه وعيش من يعيلهم على نفسه بحيث لا يكون عالة على مجتمعه يتجرع مهانة المسألة، ونذكر منها:
2-1 القرآن الكريم:
 - فقد جعل المولى عز وجل العمل فريضة شرعية فقال: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾،(التوبة:105).
- وقد وجه الشارع الحكيم عباده إلى السعي والعمل بعد انقضاء العبادات المفروضة، فقال تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾، (الجمعة:10).
 - كما أمر المولى عز وجل عباده أن يستغلوا خيرات الأرض ولا يكون ذلك إلا بالعمل والسعي الحثيث، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾، (الملك: 15).
- كما قدم سبحانه وتعالى العمل والسعي من أجل الرزق على الجهاد، فقال: ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾، (المزمل: 20).
2-2 السنة النبوية:
- عنْ أبي موسى الأشعري، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ ؟، قَالَ: يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ، فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ، قَالَ : قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟، قَالَ: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ، قَالَ: قِيلَ لَهُ : أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ؟، قَالَ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ الْخَيْرِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟، قَالَ:  يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ".رواه مسلم في صحيحه، (النووي، ش، 1996م: 2/78).
 - وعن أبي زرعة عن أبي هريرة قال:( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ ". رواه مسلم في صحيحه، (النووي، ش،1996 م: 2/108).
- وعنه صلى الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا صَلَّيْتُمُ الْفَجْرَ فَلا تَنَامُوا عَنْ طَلَبِ أرزاْقِكُمْ). (المناوي، م، 1994م:1/501).
- وعن المقدام رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ.).رواه البخاري في صحيحه.(البخاري،م،1987م:2/7).
- وعن ابن عمر مرفوعا: (إن الله يحب العبد المحترف).(ابن مفلح، م، دت، ص:278).
- وعن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أزكى ؟ قال:(كسب المرء بيده وكل بيع مبرور).(المتقي الهندي، ع،1998م،4/243).
2-3 من الأثر:
- قال ابن الجوزي: قيل لأحمد:" ما تقول في رجل جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتي رزقي ؟ فقال أحمد هذا رجل جهل العلم أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم:( إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي، وقال حين ذكر الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخلهم، والقدوة بهم". (ابن مفلح، م، دت، ص:277).
- وقال
أبو سليمان الداراني رحمه الله:" ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يتعب لك ولكن ابدأ برغيفك فأحرزهما ثم تعبد". (ابن مفلح، م، د.ت، ص:277).
- وروي أن لقمان الحكيم عليه السلام قال لابنه:" يا بني استعن بالكسب الحلال فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال : رقة في دينه وضعف في عقله وذهاب مروءته، وأعظم من ذلك استخفاف الناس به". (ابن مفلح، م، دت،ص:277).
الفرع الأول: العمل والروحانيات
         لقد خلق الإنسان مجبولا بحب العمل والسعي لتوفير متطلبات الحياة على اختلاف في كيفية تحقيق ذلك، فالإنسان الذي يرى الوجود متخطّياً حدودَ المادة يمتلك نظرة أوسع للعمل، وبتقديسه له يوسّع من مجالات الفعالية والحركة -وهي صفة من صفات المسلم- على عكس من لا يتخطى حدود الملموس والمرئي.
         ولقد عملت الشريعة الإسلامية من خلال النصوص الشرعية على استحضار الوازع الديني عند العامل المسلم ما يجعله يراقب عمله خشية الحساب الأخروي فيجرده من الغش والرياء وتحقيق المصالح الخاصة على حساب مصالح الأمة؛ لذلك يفترض في الوازع الديني تحقيق التفوق الاقتصادي والتطور للأفراد قد لا تستطيع القوانين الوضعية والرقابة العملية والحوافز المادية تحقيقه.
والإسلام دين لا رهبانية فيه، وقد دعا القرآن الكريم إلى الجمع بين نصيبي الدنيا والآخرة؛ فقال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا.(القصص: 77)، كما لا تواكل فيه فعن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:( ما منكم من أحد - أو : ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة " ، فقال رجل : يا رسول الله، أفلا نتكل وندع العمل ؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاء ؟ فقال: "أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء فييسرون إلى عمل أهل الشقاء "، ثم قرأ :  ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (سورة الليل: 5-7) .(ابن كثير، ا، 2002م: 8/419).
الفرع الثاني: شمولية العمل لمناحي الحياة
         إن الإسلام وهو يدعو إلى العمل، ويشيد به لم يفرق بين كونه عملا في المجال الزراعي أو الصناعي أو عملا في المجال التجاري....بل ترك أبواب العمل ومجالاتها كلها مفتوحة للإنسان يدخل من أي باب، ويسلك من أي مسلك، فكل عمل يبلغ بالإنسان غاية ويحقق له نفعا من غير أن يؤذيه أو يؤذي الناس معه هو عمل يزكيه الإسلام ويجزي عليه الجزاء الحسن، (الخطيب،1985م،ص:185)، والناظر في النصوص الشرعية الخاصة بالعمل والسعي يسهل عليه ملاحظة تنوعها بتنوع المجالات التي وفرها المولى عز وجل للإنسان من أجل إعمار الأرض وتحقيق الخلافة، وقد ورد ذكر الكثير من الصناعات والمهن اليدوية في القرآن والسنة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- مهنة الزراعة: وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:( ما من مسلم يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو انسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)(البخاري، م ، 1987م: 2320).
2- مهنة الصيد:  وذلك في قوله: ﴿وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حليةً تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، (النحل:16).
3- صناعة السفن: وذلك في قوله: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم.(المؤمنون:27).
4- مهنة الحدادة: وذلك في قوله تعالى: ﴿وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس﴾، (الحديد:25).
5- مهنة النساجة: وذلك في قوله تعالى: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ﴾، (النحل 80).
6-صناعة السرابيل: وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾،(النحل: 81).
7-صناعة الدروع: وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ  أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، (سبأ: 10 – 11).
المبحث الثاني: ضوابط العمل في الإسلام
المطلب الأول: اختيار العمل المناسب
         بعد أن تأكد مما سبق أن العمل فريضة شرعية لا تقل أهمية عن فريضة العبادة، لا بد من التأكيد على أن العمل الناجح المتقن هو عمل تراعى فيه قدرات الأفراد ومواهبهم كل حسب اختصاصه، وهو أمر أولته الشريعة الغراء الاهتمام البالغ؛ ذلك أن للعمل والمهنة التي يزاولها الإنسان أثر مباشر في أخلاقه وسلوكه؛ كما أن حسن الاختيار له علاقة مباشرة ومتلازمة مع الإتقان والإبداع في العمل.
وقد ضرب لنا صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في ذلك، ففي غزوة الخندق لما أشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق اكتشف فيه القدرة على التخطيط الحربي فاستفاد من ذلك، ولما لمس من الصديق والفارق حسن التدبير والمشورة جعلهما من أهل مشورته، وجعل بلال الحبشي مؤذن المسلمين لحسن الصوت الذي حباه به المولى عز وجل، ولما لمس رقة القلب في أبي ذر اختاره لكتابة الوحي، وعزف عن توليته الإمارة.
 
المطلب الثاني: الخبرة
إن نجاح الأمم مرهون بطريقة تعاطي شعوبها مع العمل، والعمل الذي يفترض به تحقيق التطور الاقتصادي والنجاح الحضاري لا بد أن يكون عملا منجزا من قبل أهل الخبرة والاختصاص، يراعى فيه الالتزام الديني والأخلاقي.
المطلب الثالث: الإخلاص والإتقان
         أن تقوية البنية الاقتصادية لأي مجتمع مرهونة بدرجة إتقان أفراده للعمل وإخلاصهم في أدائه، والشارع الحكيم حث المسلم إتقان عمله والإخلاص فيه بما يقوّي البعد الديني للعمل ويكسوه بصبغة القداسة فالإتقان صفة وصف الله بها نفسه قال تعالى: ﴿ صنع الله الذي أتقن كل شئ ، (النمل 88).
          إن ما سبق يجعل من الإتقان في العمل ظاهرة سلوكية متجدرة في المجتمع المسلم الذي تفتقده الأمة، فالمسلم مأمور بتأدية عمله على وجه الإتقان والإحسان ومنهي عن التقصير والإهمال، يؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:  (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) . أخرجه مسلم في صحيحه، (النووي، ش،1996 م، ص:9).
والإتقان في المفهوم الإسلامي ليس تصرفا سلوكياً محض، بل هو ظاهرة حضارية تقاس بها الأمم من حيث التطور والتقدم، فمتى وجد وجدت معه الحضارة، ومتى غاب عدمت الحضارة.
المطلب الرابع: الثبات في العمل
         لقد حث الإسلام المسلم على الصبر في كل الأحوال، ومن هذه الأحوال العمل وما يحيط به من ظروف صعبة وتعب، فالصبر على ذلك من الأمور الموجبة لتكفير الذنوب، والإسلام بهذا المنظور الدقيق للعمل والثبات فيه مكن المسلم من بناء حضارة ما عرفت البشرية مثلها قط، لكن للأسف لقد نسي حديث الرسول وهو يعرفه عن معنى العمل الحضاري، بل هو يأخذ بيده ليصل به إلى ذروته حين يقول:( من كان بيده غرسة يريد غرسها وقامت الساعة فليغرسها)، لقد حرر هذا المبدأ العمل من جميع القيود ومنحه الاستمرارية خارج حدود الزمان والمكان.(رحمة، م ،2003 م:05).
         ولم يكتف الإسلام بدعوة الناس للعمل وحثهم عليه بل جعل لذلك نظاما استنبط من الفقهاء قواعد وأصول كثيرة، وبنوا عليها اجتهاداتهم في إطار الضوابط الأصولية المقيدة.(الرزي،ح، 1998م، ص:160).
 
المطلب الرابع: الالتزام بأخلاق العمل
للأخلاق مكانة هامة في حياة البشر فهي تحكم تعاملاتهم المادية والاجتماعية وهي صمام الأمان الذي يحميهم من أنفسهم، ولا يستقيم بذلك الحديث عن العمل بدون ولوج عالم الأخلاق، قال تعالى:﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾،(النحل: 97)، فالعمل المشروع المتقن الذي يرضي الله ورسوله هو عمل يلتزم فيه صاحبه بأخلاق الإسلام أولها: الأمانة المهنية، وهي تشمل جوانب عدة كالأمانة في المال وفي الوقت وفي الجهد، وفي السلوك، ثم يليها الصدق في كل الأحوال، كما لا يمكن الحديث عن الأخلاق بدون ذكر العدالة والنصح، ولين الجانب.
المبحث الثالث: أثر نظرية العمل على التنمية المجتمع
العمل محور العقيدة التي هي عماد الشريعة الإسلامية، فالأوامر والنواهي في الشريعة على كثرتها تصب في الحث على العمل، فالعبادة عمل والجهاد عمل، وطلب العلم عمل، والسعي إلى تحقيق خيرية الأمة وعزتها عمل، والدعوة إلى الله عمل، وخلافة الأرض عمل.....فقد رفع المولى مكانة العمل والعاملين إلى مقام العبادة والعابدين.
المطلب الأول: العصر النبوي
لقد نجحت التربية المهنية خلال القرون الهجرية الأولى في بناء حضارة إسلامية زاهية شملت العديد من المهن وكان ذلك بفضل استجابة المسلمين الأوائل للآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تدعو للعمل وكسب العيش من المهن، وكل ذلك لأن الإسلام ينظر إلى العمل والحرف والمهن نظرة كلها تكريم وإجلال تكمن في أن جعلها ضرورة من ضرورات الحياة، كما رتب عليها الأجر وجعلها أفضل الكسب وجوهر العبادة، وجعل تعلم أدائها وإتقانها والإخلاص فيها غاية يجب أن يسعى إليها المسلم. ،(عبد القادر، ع،2008م،ص:02).
وقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال ما تقدم ذكره من الأحاديث التي تقدس العمل  وغيرها على ترسيخ مبدأ الإخلاص في العمل وإتقانه واستحضار مراقبة المولى عز وجل لدى الجيل الأول للدولة الإسلامية ليقينه بأن المهن والحرف من أهم العوامل التي تدفع الأمم إلى الرقي وتحافظ على كيانها واستقلالها.
كما عمل صلى الله عليه وسلم على تصحيح المفاهيم المغلوطة التي كانت عند العرب في الجاهلية من احتقار لبعض الحرف والأعمال اليدوية، ورفع من قيمة العمل المشروع بغض النظر عن نوعه، وفي المقابل حذر من البطالة ونهى عنها مهما كانت دواعيها وأسبابها حتى أنه جعل جمع الحطب وبيعه على حقارته عند عرب الجاهلية خير من مسألة الناس، فهو القائل صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم أحبلا فيأخذ حزمة من حطب فيبيع فيكف الله به وجهه خير من أن يسأل الناس أعطي أم منع)، رواه البخاري في صحيحه.(العسقلاني، إ، 1986م:(2/57).
كما استطاع صلى الله عليه وسلم أن يوحد القبائل في شبه الجزيرة العربية ويحولهم من قبائل متناثرة متناحرة إلى قبائل موحدة شكلت النواة الأولى للإمبراطورية الإسلامية استفادت حضاريا من جارتيها الفارسية والبيزنطية من خلال فتح فارس والعراق وبل وتفوقت عليهما وعلى كل الحضارات بما كانت سبَّاقة إلى تحقيقه في جميع المجالات خاصة الفن المعماري والزراعة والصناعة، فبإسلام أهل فارس وأهل العراق ثم أهل مصر اختلط سكانها المسلمون مع بعضهم البعض وتنقلوا بين المدن الإسلامية ناقلين خبراتهم وحرفهم اليدوية وخبراتهم، فقد امتاز الفارسيون بصناعة النسيج، وعرف عن المصريين اهتمامهم بالفن المعماري بصناعة الملابس.(إسماعيل، م،  2012م:2-4).
1-              المهن والحرف عند العرب قبل الإسلام:
تتشكل الجزيرة العربية من الصحراء القاحلة ما جعل مواردها ضئيلة جدا تركزت أغلبها في إنتاج التمور وبعض محاصيل الطائف المحدودة، فعمد العرب إلى البحث عن بدائل مالية من خلال تجارة الرقيق، وغنائم الغزوات والغارات التي كانت تشنها القبائل القوية على القبائل الضعيفة، وفرض المكوس والإتاوات،  ويمكن إجمال الحرف والمهن التي كانت موارد للرزق في المجتمع الجاهلي فيما يلي:
1-1 التجارة:
اشتهرت قريش بتسيير القوافل التجارية، واحدة في الصيف إلى الشام، والثانية في الشتاء إلى اليمن يصدرون التمور والجلود والعطور، ويستوردون الزيوت والتوابل مستعملين الدينار الذهبي الروماني، والدرهم الفضي الفارسي، كما اشتهرت قريش بتجارة الخمر، وكثرة الخمارات.
1-2 الصناعة:
بسبب حالة الحرب المستمرة التي كانت تعرفها شبه الجزيرة العربية ازدهرت صناعة الأسلحة لكثرة زبائنها، وبالإضافة إلى ذلك اشتهرت مكة بصناعة الفخار وصناعة المفارش، صناعة الخمر والنخاسة، وآلات اللهو، كما اشتهرت الطائف بصناعة الجلود والحدادة، والصناعات العسكرية، أما يثرب فقد اشتهرت في الجاهلية بصناعة التحف والأسلحة والدروع، كما اشتهرت بصناعة الخمور
1- 3 الزراعة:
اعتمد العرب على الزراعة من أجل تلبية الحاجات الغذائية للقبيلة، فاشتهرت من الأراضي: اليمامة بريف مكة، وتهامةـ والطائف التي عرفت بالعسل والفواكه، ويثرب التي عرفت بالتمور، وعسير التي اشتهرت بالصمغ،  وقد استخدم العرب الثيران والجمال والحمير والبغال في جر المحراث وفي ضخ الماء بالدلاء من الآبار الكبيرة الواسعة لتسقي المزارع والبساتين والناس، وقد اشتهرت اليمن ببناء السدود وأنظمة الري المتقدمة . (خليل،م،1988م:33).
2-             التغيرات التي أحدثها الرسول على الحياة المهنية في شبه الجزيرة العربية:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم راعيا للغنم ثم تحول إلى التجارة ما مكنه من التواصل مع الفئات العمالية في المجتمع الجاهلي ومعرفة كيفية سير العمل عندها، فاستطاع أن يحافظ على الإيجابيات المهنية التي عرف بها العرب، وقضى على غيرها من السلبيات والمحرمات في الدين الجديد، فضبط السلوك التجاري من خلال منظومة أخلاق إسلامية وضوابط فرضت على التاجر المسلم، فمنع الغش والتدليس والغرر، والأهم من ذلك حرم التعامل بالربا الذي كان يشكل السرطان الذي ينخر المجتمع الجاهلي حيث يزداد الغني غنى الفقير فقرا، وأحاط البيع بجملة من الشروط لصحته تتعلق بالبائع وبالمشتري وبالسلعة فحفظ حقوق جميع الأطراف وقضى على الاستغلال، ما أسس لأول مرة في تاريخ المنطقة لإقامة سوق مستقر امتص البطالة وقلل من الغبن والاحتكار للموارد.
وكان المهاجرون أصحاب خبرة في التجارة فشجعهم الرسول صلى الله عليه وسلم على العمل بها في المدينة التي كانت مواردها المالية قليلة رغبة منه صلى الله عليه وسلم في تحسين الحالة الاقتصادية للمدينة المنورة فتاجروا ونشروا الإسلام وجاهدوا من أجل كلمة الحق موفقين بين الدين والدنيا، وقد استطاعوا في فترة قياسية النهوض باقتصاد الدولة الفتية.
أما فيما يتعلق بالزراعة فقد تقدم معنا حثه صلى الله عليه وسلم أصحابه على احترافها لما فيها من فضل واكتفاء وحفظ لماء الوجه، وقال : إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليزرعها، كما حثهم على الاحتطاب والرعي،وعلى كل عمل مشروع ذو قيمة مادية للإنسان.
وقد أضاف الرسول إلى جانب العناصر السابقة عنصر الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا،ـ فقد  رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على العلم والتعليم ويحث أصحابه على العلم في أحاديث كثيرة متعددة .. ويجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ويظهر حرصه صلى الله عليه وسلم على التعليم من خلال قبوله مفاداة أسرى قريش بتعليم المسلمين القراءة والكتابة، وكذلك بحرصه على أن يتعلم المسلمون اللغات الأخرى.. وحرصه على أن يتقن المسلمون كل الفنون والحرف التي يحتاجون إليها في كل عصر وبيئة.(حطاب،ك، دت:11).
إن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه التغيرات الجذرية حقق نموا اقتصاديا هائلا وبالمعنى العصري للكلمة، إنه صلى الله عليه وسلم استطاع أن يكون خير قدوة للصحابة رضوان الله عليهم في ترجمة العلم إلى عمل متقن فانطلقوا على هدى هذه الأحاديث في أرجاء المعمورة؛ يبشرون بالدينَ الجديد، مجاهدين في سبيل الله، وتجارا يلتمسون الرزقَ، وعلماء ينشرون العلم، ومن أمثلة ذلك:
1- مشاركته صلى الله عليه وسلم الصحابة في حفر الخندق رغم سنه الذي تجاوز السابعة والخمسين، هذه القدوة جعلت من الصحابة يتمون حفر الخندق في ستة أيام رغم قلة العدد وبرودة الجو وطول الخندق وعمقه.
2- مشاركته صلى الله عليه وسلم الصحابة في بناء مسجد المدينة فحمل الطوب والطين بعمر الثالثة والخمسين.
3- إظهاره الاحترام والتقدير للعامل البسيط وتشجيعه على الاستمرار ما ولد لدى الصحابة حب العمل واحترام العاملين، ومن أمثلة ذلك:   
أ- يلتقي عاملا من الأنصار فيرى في يده خشونة فيقول له: ما الذي أرى في يدك؟ فيقول العامل: إنه أثر المسحاة أضرب بها وأنفق بها على عيالي، فيقبل عليه الصلاة والسلام يده ويقول: هذه يد لا تمسها النار.
ب- مر على موكب الرسول صلى الله عليه وسلم رجل قوي، فقال الصحابة: لو كان هذا في سبيل الله- أي هذا الرجل القوي-، فقال الرسول: ( إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان).)الهيثمي،ن، 1994م:1/326).
4- أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن القعود عن العمل والتكاسل واتخاذ المسألة وسيلة كسب؛ فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله قال: "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم".رواه البخاري في صحيحه.(العسقلاني،إ، 1986م:1/397).
5- أنه صلى الله عليه وسلم نهى الصحابة عن الرهبانية، فقد روي أن الصحابة أطروا رفيقا لهم في سفر ومدحوه، كان لا يعمل سوي تلاوة الأدعية ما دام راكبا، وإقامة الصلاة عندما كانوا ينزلون. فسألهم الرسول صلي الله عليه وسلم :فمن كان يكفيه علف بعيره، وإصلاح طعامه؟ فقالوا ـ أي الصحابة ـ كلنا: «فقال الرسول الكريم: «فكلكم خير منه».
المطلب الثاني: العصر الراشدي
         لقد كان الخلفاء الراشدون يبدون رغبتهم بالعمل على الدوام ويبغضون البطالة بقدر رغبتهم في العبادة وبغضهم تضييعها، الأمر الذي انعكس على المرتبة الرفيعة التي تبوأتها الدولة الإسلامية في العصر الراشدي والتي يمكن إرجاعها إلى التزام الصحابة بثلاثية النجاح: الإخلاص، العلم، العمل، وفقد كان منهم الصانع والتاجر والمزارع الذي يتقن مهنته، إضافة إلى مساهمتهم العظمى في نشر الدين الجديد عن طريق الدعوة والجهاد.
وقد استطاع الصحابة الكرام القضاء على البطالة في المجتمع الإسلامي في بداياته ما مكنهم من جعله مجتمعا قويا مكتفيا مستقلا قادرا على حمل الأمانة ونشر الرسالة، وقد ذم السلف الصالح القادر العاطل عن العمل كقول ابن مسعود إني لأكره الرجل فارغا لا في عمل الدنيا ولا في الآخرة.
2-1 الخليفة أبو بكر: 
كان أبو بكر الصديق الذي هو من أشرف العرب وأحسنهم خلقا المحبوب عند قومه يعمل تاجراً، فعرف بغناه، وحتى لما ولي الخلافة وهب ماله لبيت مال المسلمين، وخرج في يومه الأول إلى السوق وهو يحمل لفافة فيها قماش وهو لا يري في ذلك بئسا، فرآه عمر رضي الله عنه وأبو عبيدة فوقفا يسألانه عن وجهته فقال: إلى السوق، قالا: لماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم أولادي؟ قال عمر: انطلق معنا نفرض لك شيئاً من بيت المال، فنادى عمر بالناس حتى اجتمعوا عندهما، فقال سيدنا أبو بكر:" يأيها الناس إني كنت أحترف لعيالي، وأنا الآن أحترف لكم فافرضوا لي من بيت المال، فقالوا: يا خليفة رسول الله لقد ترك رسول الله أمين هذه الأمة أبا عبيدة، فيحكم لك وعلينا، فقال أبو عبيدة: أفرض لك قوت رجل من المسلمين، ليس بأعلاهم ولا أدناهم، وكسوة الصيف والشتاء وركوبة تركبها، ففرضوا له مائتي درهم، فقال أبو بكر: أكتسب أكثر، ففرضوا له خمسمائة درهم.
وقال رضي الله عنه عن ماله:" كنت أتجر فيه، فلما وليت أمر المسلمين شغلت عن التجارة والطلب. ( البنا،ح،1979م:491).
أما عن أهم الأعمال التي قام بها الخليفة لإرساء قواعد الدولة الفتية هي إعداد شعب متقن متفان في عمله رباني التوجه، وكان رضي الله عنه خير قدوة لهم، ثم الانطلاق بهم للقضاء على الردة التي شهدتها الجزيرة العربية بعد وفاة الرسول، ثم التوجه بهم إلى مشارق الأرض ومغاربها لاستكمال الفتح، ولا بد هنا من الإشارة إلى ما صحب ذلك من ازدهار للصناعات الحربية.
 
 
2-2 الخليفة عمر:
         كان سيدنا عمر رضي الله عنه يلقب بالفاروق لشدة تمسكه بالحق والجهر به، كما كان مهاب الجانب، لا يخاف في الله لومة لائم، وافر العدل، وكان رضي الله عنه إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو الناسك.
         ولما تولى سيدنا عمر الخلافة أكمل الفتوحات التي كان أبو بكر قد بدأها وتوسعت الدولة حتى أصبح يصدق عليها اسم الإمبراطورية الإسلامية، فباشر بوضع الأسس الإدارية لها، ونظم الدواوين، وعمل جاهدا على النهوض بالإمبراطورية اقتصاديا، وكان يفضل السعي بحثا عن الرزق بدل الجهاد في سبيل الله، واهتم بالأرض الزراعية ليقينه بأهمية الاكتفاء الذاتي لشعبه، وفكان لا يقطع أرضا لأحد إلا بشرط عمارتها واستثمارها فإذا لم تظهر الآثار في ثلاث سنوات نزعها منه، ويعطيها لمن هو أولى منه، قال عمر "من كان له ارض فتركها ثلاث سنوات فلم يعمرها فعمرها قوم آخرون فهم أحق بها "، ومن المواقف الخالدة التي حوتها كتب الآثار عن العمل نذكر ما يلي:(المتقي الهندي، ع، 1998م:4/242).
- فقد دخل الخليفة عمر بن الخطاب المسجد فوجد رجلا لا عمل له فنهره. وقد أثر عنه قوله: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وإنما يرزق الله الناس بعضهم بعضا.
- عن نافع قال : دخل شاب قوي المسجد وفي يده مشاقص وهو يقول : من يعينني في سبيل الله ؟ فدعا به عمر فأتي به فقال : من يستأجر مني هذا ؟ يعمل في أرضه ؟ فقال رجل من الأنصار : أنا يا أمير المؤمنين قال : بكم تأجره كل شهر ؟ قال : بكذا وكذا قال : خذه فانطلق به فعمل في أرض الرجل أشهرا ثم قال عمر للرجل ما فعل أجيرنا ؟ قال : صالح يا أمير المؤمنين قال : ائتني به وبما اجتمع له من الأجر فجاء به وبصرة من دراهم فقال : خذ هذه فإن شئت فالآن اغزو إن شئت فاجلس.
- عن عمر رضي الله عنه قال : "إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول : له حرفة ؟ فإن قالوا : لا سقط من عيني".
- وعنه أيضا:"لان أموت بين شعبتي رحلي(حصاني) اضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي أن أقاتل مجاهدا في سبيل الله".(الهندي،م، :4/123).
- ولما بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه سفيان بن مالك ساعيا بالبصرة فمكث حينا، ثم استأذنه في الجهاد فقال له عمر: أو لست في جهاد؟ فقد قال صلى الله عليه وسلم: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يقوم الليل ويصوم النهار.(العسقلاني، إ، 1987م:9/410).
 
2-3 الخليفة عثمان:
من أهم انجازات الخليفة عثمان أنه أسس أول أسطول بحري حين غزا المسلمون قبرص، فعرف عهده ظهور صناعة جديدة عند المسلمين وهي صناعة السفن وقد اهتمام المسلمين بهذه الصنعة الجديدة، ثم  ازدهرت دور صناعة السفن في العصر الأموي وبناء المنارات، كما استحدث مهنة جديدة وهي مهنة التأذين، فالمؤذن قبل هذا كان يفعل ذلك تطوعا بدون أجرة، ففرض لهم سيدنا عثمان أجرة، وشكل جهاز الشرطة فوظف فيه الكثير من العمال.(الشفعي وآخرون،م، 1979م:284).
المطلب الثالث: مجتمع المغرب الأوسط
اعتمد سكان المغرب الأوسط على الزراعة في المقام الأول لتحقيق وذلك لتوفر الأراضي الخصبة والمياه فكان معظم البربر فلاحين وكانت أرضهم هي مورد رزقهم الأساسي، لكن الوجود البزنطي حرمهم هذا الامتياز الذي عرفوه عن طريق مصادرة جزء كبير من الأراضي من جهة، وعن طريق فرض الضرائب والمكوس على الأراضي الزراعية التي بقيت تحت أيدي البربر.
3-1 تأثير الفتح على المهن والحرف في المغرب الأوسط(الدولة الزيانية أنموذجا):  
عرف العالم الإسلامي عامة والمغرب الأوسط ثورة اقتصادية غيرت تاريخه ابتداء من منتصف القرن الثاني الهجري وعرف أوجه خلال القرنين (3ه-4هـ) أساسيتان هما الذهب وتجارة الرقيقـ، فبدخول البربر في الإسلام واعتناقهم لمبادئه التي شجعت على العمل وقرنته بالإيمان الموجب للجنة.(الجنماني، ح، 1978م،15).
فقد أثر الإسلام بشكل واضح وجلي على المهن والحرف اليدوية في المغرب الأوسط ما انعكس إيجابا على الأوضاع الاقتصادية له، فبالإضافة إلى كونه يشتمل على كل العناصر المساعدة على النهوض الحضاري فإن القيم الأخلاقية والمقدسة للعمل التي جاء بها الإسلام للمنطقة، وقدوم المسلمين الفاتحين وفيهم التجار وأصحاب المهن جعلت من العمل وسيلة يبتغي بها المغاربة رضوان الله تعالى.
أ- الصناعة:
تبعا للتطور الزراعي عرفت الدولة الزيانية تطورا صناعيا جعل الحياة الاقتصادية للدولة مزدهرة، حتى خصص للمهنة الواحدة جناح خاص بها في الأسواق، وعُرِف أصحاب الحرف بأنهم أكثر الناس ثراء ودخلا، وتجدر الإشارة إلى أن الذي ساعد بشكل مباشر على ازدهار المهن والحرف في الدولة في مرحلتها الأخيرة هو الهجرة الأندلسية إلى المغرب الأوسط التي حملت مئات الصناع المهرة في كل المجالات فاستفاد منهم سكان المنطقة ومن خبراتهم ما جعل الصناعة تزداد ازدهارا وتطورا، ومن أهم الصناعات التي عرفتها الدولة:
1- الصناعات المعدنية: لما كان الحديد الخام متوفرا في الدولة فإن الإقبال على تعلم صنعته كثر في الدولة فازدهرت لذلك صناعة السيوف والدروع والأبواب وأدوات الحرث وغيرها كثير، كما ازدهرت صناعة النحاس والمجوهرات، ويصف الحسن الوزان الحرفين بأنهم:" أناس أقوياء يعيشون في هناء و متعة،  و يحبون التمتع بالحياة":
2- الصناعات النسيجية: إضافة للصناعات المعدنية اهتم سكان تلمسان بالصناعات النسيجية من طرز وزرابي خصوصا في القرى مع جعل السكان يحققون فائضا في المواد المصنعة مكنهم من تصديرها إلى الدول المجاورة.(الوزان،ح، 1983م:19).
ب- التجارة:
اعتبرت تلمسان الزيانية مركزا تجاريا أساسيا في العالم الإسلامي يجمع سحر الشرق وغرائب الغرب، وبدائع الجنوب، وطرائف الشمال، الأمر الذي مكنها من بسط سيطرتها على القوافل التجارية خصوصا تلك التي تربط المشرق بالأندلس، كما اعتبرت مصنعا ضخما (الوزان،ح، 1983م:25)، حيث خصصت فيها أسواق بعينها لحرف معينة، مثل سويقة إسماعيل، وسوق السراجين والقبابين وسوق منشار الجلد وسوق الكتب(ابن مريم، 1980م).
وقد امتهن العديد من علماء الدين في العهد الزياني التجارة أمثال أبو زيد بن أبي العيش الذي كان يملك دكانا بجوار المسجد الكبير يستغله للتجارة وكان يعد ملتقى للعلماء والفقهاء، وامتلك بعضهم حرفا طلبوا بها الرزق كأبو إسحاق الخياط الذي كان له محلا لخياطة الملابس بدرب القبابين.(ابن مرزوق،مخطوط).
وفي صحراء الجزائر اشتهرت تجارة الذهب والرقيقـ وازدهرت المدن التي تمر عليها القوافل التجارية المتوجهة إلى الغرب الإفريقي.
ج- الزراعة:
عرفت الزراعة في العهد الزياني ازدهارا لافتا بسبب كثرة الأراضي الزراعية وتعدد السهول الخصبة ووفرة المياه، ما جعل الدولة تحقق اكتفاء ذاتيا .(العبدري،م،1999م:49).
خاتمة
لقد شدد الإسلام على العمل وضوابطه وأخلاقه وجعله ضرورة اجتماعية وحضارية باعتباره أداة للتطور الحضاري وتحقيق عزة الأمة وخيريتها المنشودة، ومن خلال العمل وعن طريقه أسس المسلمون الأوائل حضارة أنارت مشارق الأرض ومغاربها، وملأتها  عدلا ورقيا وحبا للحياة.
إن المغرب الأوسط شهد في العصر الوسيط فترة ذهبية، عرف فيها مجتمعه التطور والرقي في جميع المجالات الحضارية ابتداء بالصناعة وانتهاء بطلب العلم، وكل ذلك مرجعه إلى الفهم الصحيح للإسلام ورغبة البربر في نشر هذا الدين القويم في كل أرجاء المعمورة وبخاصة أروبا، وازدهرت فيه المهن والحرف أكثر من أي وقت مضى.
وإذا استطاع الغرب بما يعتريه من إيمان بالمادة وكفر بالروحانيات أن يقدس العمل ويرى فيه الوسيلة الأوحد للتطور والرقي، فسبق المسلمين في كل مجالات الحضارة، وصيَّرهم له تبعا ورهينة تأكل ما لا تزرع وتلبس ما لا تصنع رغم ما حبا الله به أرضهم من خيرات وموارد لا يملكها غيرهم ممن تطوروا وحققوا الاكتفاء والاستقلالية؛ ليطرح السؤال التالي: مع تقديس العمل في الإسلام واقترانه الدائم بالإيمان الموجب للجنة، نجد المسلمين أبعد ما يكونوا عن هذا المفهوم وعن تطبيقه مما سبب شرخا واضحا بين الإسلام كدين وبين المسلمين كمتبعين، فلماذا هذه الفجوة بين الإسلام والعمل؟؟؟.
قائمة المصادر والمراجع:
    - إسماعيل، محمود أحمد محمد، رؤية نقدية نحو مزج تجليات الطرز الإسلامية لحيز العمارة الإسلامية الداخلية       المعاصرة، المؤتمر العلمي الدولي الأول بعنوان: الفن في الفكر الإسلامي، 25-26 نيسان 2012م، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمان ، الأردن: www.iiitjordan.org/.../27-5-2012%20%207-1700.. - البخاري ، محمد بن إسماعيل :(1966م). صحيح البخاري، ط(3): دار ابن كثير، اليمامة، بيروت. - الجنماني، الحبيب، (1978م). المغرب الإسلامي_الحياة الاقتصادية والاجتماعية في القرنين(3و4هـ-9-10م)،الدار التونسية للنشر،الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر.
- حطاب، كمال توفيق، (2006م). دور الاقتصاد الإسلامي في حل مشكلات الشباب الاقتصادية، دط: جامعة اليرموك.
- الخزاعي، تخريج الدلالات السمعية له صلى الله عليه وسلم، من الحرف والصنائع والعمالات، تحـ: إحسان عباس، ط(1)، 1985م، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
- الخطيب، عبد الكريم، (1985م). التعريف بالإسلام في مواجهة العصر الحديث وتحدياته، ط(2)،دار المعارف للطباعة والنشر، بيروت.
- خليل، محسن،( 1988م). الاقتصاد الإسلامي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: دار الكتب العربية، بغداد .
- الرزي، حميد ناصر.(1998م). مفهوم العمل في الإسلام وأثره في التربية الإسلامية، دط، منشورات دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة.
- الشفعي، محمد سعيد، وآخرون،(1979مم)، تاريخ الحضارة الإسلامية،ط(2)، وزارة المعارف، السعودية.
-       العبدري، أبو عبد الله محمد بن محمد، (1999م). رحلة  العبدري، تحقيق علي إبراهيم كروي، ط(1)، دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع،دمشق.
- عبد الباقي، محمد فؤاد.(دت). المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر للطباعة والنشر،القاهرة.
- العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، (1986م)، فتح الباري شرح صحيح البخاري،دت، دار الريان للثرات.
- بن عبد القادر، علي، (2008م)، التربية المهنية في السنة النبوية وتفعيلها في المدرسة الثانوية، رسالة ماجستير في التربية الإسلامية غير منشورة، جامعة أم القرى.
- عاقل، فاخر، (1974م)، التربية قديمها وحديثها، ط(1)، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان.
- أبو عبد الله، محمد بن أحمد ابن مريم، (1980م). البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، تحقيق: محمد بن أبي شنب: المطبعة الثعالبية، الجزائر.
- الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الملوك والأمم، ط(1)، 1407هـ، دار الكتب العلمية ، بيروت.
- ابن كثير، إسماعيل بن عمر الدمشقي القرشي،(2002م)، تفسير ابن كثير، دط، دار طيبة.
- المتقي الهندي، علي بن حسام الدين، (1998م).كنز العمال، في سنن الأقوال والأفعال: مؤسسة الرسالة، بيروت.
- ابن مرزوق، محمد ابن مرزوق، المجموع، مخطوط، الرباط:الخزانة العامة، ميكروفيلم رقم 20، ورقات 12، 14، 15، 39.
- ابن مفلح، محمد المقدسي، (دت). الآداب الشرعية ومنح الرعية، (دط)، عالم الكتب.
- مصطفى، إبراهيم وآخرون.(1988م). المعجم الوسيط، دط، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
- المناوي، محمد عبد الرؤوف، (1994م). فيض القدير، ط(1)، دار الكتب العلمية بيروت، لبنان.
- النووي، أبو زكريا يحي بن شرف، (1996م).شرح النووي على مسلم: دار الخير.
- الهندي، المتقي، كنز العمال: islamport.com/w/krj/Web/1185/2389. 
 - الهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر، (1994م). مجمع الزوائد، دط، مكتبة المقدسي.
 
 
 
 
أضافة تعليق