مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/27 18:42
علاقة الأديب بالسياسي
- قراءة في مسرحية أبو دلامة - خاص بالوفاق
أ‌.مها المحمدي
المقدمة
بين جدية الحياة وهزلها إثارة ثقافية تهز وجدان الإنسان ويهزها ، كلٌ يتعامل مع الحدث ذاته بنظرة مختلفة، ولكنه في النهاية يُحقق لإنسانيته منه ما يريد، وما يُؤثر به ضمن مجريات تلك الحياة .
والأديب علي أحمد باكثير في رؤاه الفنية في مسرحياته كلون أدبي طرقه بعمق وغزارة استطاع خلق عمل فني عكس رؤيته للحقيقة في وجهها التاريخي الماضي أو في مرآة أحداث الواقع الذي عاصره وعايش أفراحه وأتراحه.
باشرت مسرحياته العمل السياسي مباشرة مصقولة ، وراوغ العمل السياسي مرواغة الضاحك الباكي، ولعل من مرواغاته تلك مسرحيته الهزلية
(أبو دلامة )والتي قسمها إلى أربعة فصول وعشرة مشاهد عرض فيها بسرد مضحك هازل لهو أبي دلامة وعبثه ومجونه وسوء علاقته بأسرته، بل وحتى سخريته من شكلهم ودمامتهم التي جلبت إليه متعةُ الاستهزاء بهم المنفعة المادية في علاقته مع الخليفة المهدي وزوجتيه وجلسائه ، متدرجاً إلى موت ابنه دلامة ليدخل مرحلة رفض وتمرد بعد سيرة التبعية التي اعتادها قبل، وسيعود إليها مرة أخرى في خطوط بعضها مستقيم وآخر متعرج.
وقد أشار الناقد للدكتور عبد الحكيم الزبيدي - بعنوان الالتزام في مسرحية (أبو دلامة لعلي أحمد باكثير ) إلى أن هذه المسرحية كانت
’’ من تلك الأعمال التي عجز الدارسون عن إدراك الغاية منها مع أنها فازت بجائزة وزارة الشؤون الاجتماعية بمصر سنة 1950م. ونعى على بعض الباحثين أمثال مديحة عواد وحسيب كيالي وعبدالله الطنطاوي – قصور إدراكهم لمغزى المسرحية ، وتناولهم السطحي لها ، وقد أخذ يجلي مغزاها بدءا من العتبة المتمثلة بالتصديربالآية القرآنية ( وانه هو أضحك وأبكى )
إلى أن وصل إلى نتيجة مفادها أن المسرحية اتخذت من الهزل سبيلا للنقد السياسي وأنها ليست من مذهب الفن للفن كما ذهب بعض الدارسين .
كماوقف د – عبدالعزيز المقالح عند مسرحية ( أبو دلامة ) مشيراً الى أنها أقل المسرحيات التاريخية قدرة على تجاوز الماضي إلى الحاضر مع ذلك المهرج المضحك المعروف للعامة قبل الخاصة، إذاً فالمسرحية تعني بمزج الرؤية المعنوية بين الحاضر والماضي .
والأسئلة التي ترددت في ذهني تمتحنه بعد قراءة المسرحية وما كُتب عنها هي
ما العلاقة بين السياسي البارع والأديب أو الفنان البارع ؟
هل كان باكثير ينفخ مشاغباته السياسية في مشاغبات أبي دلامة ؟
هل دخل باكثير جبة أبي دلامة ؟ فكان أبو دلامة عصره ليحضر مجالس الحكام ويحدثهم عن بعد يؤهلهم لما هو آت ؟
تجهد هذه الدراسة في الإجابة على الأسئلة السابقة لتصل إلى أن خفاءً حقيقياً في شخصية السياسي والأديب التزمه كل منهما يظهره تارة ويخفيه أخرى قصده باكثير وخفاءً آخر يندس خلف هذا التخفي أراده باكثير رمزاً وصراحة عملاً سياسياً مراوغاً يفهمه من يقرأ التاريخ بقلبه .
ملخص المسرحية
تتكون المسرحية من أربعة فصول يشتمل الفصل الأول والثاني على ثلاثة مشاهد لكل فصل، والثالث والرابع على مشهدين لكل منهما مضمونها علاقة طبقة السوقة متمثلة في أبي دلامة وأسرته بطبقة الخاصة أو هي خاصة الخاصة متمثلة في الخليفة المهدي وزوجتيه وحاشيته وتبدو العلاقة نفعية بين مضحك الخليفة أبي دلامة الساعي لعطاء الخليفة ومال كل من يستطيع شراء عرضه تفادياً لهجائه في مواقف متفاوتة بمشاهد تنتقل بين بيته وقصر الخلافة وبين الخليفة ومن معه الذي ترهقه أعباء الحكم ويحتاج إلى الترويح ، والمسرحية تعطي صورة لجوانب الحياة السياسية والاجتماعية في ذلك العهد في تفاعل وصراع بعضه صريح مباشر وأخر مفتعل يأتي صدفة مرة ومقصوداُ مرة أخرى بين قلوب يتقلب بها الزمن وأحداثه وحوادث تقلب القلوب .
التعريف بالخليفة المهدي :
هو أبوعبدالله محمد بن المنصور ، ولد بأيذخ سنة سبع وعشرين ومائة ، وقيل : سنة ست وعشرين ومائة ، وأمه أم موسى بنت منصور الحميرية .
كان جواداً ممدَّحاً ، مليح الشكل ، محبباً إلى الرعية ، حسن الاعتقاد ، تتبع الزنادقة وأفنى منهم خلقاً كثيراً ، وهو أول من أمر بتصنيف كتب الجدل في الرد على الزنادقة والملحدين .
روى الحديث عن أبيه وعن مبارك بن فضالة، تأدب وجالس العلماء وتميز فأمره أبوه على طبرستان وما والاها ،وبويع بالخلافة بعد أبيه ، واهتم بالفتوح في بلاد الروم والهند ، وأمر بتجريد الكعبة من كسوتها بعد أن رفع إليه الحجبة خوفهم من هدمها لكثرة ما عليها من أستار فاقتصر على كسوته ، ورد المظالم ، و أمر بالزيادة الكبرى في المسجد الحرام.
قال الذهبي : أنه أول من عمل البريد من الحجاز إلى العراق ، ابتكر ديوان الأزمة للتدقيق في الحسابات المالية للدواوين الأخرى ، كما أجرى الأرزاق على المجذَّمين وأهل السجون في جميع الأفاق ، ومات في سنة ست وتسعين ومائة.
التعريف بأبي دلامة :
أبو دُلامة هو زند أو زيد بن جون ، مولى بني أسد ، كان منقطعاً إلى أبي العباس السفاح . وهو أحد الظرفاء أصله من الكوفة ، أقام ببغداد وحظي عند المنصور لأنه كان يُضحكه وينشده الأشعار ويمدحه
قال عنه علي الطنطاوي – رحمه الله - :
كان أبو دلامة كما يقول الخطيب البغدادي شاعرا مطبوعا كثير النوادر في الشعر وكان صاحب بديهة يداخل الشعراء ويزاحمهم في جميع فنونهم وينفرد في وصف الشراب والرياض .وكان يضحك الخلفاء حتى في المواطن التي لا يسوغ في مثلها الضحك..
ولعل ما سبق يفتح أمام الدراسة مدخلاً ينفتح على أعماق هذه الشخصية الضاحكة المضحكة بدهاء بل وبحماسة الظرفاء .
بين عنوان المسرحية والاستهلال
- العنوان
اقتصر العنوان على اسم (أبو دلامة) فقط بدون أي إضافة ، عمومية الاسم تتكئ على المعرفة الجماهيرية للشخصية فلا تخبط أبداً في متاهات التأويل ؛ فالتصور العام أن القارئ أمام الفكاهة واقف متأهباً لمرواغة بهلوان يتقافز بين حبلي الطبقة الخاصة
( الخلفاء ) وطبقة العامة في نوادره وفكاهاته .
- الاستهلال
( وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا ) 43 – 44 سورة النجم
الاستهلال مفتاح القراءة ، يخرجنا من المتموج العائم ليتكئ على غاية نفعية ودلالة جمالية توجه دلالة النص لتستحدث فعاليته وتأثيره في المتلقي ضمن أسرار اللغة في سياق موازي للمسرحية حيث الإفصاح عن سوية العلاقات الإنسانية ومدلولاتها حين تموجها أحداث الحياة في القرب والبعد من الحزن والفرح والتعتيم والإشهار والتبعية والرفض بل والوضعية والارتقاء في اللفظ والفعل .
إن برزخية تحياها ضمائر الناس في ولوج وخروج وإفصاح وكمون للمشاعر والوجدانيات دلل عليه الاستهلال بهذه الآية الكريمة فكأنما القارئ الذي انشقت عن ثغره ابتسامة عريضة حين قرأ العنوان مجرداً ( أبو دلامة ) عاد ليجمع شفتيه يتفحص الكامن خلف الفعل أبكى في استمراريته متموجاً مع الضحك .
المبحث الأول
علاقة التبعية
بين التابع والمتبوع علاقة طرفية تنحصر في تحنيط وذوبان وقتل لإبداع الأول على حساب الثاني أو هي استثارة واستدراج وتحد يُرضي به الطرفان بعضهما البعض ؟ وهذه تتأتى حين يكون كلا الطرفين مبدع في ذاته ينعكس إبداعه على الآخر بل والآخرين ، وبين إبداع أبي دلامة وابتكاره للنادرة شعراً ونثراً وإبداع المهدي سياسياً محنكاً يبتكر الفعل وردوده نقف في هذا المبحث .
قيل أن أول من هنأ المهدي بالخلافة وعزاه بأبيه المنصور أبو دلامة فقال :

عيناي واحدة ترى مسرورة = بأميرها جذلى وأخرى تذرف
تبكي وتضحك تارة ويسوؤها = ما أنكرت ، ويسرها ما تعرف
فيسؤها موت الخليفة محرماً = ويسرها أن قام هذا الأرأف
ما إن رأيت كما رأيت ، ولا أرى = شعراً أسرحه وآخر ينتف
هلك الخليفة يا لدين محمد = وأتاكم من بعده من يخلف
أهدى لهذا الله فضل خلافة = ولذاك جنات النعيم تزخرف
بين البعد الفكري والنظري للسياسة و البعد التطبيقي رجال وشخصيات ومواقف كل ينظر إلى الفعل السياسي على أنه يخدم الجميع من خلال الضمير الفردي للسياسة ورجالاتها والضمير الجمعي للأمة قيماً على الفعل يدفعه صوب مصالحه ويستنكره لو حاد عن رؤيته في تقصي وتحقيق هذه المصالح .
في الأبيات السابقة توالي من المفردات المتضادة كذاك التضاد بين شخصية الرجلين ( المهدي وأبي دلامة )
السرور والحزن ، الضحك والبكاء ، المعرفة والنكران ، الموت والحياة ، ملك الدنيا وحكمها الزائل ، ونعيم الآخرة الباقي ، وبين هذه المتضادات يتموج الشعر بتموج مشاعر قائله الذي لايعرف كيف لدخيلته أن تجمع بين صراع الوجدانيات المتدفق هذا ؟
في المقطوعة الموسيقية السابقة الرشيقة الثقيلة بتصاعدها وانخفاضها تظهر فيها سلطة الإبداع بسطوة وطبيعية عليا لكونها ارتبطت بخلق جديد لجهد أعاد خلق الأشياء وترتيبها في وجدان الخليفة الفاقد لأبيه المتولي الحكم بعده بولاية عهد أخذت في زمن الميت حين كان على قيد الحياة وبمباركة الضمير الجمعي وضمير النخبة .
مضحك الخلفاء يعرف كيف يبدأ علاقته بالخليفة الجديد فيستوعب حزنه بمنطقة البين بين ، تلك - المنطقة الرمادية - فالولاية والوصول إلى سدة الحكم نشوة وفرحة ، وفقد الأب إحباط وزلزلة ، وتعبير أبي دلامة من نوع الفعل الكلامي الذي لا يخبر ولا يفيد بقدر ما يسأل ويطلب ويعد أي ينطوي على فعل ملازم يخرج فيه الخليفة من حالته ويمني نفسه فيه بالجائزة التي هي من مهام الخليفة التي ورثها عن أبيه .
آليات الجمال الفني :
وظف باكثير في هذه المسرحية بعض آليات الجمال الفني والتي سخرها كلها لخدمة القضية المعلنة بين طيات المسرحية وهي العلاقة بين السياسي والمبدع في علاقة التبعية والرفض والتمرد ومنها :
تقنية التفاعل :
بين الحيز الشخصي لكل فرد في المجتمع وبقية الأفراد وبين دائرة الغلق والانفتاح في كل طبقة وشريحة في هذا المجتمع هناك مساحة من الممكن ودرجة من التفاعل الإيجابي والسلبي بناء على رسائل لفظية وغير لفظية تتيح للجميع التعايش بدرجة من القبول بالآخر أو رفضه في ظل الاحتياج والمصالح المتبادلة .
الفن مدرسة الحياة أو الحياة مدرسة الفن !
ينسج باكثير من شخوص مسرحيته عالما متكاملا فيه من التشابه والامتداد والثراء والتضمين والتصريح والدلالات العميقة ما يمثل المحيط الفني لعالم النفعية حيث
يمثل أبودلامة حزب الدلاميين المنتفعين الموجودين في كل عصر وهم غالباً شريحة من المجتمع لها بعدها الطبقي البائس الذي تحتال عليه بالوصول إلى الطبقة العليا عبر مفهوم ميكافيلي موغل في فلسفة الذرائع يؤيد هذه الحقيقة موقفه مع المنصور الخليفة السابق والد المهدي في (حادثة كلب الصيد والبنت التي ولدت له) وأغلب الظن أنها ( عسلوجة ) التي صورها باكثير في المسرحية تلك المتأرجحة بين أبيها وأمها في صراعهما ورقيبة على دلامة وما يقبضه من أمير المؤمنين بينما يستمتع الخليفة المهدي بذاك الصراع الدائر بين أفراد العائلة أو تلك المشاغبات بين أبي دلامة وأصدقائه أو جلساء الخليفة في حوار يتكثف حين يتعلق الأمر بفائدة نفعية تعود على أبي دلامة يكون الخليفة نفسه طرفاً في إدارته واستنبات نقاشات متفرعة تضحكه وجلساءه تخفف عنه وطأة الحكم وتبعات السياسة
الخيزران : ما بالك لم تخرج إلى المجلس ؟ هل تشكو شيئاً ؟
المهدي : لا رغبة لي في الخروج اليوم
الخيزران : أي شئ يشغل بالك فإني لأراك مهموماً ؟
المهدي شؤون الدولة وما ينبغي أن تشغلي بها بالك
الخيزران : بل أشركني بها لعلي أستطيع أن أسري عنك
المهدي : .... فتنة الخراسانيين
الخيزران : أوقد ثاروا مرة أخرى .... ويمضي الحديث
المهدي : والله لا أدري ماذا آتي وماذا أدع ، فالطالبيون من جانب ، والزنادقة من جانب ، وهذه ثالثة الأثافي اليوم فتنة خراسان ! ما للناس ومالي ؟ ألا يسعهم حلمي وكرمي ؟ أليس خيرلهم أن ينعموا بالدعة والأمن ؟
وبعد تحليل لمواقف الجميع بين المهدي والخيزران تقول :
هون عليك يا أمير المؤمنين ... ما ينبغي لهذه الشؤون أن تستغرق كل همك .. روح قلبك ساعة فساعة ، هذا أبودلامة قد نمي إليّ أنه ببابي
المهدي : أبو دلامة ! والله إني لفي شوق لنوادره !
مافي الناس أسعد من هذا الماجن الظريف ! حسب المرء أن يراه ليضحك ملء فيه
المهدي الذي يحمل عبء أمة بفكرها والذي يشط ببعضهم إلى درجة الخروج من الدين !، الطالبيين أبناء عمومة ومطامعهم سياسية تكمن في قلب الخلافة إلى فرعهم عن آل العباس ثوار وأهل رحم يخرجهم من سجون أبيه ليقربهم فيعاودوا الثورة فيشعر بألم الجحود والنكران في خاصته ، الزنادقة وشططهم الفكري يضربون به جذور العقيدة يناظرهم علماء الأمة ويتلونون في ثوب شاعر زنديق كبشار بن برد أو دعاة فكر يشككون في هذا الدين السمح ، ويعين لهم المهدي رجل مختصاً لتتبعهم يعرف بصاحب الزنادقة ، وتلك رهبة الرجل على دين مكلف هو بحراسته كخليفة ، وثالثة الأثافي فتنة الخراسانيين يطمعون في الانفصال بجزء من الدولة العباسية، وما كان لخليفة كالمهدي في قوته أن يسمح بذلك وإلا تشتت دولته
وقد قال المهدي في خطبته للخلافة يقول :
وقد قال المهدي يوما في خطبته : أيها الناس ، أسروا مثلما تعلنون من طاعتنا تهنكم العافية ، وتحمدوا العاقبة ، واخفضوا جناح الطاعة لمن نشر معدلته فيكم ، وطوى ثوب الإصر عنكم ، وأهال عليكم السلامة ولين المعيشة من حيث أراه الله ، مقدما ذلك فعل من تقدمه ، والله لأفنين عمري بين عقوبتكم والإحسان إليكم . قال : فأشرقت وجوه الناس من حسن كلامه .

ثم استخرج المهدي حواصل أبيه من الذهب والفضة التي كانت لا تحد ولا توصف كثرة ، ففرقها في الناس ، ولم يعط أهله ومواليه منها ، بل أجرى لهم أرزاقا بحسب كفايتهم من بيت المال ، لكل واحد خمسمائة في الشهر غير الأعطيات
هذه أبعاد شخصية الخليفة لمن أراد أن يغوص فيها وهذه آماله من رعيته وآلامه منها فلم لا يكون أبودلامة أسعد الناس عنده وهو الضارب بجدية الحياة عرض جبال الكون لا يهمه إلا ما أكل وما شرب ونزواته لا يفرق بين من يخرج على الخلافة ومن هو تحت لواءها إذن فهو أسعد الناس ! وما اشتياق المهدي للقائه إلا ليخرج معه وبه إلى فسحة النادرة التي لا تُقيم وزناً لكل الأحداث الجارية يتخفف بها المهدي فتنشطه ليعاود الكرة في حراسة الدين والدنيا عمق معنى الخلافة !
والخيزران تناقشه في شأن من خرجوا عليه ، تتودد إليه بعذوبة لفظ الأنثى ولكنها لا تملك شكل أبي دلامة الذي بمجرد رؤيته يضحك المرء ملء فيه كما في قول المهدي ولا تمتلك حجة المرواغة والتفلت من كل شئ في نادرة أبي دلامة !
تقابل الخيزران إصرار أبي دلامة في التعجيل بهبة الجارية إليه بعد عودتها من أداء فريضة الحج ؛ لأنها لا تريد له أن ينشغل بشجاره مع أم دلامة عن التسرية عن الخليفة المهدي لحين عودتها وهي التي أرادت تأخير الفريضة لتقف إلى جانب الزوج الذي يكره لها العدول عن الحج ، تقول الخيزران لأبي دلامة حين كان يحثها على الوفاء بوعدها له :
لا يا أبا دلامة حتى أعود من الحج ، فإن أمير المؤمنين كثير الهموم كما ترى ، وما آمن في غيابي أن يشغلك الشجار بينك وبين أم دلامة عن غشيانه وتسريته ، ولولا أني قد عزمت الحج وأن أمير المؤمنين يكره لي العدول عنه لبقيت عنده في هذه الآونة لحاجته إلى التهوين والتسرية ، فلا أقل من أن يجد عندك ما يخفف عنه بعض همه دون أن يشغلك عنه شاغل
وإلى مشهد آخر ينتقل باكثير إلى شكوى أبي دلامة من قبح أم دلامة ومعاناته مما في سريرها من القمل والبق والبراغيث وما شاء الله أن يخلق وذلك في معرض محاولاته للحصول على الجارية يضحك المهدي حتى يستلقي على ظهره ويقول : قاتلك الله ! ما أظرفك راضياً وغاضباً لقد والله سريت عني .
وفي المشهد الأول والثاني من الفصل الأول حيث أبو دلامة وصديقه أبو عطاء في دكان الجنيد النخاس مظهر آخر من مظاهر التبعية ، يأكلون ويشربون بدون ثمن بل ويستزيدون من الخمر وحين يطالبهما الجنيد بالثمن ويمتنع عن تقديم المزيد يهدده أبو دلامة برفع أمر بيعه للخمر للخليفة فينصاع الجنيد لتهديده
أبو دلامة : لتحضرن الباطية يا نخاس أو لأرفعن إلى الخليفة أنك تبيع الخمر باسم النبيذ !
الجنيد : لا ... لا تفعل يا أبا دلامة .... وسأتيك بما تريد .
وفي نفس المشهد يحضر الطبيب عون ليطالب أبا دلامة أجرة علاجه التي يحتاج إليها للإنفاق على أولاده الجياع والتي يتهرب من سدادها ليتفق الجميع بعد ذلك على أن صلة أمير المؤمنين التي سيحظى بها تسدد أجرة الطبيب المتأخرة وما للجنيد من ثمن للشراب والطعام و بالفعل يحصلون عليها ( أبو دلامة والطبيب ) دون الجنيد بعد دخولهم على المهدي واقتسامها ، فما كان للجنيد أن يدخل على الخليفة وهو الذي يبيع الخمر باسم النبيذ ولو لمح الخليفة ذلك من قول أوفعل فالنهاية حتماً ليست في صالحه .
على أن دخولهم على الخليفة كان بعد محاولتهم الفاشلة مع اليهودي المرابي والذي سنعرض إليه في آلية أخرى من هذا البحث
وفي هذا المشهد يضحك المهدي أيضاً من نوادره حتى يستلقي على قفاه ! انصهار تذوب فيه شخصية المهدي وأبودلامة مع أنهما مادتان ذواتا خصائص يصعب توافقهما فيزيائيا إنه انصهار لحظي على ما يبدو وليس على الدوام تستوقف الخليفة فيه بوادر شطط المضحك وتجاوزه الشرعي لتأكده من مجونه كما في قول الطبيب عون من أنه عالجه مما ألم بكبده من فرط الشراب فقال المهدي :
الشراب !! ويل للفاسق ! ولكن أبا دلامة احتال بأن المقصود النبيذ وليس الشراب ’’ الخمر ’’
إن منظر أبي دلامة بدمامته وحدها يكفي بأن يُضحك الخليفة ملء فيه فضلاً عن نوادره .

تقنية الاستدراج
بعد موقف يحتدم فيه النقاش بين الضرتين ( ريطة والخيزران ) حول الزوجة الحرة والجارية ( ريطة ابنة عم المهدي والخيزران جارية متسراة ) متلبساً نصرة ريطة لأم دلامة على أبي دلامة محاولة منع الخيزران من أن تهب الجارية لأبي دلامة يتضايق المهدي ويخرج الجميع ليستقبل أصحابه ويبقى أبو دلامة الذي فقد صفاء ذهنه بوجود عجوزالسوء ....
( يدخل الخاصة المأذون لهم فيسلمون على المهدي ثم يأخذون مجالسهم حوله وفيهم القاضي ابن أبي ليلى وجماعة من أعمام المهدي وغيرهم من وجوه بني هاشم )
المهدي : ( ما يزال منقبضاً – ينظر إلى أبي دلامة ) ويلك يا أبا دلامة ألم تجد لنا شيئاً بعد؟
أبو دلامة : لحظة يا أمير المؤمنين ....
المهدي ( غاضباً ) ويلك فلأوجدنه أنا لك .... أصغ إليّ
أبو دلامة : نعم يا أمير المؤمنين .
المهدي : عزمت عليك إلا ما هجوت واحداً ممن في مجلسي هذا .
أبو دلامة : يا أمير المؤمنين هؤلاء وجوه بني هاشم !
المهدي : أنا أعطي الله عهداً لئن لم تهج واحداً ممن هنا لأقطعن لسانك !
أبودلامة : ( يقلب طرفه في القوم فكلما نظر إلى واحد منهم غمزه بأن عليه رضاه )
يا ويلتا ... قد هلكت !
المهدي : هات ويلك علام تقلب طرفك في القوم ؟
أبو دلامة : لأرى أولا يا أمير المؤمنين أيهم أحق بالهجاء
المهدي : فهل وجدته ويلك ؟
أبو دلامة : نعم يا أمير المؤمنين
المهدي : فهات إذن .
أبو دلامة : ولي الأمان يا أمير المؤمنين
المهدي : ولك الأمان
أبو دلامة ( ينشد )
ألا أبلغ إليك أبا دلامة
فليس من الكرام ولا كرامة
إذا نزع العمامة كان قردا
وخنزيرا إذا لبس العمامة
جمعت دمامة وجمعت لؤماً
كذاك اللؤم تتبعه الدمامة
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا
فلا تفرح فقد دنت القيامة
( يضحك الحاضرون )
المهدي : ويحك قد عرفت كيف تتخلص .
أبودلامة : ألهمني ذلك يا أمير المؤمنين خوفي من قطع لساني ، لقد نظرت إلى هؤلاء فما وجدت فيهم من أحد إلا اشترى عرضه مني فلم يبق أمامي إلا عرض أبي دلامة .
المهدي : لوخطر لي أنك ستعمد إلى هجاء نفسك لاستثنيت .
أبو دلامة : الحمد لله الذي أنساك هذا يا أمير المؤمنين
في هذا الموقف كما في شأن المسرحية بشكل عام يلتقي الحاضر في الذهن والغائب والممكن والمحال ؟
استدراج الخليفة لأبي دلامة لهجاء قوم فيهم وجوه بني هاشم قوم الخليفة وآل بيت العباس عم الرسول – صلى الله عليه وسلم – والعلويين هو المحال بالنسبة للخليفة نفسه ولشخصية أبي دلامة فالقوم يحملون مهابة التاريخ ميراثاً وتمتلئ أيديهم بالمال يلوحون به للرجل ليتخطاهم هجاؤه ، يبقى أن تقف بديهة أبي دلامة لتخطف بوادرها في لحظة سانحة قدمها له القدر لينتفع من الجمع فألجأته آلية قلب الوضع فليهجي نفسه إذن وهو الدائم على ذكر دمامته ودمامة أفراد أسرته في كل موقف أمام صحبه وفي مجلس الخليفة مع زوجيته ودونما حصاد مادي ، واليوم جاءته فرصة ثمينة لابد من اقتناصها وقد فعل .
أم دلامة حين كان أبو دلامة يصلح عمامته في المرآة منتظراً الجارية التي وعدته بها زوج أمير المؤمنين ( الخيزران ) إذا عادت من الحج قالت :
إذا لبس العمامة كان قرداً = وخنزيراً إذا نزع العمامة
وهذا موقف آخر يجدد الفكرة ذاتها تضرب بجذورها في عمق التكوين النفسي للمذهب الدلامي الذي ينتهجه أفراد الأسرة الدلامية .
يتبع موقف بني هاشم في نفس الجلسة مشهد أخر مع سلمة الوصيف ثم موقف القاضي ابن أبي ليلى
المهدي : ( يتطلق وجهه ) أين سلمة الوصيف ؟
سلمة ( يظهر على الباب ) لبيك يا أمير المؤمنين
المهدي : هات الشراب ياغلام
أبو دلامة ( هاتفاً ) الآن يزول الهم وتنتعش النفس ! ثقل يا غلام واجعلها صرفاً !
المهدي ( ينهره ) ويلك ما تقول ؟
أبو دلامة ( ينتبه إلى سهوه ) عفواً يا أمير المؤمنين .... ( لسلمة ) بل خففها يا غلام
سلمة : غاضباً ) ثقلها ... خففها .. أين تظن نفسك يا هذا ، تحسب نفسك في حانة ؟ ( يخرج )
أبو دلامة : قد وقعت اليوم يا لكع !
المهدي : ويلك ماذا تعني ؟
أبودلامة : يا أمير المؤمنين هل تأذن لي في هذا البخيل سلمة الوصيف ، فما من أحد في قصرك إلا نفحني ما خلاه ؟
المهدي : إنك لا تقدر عليه يا أبا دلامة
أبو دلامة : لقد أمكنني اليوم يا أمير المؤمنين من نفسه فإذا أذنت أنديت له جبينه الذي لا يندى أبداً !
المهدي : فافعل إن قدرت .
( يدخل سلمة الوصيف فيدير عليهم الشراب )
المهدي : هات يا أبا دلامة ما عندك .
أبو دلامة : يا أمير المؤمنين لقد أتيت اليوم بحلة نفيسة أريد أن أهديها إليك فإذا أذنت أحضرتها لك .
المهدي : ويلك أين هي ؟
أبو دلامة : في الدهليز يا أمير المؤمنين خبأتها في مكان هناك .
المهدي : اذهب فهاتها
( ينطلق أبو دلامة من الباب الثالث )
المهدي : ليت شعري ما تكون هدية أبي دلامة ؟ هل رأيت شيئاً في الدهليز يا سلمة ؟
سلمة : لا يا أمير المؤمنين ما رأيت شيئاً ، ما بقي إلا أبو دلامة يهدي الحلل لأمير المؤمنين !
( يدخل أبو دلامة يحمل مرقعة بالية في يده فيقدمها للمهدي )
المهدي : ويلك ما هذه ؟
أبو دلامة : هدية عبدك أبي دلامة .
المهدي : قبحك الله ألم تزعم أنها حلة نفيسة
أبو دلامة : بلى يا أمير المؤمنين
المهدي : فهذه مرقعة وليست حلة !
أبو دلامة : يا أمير المؤمنين أنصفني ، هذا سلمة الوصيف بين يديك تسميه الوصيف وله ثمانون سنة وهو عندك وصيف ، فإن كان سلمة وصيفاً فهذه حلة !
( يضحك المهدي حتى يستلقي على قفاه ويضحك الجميع )
سلمة : ( غاضباً ) قاتلك الله يا فاسق .. قبح الله وجهك
المهدي : ( لسلمة ) ويلك إن لهذه منه أخوات وإن أتى بها في محفل من الناس فضحك
أبو دلامة : والله لأفضحنه يا أمير المؤمنين فليس من مواليك أحد إلا وقد وصلني ما خلاه فإني ما شربت له الماء قط !
( يضحكون )
المهدي : ( لسلمة ) قد حكمت عليك أن تشتري عرضك منه بألف درهم حتى تتخلص من يده
سلمة : قد فعلت يا أمير المؤمنين على ألا يعاود
أبو دلامة : قد رضيت يا أمير المؤمنين فشئ خير من لا شئ !
( يضحكون )
المهدي مسيطراً على المشهد ، مسيطراً على أداة النادرة ، مسيطراً على الطرف الآخر ، مسيطراً حتى على الجائزة ؛ يخلق الموقف ويدع شخوصه لقناعاتهم يتصرفون كما تُملي عليهم ليمسك بعد ذلك بخيوط النادرة يفصلها كما يريد فيستمتع هو ومن حوله ويقنع كل طرف بحاجته للطرف الآخر وهو يقع في قلب الممكن والمحال أيضاً !
استدراج المهدي صقل لملكة أبي دلامة فيبدو الاثنان ( الخليفة والمضحك ) نقطتي ارتكاز النادرة صانع ومحترف في مهنة يتبادلان فيها الأدوار أو هما مصدر البيت الشعري ومكمل عجزه يُحسنان تركيب المعنى والمفردة .
يقلب الخليفة الآن الصورة إلى جهة أخرى القاضي ابن أبي ليلى
المهدي ( يرى القاضي ابن أبي ليلى ينظر إلى أبي دلامة وهو يضحك وأبو دلامة يغمزه ويشير له ألا يفعل ) ويحك يا ابن أبي ليلى أراك تومئ لأبي دلامة فأي شئ بينكما ؟
أبو دلامة : لا شئ يا أمير المؤمنين .... إنما هو سر بيني وبينه
المهدي : عزمت عليك يا ابن أبي ليلى إلا ما أخبرتني
أبو دلامة : يا ويلتا ... هلك أبو دلامة !
القاضي ( يضحك ) لقد اشتريت أنا عرضي منه اليوم يا أمير المؤمنين فهذه ثاني صفقة يبيعها اليوم أبو دلامة
المهدي : كيف ذاك ؟
القاضي : لقد جاءني اليوم مع أبي عطاء السندي الشاعر وهما يجران شيخاً يهودياً ومعهما صاحب لهما زعما أنه طبيب ، فشهدا بأن على اليهودي مائة درهم للطبيب هي أجر ما عالجه ...
المهدي : ويحك ما اسم ذاك الطبيب ؟ عون ؟
القاضي : نعم يا أمير المؤمنين ... اسمه عون
المهدي : أتم يا ابن أبي ليلى
القاضي : فشككت يا أمير المؤمنين في صدق الشهادة ، ولكني خشيت من لسان أبي دلامة فاشتريت عرضي منه بالمائة الدرهم دفعته له عن اليهودي لذلك الطبيب فانصرفوا
المهدي ( ينظر إلى أبي دلامة متعجبا) أوقد فعلتها يالكع ؟
أبو دلامة : أجرني يا أمير المؤمنين
المهدي : والله لتخبرني بحقيقة أمر اليهودي أو لأقطعن عنقك !
أبو دلامة : ولي الأمان يا أمير المؤمنين ؟
المهدي : ولك الأمان
أبو دلامة : طالبني عون الطبيب بأجر ما عالجني ، وليس عندي شئ ، فقلت آخذها له من ذلك الشيخ اليهودي زكاة قناطيره المقنطرة التي سرقها بالربا من أموال المسلمين !
( يضحك الجميع والمهدي خاصة حتى استلقى على قفاه )
المهدي : أتدرون ماذا صنع هذا الخبيث بعد ذلك ؟
القاضي : ماذا صنع يا أمير المؤمنين ؟
المهدي : أتاني بطبيبه هذا فزعم لي أنه لم يقدر أن يدفع له أجره فأمرت للطبيب بألفي درهم !
( يضحكون )
أبو دلامة : وإن لي لنصفها يا أمير المؤمنين !
المهدي : يضحك ) قاتلك الله
أبو دلامة : واستوليت أيضاً على نصف ما دفعه اليهودي يا أمير المؤمنين !
( يضحكون )
المهدي : ( يضحك ) ويلك ليس اليهودي هو الذي دفعه !
أبو دلامة : سيان يا أمير المؤمنين أن يدفعه اليهودي أو وكيله هذا الذي لا يقبل شهادة المسلمين !
( ينفجر المجلس ضاحكاً )
في مجلس الخليفة حيث يوجد أبو دلامة يتجسد المشهد بكل تياراته المتزنة سياسية فكرية واجتماعية في بهلوان ضاحك مضحك بحيث يلحظ الجميع بوادر الابتسام على تقاسيم الأوجه تتموج متخفية ثم ما تلبث أن تنفجر ضحكا وكأنما الجميع على خشبة مسرح الدنيا لا مسرح با كثير ، حيث يحتاجون بلا استثناء خليفة وقاض وجلساء وإلى بهجة النادرة تدفعها بهجة الانسجام ببساطة النفس الإنسانية مهما تغيرت مفاهيمها عائقاً لتشنجات الحياة بكل همومها فماذا يريد الأديب باكثير أن يقول ؟
لقد قدم وجهاً مشرقاً للحياة الإسلامية حيث العدالة الاجتماعية مع أهل الذمة لا سيما وهو المهتم بتاريخ اليهود بعد ظهورهم على ساحة الحدث الإسلامي في عصره في قضية فلسطين ، يسرقون أرضاً بمقدراتها يرابون عليها مع حلفائهم !
تراث قيمي للأمة يؤكد عليه في عدالة الخليفة وقاضيه مع اليهودي المرابي بأموال المسلمين كما نطقت بذلك حكمة أبي دلامة الذي جهز تبرير فعلته قبل أن يحاسبه عليها أحد !
في البداية والنهاية يورد ابن كثير تفسيراً لموقف القاضي حسب ما ذكر ابن خلكان الذي لا يقطع بأنه ابن أبي ليلى أو - ابن شبرمة - من أن الذي مرض وعالجه الطبيب كان ابن أبي دلامة وليس أبو دلامة نفسه ، ولما رفع الطبيب شكواه ضد اليهودي أشهد عليه أبو دلامة وابنه ، فلم يستطع القاضي أن يرد شهادتهما وخاف من طلب التزكية – أي تزكية الشهود – فأعطى الطبيب المدعي لمن عنده وأطلق اليهودي ، وحج القاضي بالمصالح
حج القاضي بالمصالح ، لا يظلم اليهودي وقد عرف كذبهما عليه ويشتري عرضه من أبي دلامة .
ونقطة أخرى حرية بضرورة التنويه عنها هي اعتراف المهدي بخديعة أبي دلامة له أمام مجلسه دون حرج ؛ تأكيد على روح الظرف والبساطة التي كان يتعامل بها الجميع ففي الوقت الذي يستدرج فيه الخليفة جلساءه مع أبي دلامة للاشتراك في النادرة والطرفة ويحملهم على مكافأته مادياً لا يبالي أن تعرض هو لهذا الاستدراج النفعي من قبل مضحكه بل ويقصه على الجميع !.
أبودلامة وأسرته والمنتفعون منه يصرون على استدار عطف المهدي وزوجتيه
( الخيزران وريطة ) لكي يحظوا بالمزيد من المال ينتشلهم من حال البؤس وعدم الرضا بواقعهم الطبقي بينما الخليفة وزوجتيه بتنافسهما بين نصرة أبي وأم دلامة يرون في تهكم أبي دلامة وأسرته من تصرفاتهم بل وحتى أوصافهم مادة للضحك يظهرون الصرامة ويخفون خلفها ابتسامات ما تلبث أن تنفجر ضحكاً يسعد الجميع .ونكرر القول
إن الإبداع سلطة طبيعية يمارسها المبدعون بسطوة عليا ، لكونها ترتبط بخلق جديد وجهد خلاق يعيد ترتيب وخلق الأشياء كما أن السياسة خلق جديد يتبعه الساسة ليصب في مصالح الجميع كما يرون .
تقنية الترميز
من سمات الأدب الجيد أن يحس نبض الحياة من حوله في كل اتجاه ، فيستشعر آلام مجتمعه ويجسد صراعاته ويفصح عن آماله
الأدب الرمزي هو ذلك الأدب الذي يقرؤه القارئ العادي فلا يفهم منه إلا ظاهره ، أما القارئ المتأمل فيفهم منه هذا الظاهر ولكنه لا يقف عنده ،بل هو لا يكاد يمضي في القطعة الأدبية الرمزية حتى يبهره ما تحت سطحها ... وما تحت هذا السطح لباب الأدب الرمزي ، ومن أعاجيب هذا اللباب أنه يتخايل بصورة مختلفة في ذهن القارئ المتأمل ... صور تتفاوت في مقدار ما فيها من الجمال والمعاني والأهداف .. والأعجب من هذا أن قارئا متأملا آخر قد تتخايل له صور جديدة غير التي مرت بذهن القارئ المتأمل الأول

الرمزية في المسرحية :
يوجد نوعان من الرمزية في المسرحية : نوع يقوم على تجسيد المعاني في أشخاص يكونون رموزاً لتلك المعاني وهذا ما يُطلقون عليه كلمة allegory حيث يكون كل شخص في المسرحية وكل حادث وكل شئ رمزاً لمعنى أو لشئ آخر
والنوع الثاني هو ما يكون فيه الرمز كلياً عاماً شائعاً في المسرحية كلها بحيث تكون المسرحية واقعية نابضة بالحياة في حوادثها وشخوصها كأية مسرحية جيدة ، ولكن يكون لها فوق هذه الدلالة الطبيعية دلالة ثانية أدق وأعمق وتقع من الدلالة الأولى موقع الصدى من الصوت ، وهذا النوع أفضل وإجادته أصعب ويجئ في الغالب دون وعي من المؤلف أو قصد ظاهر وإلا ظهر التكلف والتعمد فيه ففسد
عموم المسرحية تحمل رمزية المعنى والهدف فعلى صعيد النوع الثاني
- أولاً على مستوى الشخصية الشعبية لأبي دلامة فعنوانها أبو دلامة فقط وعلى القارئ أن يعرف ماذا خلف هذا العنوان الذي لا يحمل إلا اسم الشخص فقط بدون إضافة فلم يقل مثلاً ’’ الشاعر أبو دلامة أو أبو دلامة مضحك الخليفة أو مضحك الخلفاء بحيث تحمل الإضافة صفة واقعية
لا زمت الشخصية وسيطرت عليها وهنا استدعاء تراثي يفتح أمام القارئ باب التوقع لما تحمله دلالات المسرحية القادمة . الإسم القديم للمسرحية
أبو دلامة مضحك الخليفة ولكنه سقط من الطبعات الأخيرة
- رمزية الحزب الدلامي المنتفع دائماً على المستوى الطبقي ففي صحافة زمن باكثير وفي صحافتنا اليوم وفي بيت الخليفة حيث زوجتاه وبيوتنا الآن وبين حاشية الخليفة وحاشية السلاطين إلى آخر الزمن يبسط هذا الحزب سيطرته على كل ما تصل إليه عينه ويده !.
- رمزية شخصية السياسي البارع متمثلة في المهدي الذي يتعرض لاختناقات السياسة وضغوطها فيبحث عن الفنان البارع ليضحكه وقد يستدرجه إلى النادرة إن فقد طريقها .
أما رمزية باكثير في نوعها الأول فقد ظهرت في العديد من اللقطات
- الشخصية اليهودية التي اهتم باكثير بها وبتحليلها كثيراً في مسرحياته تظهر في اليهودي المرابي يسرق أموال المسلمين ، عنده منها القناطير المقنطرة فلم لا يحتالون عليه ليستردوا ولو الجزء اليسير منها .
- حلة أبي دلامة والوصيف سلمة
- وهذه رمزية يبالغ فيها أبو دلامة حين يعتبر أن سلمة مرت عليه ثمانون عاماً عند الخليفة ولا يزال يناديه بالوصيف وهو كبير السن كالحلة البالية في استدراج للخليفة الذي إن أنكر أن كون الحلة نفيسة وهي البالية فكيف يدعي بأن سلمة وصيف – غلام دون المراهق – وقد حقق غايته .
حكمة أبي دلامة استوعبت النسق الاجتماعي لدور الخوارج بحيث اعتبرهم مسلمين مما لا يبيح قتالهم واستند في مشاكسته للخليفة بغرابة ذلك الزي وخاصة كتابة الآية على الظهر في مواجهة الدلالة والصورة الذهنية التي قصدها المهدي في استناده على قوة المعنى بحيث جعله ركيزة أما باكثير
فكأني أراه يدخل جبة أبي دلامة ليقول للساسة في وقت محن الأمة إن اتخاذ القرارات الشكلية أو المصيرية تحتاج إلى إتقان ! وإن كتابة الآية على ظهر ذلك الزي الغريب كانت رمزاً يشير به إلى ترك كتاب الله وراء ظهر الأمة وهو الذي لابد أن يكون أمامهم يرشدهم الطريق ! هنا يغمر باكثير إحساس هائل بالتاريخ يوقفه على مهابته ! في منظومة للسؤال لا تتواشج بقدر ما تختلف بين نظرة كل فاعل في النسق الاجتماعي سياسي وأديب من عصر الحدث ( أبو دلامة ) وآخر ارتد من زمنه إلى الخلف ( باكثير ) يقول السؤال : أين يجب أن يكون كتاب الله ؟ منهج وفقرة داخل منهج كتاب الله أمامنا يدلنا على الطريق ! خلفنا نستند إليه حين يثقلنا الدوار ويختل اتزاننا ! عن يميننا وشمالنا فوقنا وبيننا !!
تقنية الصراع
أجاد باكثير في تصوير الصراع بين الأشخاص والمواقف في تركيز وتكثيف على المستويين الرأسي والأفقي لضمان بناء متكامل له من العمق النفسي والاجتماعي ما يعطي صورة واضحة عن حقيقة أن المسرح محاكاة للحياة بحيث أوجد علاقة تصادمية متناقضة بين أكثر من قوة متكافئة مارست فيها بوعي وإدراك صناعة الحدث أو وقع عليها بذاته في معركتها مع الآخر في سياق مبكي مضحك وما الحياة في مجموعها إلا بكاء قد يقودك إلى الضحك الباكي أو ضحك تغرق ضحكاته الدموع ! وجاء في لفتات أرست سياقات أكثر من رائعة .
- صراع العقل والعاطفة ويبلغ ذروته في رؤية أبي دلامة لابنه دلامة تلك المتشحة بالقلق والتوتر فبعد اتفاق الابن وأمه في تحريم جارية أبيه عليه واستئثاره بها وحتى يضمن عدم تعرضه للجارية الأخرى يقول أبو دلامة مخاطباً المهدي :
كلا يا أمير المؤمنين لا آمن هذا الداعر عليها ما بقي حياً وما بقيت هذه الخبيثة من خلفه ..... انفه يا أمير المؤمنين إلى بلد قصي ، ... انفه إلى الكوفة حيث نشأ جده اللعين .
بعد موت الابن يئن ويتأوه ويبكي بكاءً حزيناً يقول :
تباً لي ... طالما دعوت عليه بالموت وأنا لا أعقل ما أفعل ، ولم أدر أن الله سيستجيبها مني ، يا إله السماء ! أفلا تستجيب من دعوات أبي دلامة غير هذه الدعوة المشئومة !
حكمة الحياة نتقلب بين الضحك والبكاء فيمن تمنينا بعدهم واليوم نبكي على فراقهم ، إن الموت كفيل بأن يجب سيئات الموتى وعندها فالصفح واجب لا يمكن الحياد عنه !
- بين الضرتين ( ريطة بنت عم الخليفة ابنة السفاح والخيزران جاريته المتسراة ) بنية افتراضية لواقع الضرائر في علاقة تصادمية ميدانها مناصرة إحداهما لأبي دلامة والأخرى لزوجته
- ريطة : ( للخيزران ) الحق عليك يا أم موسى إذ تمنين هذا المأفون بما يضره ويضر أهله وعياله !
الخيزران : ويحك يا ابنة عم أمير المؤمنين إنه ظل زمناً يستوهبني الجارية حتى ضقت به ذرعاً فوعدته ، وما كنت أدري أن ذلك سيسوءك !
وبعد نقاش مع أم دلامة وغيرتها على زوجها تقول الخيزران:
لا تخافي .. إنك بعد الزوجة وما هي إلا جارية !
ريطة : ماذا يؤمنها أن تفضل الجارية على الحرة ؟
الخيزران : ما بين الجارية والحرة إلا كلمة تقال فإذا هما سواء !!
ريطة : هيهات
ومع ذلك فهما أوابتان إلى الحق إن حصحص فبعد اكتشاف حيلة أبي دلامة وزوجته في ادعاء كل مهما بموت الآخر تدنو ريطة من الخيزران متنصلة :
معذرة يا أختاه ... لقد لبس عليّ الأمر كله فظننت بك قصداً لم تقصديه ، فهبي ذلك لي وسامحيني سامحك الله ! ( تهم أن تقبل رأسها )
الخيزران : ( تستعظم ذلك وتأباه ) لا يا ابنة العباس ... هذا والله لا يجوز . لا جناح عليك فقد وقعنا جميعاً في هذه التيهاء التي حاكها لنا الخبيث أبو دلامة وامرأته
- لعل أبرز صور الصراع في المسرحية تلك القفزات الرشيقة على حبل لغة الحوار بين الابتذال في أقبح معانيه وأدنى مستوياته والتجاوزات الشرعية وبين قوة اللفظ وجزالته يهيمن متشحاً بوشاح سمو ألفاظ القرآن الكريم
حين يعرض عليه المهدي طبيبه لعلاج دلامة يقول :
لا يا أمير المؤمنين ... طبيبك لا يستطيع أن يعالجه كما هو لا يستطيع أن يعالج أباه
المهدي : لم ويلك ؟
أبو دلامة : إنه لا يعرف البيطرة ( يضحكون ) ليس لدلامة غير عون هذا .
المهدي : هل يعرف هو البيطرة ؟
أبو دلامة : لا يعرف غيرها يا أمير المؤمنين ! ولكنه أبى أن يعالج دلامة
أم دلامة : أرح يا شيخ نفسك فلن تكون إلا حيث خلقك الله
أبو دلامة : ما شأنك أنتِ ! إني لا أتزين لك أيتها القردة العجوز
أم دلامة : أعرف ذلك أيها القرد الشاب تتزين للجارية التي تزعم أنها آتية
- دلامة : إن أمير المؤمنين ليعلم أن هذه الخصومة التي وقعت بيني وبين هذا الشيخ ’’ يقصد أباه ’’ إنما وقعت من جراء انتصاري لأمي في الخصومة التي بينها وبينه ، ويشهد الله أني ما انتصرت لها إلا لأنها أضعف الخصمين وأحوجهما إلى العون والنصرة ، ولأنه ظلمها ولم تظلمه وخانها ولم تخنه ، والله الذي قضى عليّ بالهوان وقبح الخلقة وسوء الطباع إذ أخرجني من بين صلب هذا الخبيث الأسود وترائب هذه الخبيثة السوداء لو أني رأيتها قد ملت عشرته وطمحت عينها إلى غيره حراً كان أو عبداً ، شاباً كان أو شيخاً لانتقمت منها فأطعمته من لحمها وأكلت وأسقيتها من دمها وشربت .
أبو دلامة : قبحك الله وقبح أمك ! لا أرب لي في لحمها ولا في دمها فكل وحدك واشرب ما شئت ! ( يضحكون )
بكل بذاءة لفظ أفراد الأسرة الدلامية إلا أن لفتات لغوية تُظهر مفارقة كبرى بين أسلوبي الحوار
- تطلب أم دلامة الطلاق في حال مجئ الجارية فيرد أبو دلامة :
ويلك هبيني طلقتك فكيف أطلق أولادك القرود هؤلاء ؟
ثم إننا بحاجة إلى بقائكم عندنا يا قطعة الليل البهيم فإن القمر لا يكمل حسنه ويتم ضياؤه إلا إذا طلع في الدجنة الحالكة .
- دلامة : أعجب ما شئت يا أمير المؤمنين من أهل بيت كاسبهم شيخ غوي كغوي ثمود ( مشيراً إلى أبيه ) وقيمهم امرأة عجوز كعجوز قوم لوط ،( مشيراً إلى أمه ) وخازنهم غلام عاق كغلام نوح ( مشيراً إلى نفسه ) ورقيبهم طفلة شوهاء كـ ..
المهدي ( يضحك ) كماذا ويلك ؟ّ !
دلامة : ( مشيراً إلى أخته ) أما هذه يا أمير المؤمنين فقد نسيت الآية التي نزلت فيها !
- أبو دلامة : ( مخاطباً الخيزران ) ملمحاً باستقواء أم دلامة بريطة زوجة الخليفة ، يرحمك الله يا سيدتي .. هل كان يجرؤ هذا الملعون على أن يخالف مشيئتك ويغتصب مني جاريتك لو لم توسوس له أمه ؟ وهل كانت الملعونة تجسر على ذلك لولا علمها أنها تأوي إلى ركن شديد ! ؟
- أبو دلامة : ( مخاطباً قائد الجيش روح بن حاتم ) لا أخرج حتى تنصفني وتعرف لي قدري فلا تخلطني بهؤلاء الرعاع من عامة الجند ، وإلا كنت كمن يقدم الليث القسورة بين الحمر المستنفرة !
المشاهد السابقة تُجسد الفكر الساخر تحت رداء اللفظ المبتذل بكل إسفافه واللفظ الراقي بعظم جزالته فما كان أبو دلامة هذا غير فيلسوف في عصره يعتصر الحكمة في نادرته .
تقنية الحكمة :
من قال إن المسرحية لم تحمل قيماً ؟ ! بل هي مدرسة القيم في عمقها ؛ فعندما تتضارب الحياة بمواقفها وتتصارع الشخصيات تطفو قيماً على السطح وتغرق أخرى ، فهل تلتزم القاع أم أن تيارات داخلية تطفو بها مرة أخرى ليس إلى السطح بل إلى أعلى ذروة الموجة أحياناً !
أبو دلامة المضحك الباكي مما يضحك وما الذي يبكيه ؟ غير صراع داخلياً يعيشه مع نفسه وآخر خارجي مع أفراد أسرته في تقلب بين العقل والعاطفة والنفعية والأثرة ، وثالث حين يكون له موقفه من مشاهدات الحياة
- له فلسفته في النظر إلى الخارجين عن معتقدات الأمة وسلطانها يخلط فيها الهزل بالجد من تصور خاص ينتهجه ويظهر ذلك في مشهدين
- 1 – الزنادقة أولئك الخارجون على الملة ما هم إلا الملحدون وأتباع الديانات المجوسية وأهل الفسوق ممن يجاهرون به ويتعرضون لأعراض المسلمين وللبعض منهم ميول سياسية في الانفصال السياسي عن الدولة العباسية
المهدي : ( عابس الوجه )
الخيزران : خيراً ... هل أتاك ما كدرك ؟
المهدي : هؤلاء الزنادقة ! والله لقد حيروني !
أبو دلامة : ما أدري يا أمير المؤمنين علام يهمك أمرهم ؟
المهدي : ماذا تقول ويلك ؟
أبودلامة : يعز عليّ يا أمير المؤمنين أن تجهد نفسك في تعقبهم واستتابتهم ، هلا تدعهم يدخلون النار من أي أبوابها شاءوا ؟ إني أعدك وعداً صادقاً لئن صرت إليهم هناك لا أكلمهم ولا أسليهم ولا أشغلهم عن أكل الزقوم وشرب الغسلين لحظة واحدة !
بين الاعتراف الخفي بأنه منهم بدلالة إمكانية أن يكون معهم وبين إدراكه لحقيقة يصعب تغييرها في سوء معتقد هذه الفئة حتى بتتبع السلطة لهم ينصح الخليفة بعدم الاهتمام بهم لدرجة الهم والكدر بإدراك منه حقيقة سوء منقلبهم في الآخرة والذي سيزيده هو بعدم تسليتهم وإشغالهم عن أكل الزقوم وشرب الغسلين لحظة واحدة ! فانقلب كدر الخليفة إلى ضحك من نادرته !
2 – الخوارج حزب سياسي وفرقة دينية أنهكت الخلافة الراشدة والأموية والعباسية ثوراتهم فمن خالفهم استحق القتل
بعد أن تندر أبو دلامة بالجنود لمسيرهم إلى الخوارج والسخرية من زيهم ووصول خبره إلى الخليفة الذي غضب منه ، فكيف نظر للأمور ؟
أبو دلامة : نعم يا أمير المؤمنين ، لقد بلغني أن هؤلاء الخوارج يشهدون مثلنا ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن كنا مسلمين فهم مسلمون !!
المهدي : ( غاضباً ) ولكنهم خارجون على طاعتنا ويلك !
أبو دلامة : أجل يا أمير المؤمنين ، فإني والله ما قلت إنهم ليسوا كذلك
روح ( قائد الجيش ) : أولم تقل لهم إن الخوارج ليسوا أعداء الله ؟
أبو دلامة : بلى قد قلت ذلك .
المهدي : ويلك يا عبد السوء الآن استحققت القتل ! خذوه !
أبو دلامة ( صائحاً ) مهلاً يا أمير المؤمنين ! ألا تسمع حجتي فإن كنت ضالاً هديتني ؟ لقد رأيتك تسمع حجج الزنادقة أفلاتسمع حجة عبدك
أبي دلامة ؟
المهدي : حجتك يازنديق أو رقبتك !
أبودلامة : هلمي ياحجتي أنقذي رقبتي من سيف أمير المؤمنين قبل أن ينقذها عفوه الواسع !
المهدي : حجتك أو رقبتك !
أبو دلامة : يا أمير المؤمنين لقد ظننت أن الله عزوجل هو الذي خلق هؤلاء الخوارج كما خلقني وخلق أمير المؤمنين .
المهدي : ويلك أفي هذا شك يا فاسق ؟
أبو دلامة : فقد بدا لي أن لو علم الله أنهم سيكونون أعداء له ما خلقهم .
روح : فهم أعداء أمير المؤمنين ويلك .
أبو دلامة : أجل إنهم لكذلك .
روح : ألم تقل للجنود إن مسالمة هؤلاء أفضل ؟
أبو دلامة : بلى !
المهدي ( غاضباً ) قبحك الله أفقلت ذلك ؟
أبودلامة : نعم يا أمير المؤمنين ... إن محاربتهم ستجعلهم أشد عدواة لك ، ولكن مسالمتهم ستفئ بهم إليك ، وتجعلهم لك أصدقاء .
أي حكمة يقتنصها أبو دلامة بين ثنايا فتنة الخوارج ؟ ! استهزاؤه بزي الجند كان استهزاء بالمشير به الوزير( الربيع بن يونس ) ذاك الذي لا يميل إلى تظرفه كما يراه ؟ والذي يأخذ على الخليفة استماعه له ، ومحاولة تخذيله لهم تشفي من الخليفة وخاصته الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء تقديم واجب العزاء له في ابنه دلامة فكيف يواجه غضب الخليفة ؟
يتقلب بلسانه بين عمامة الفقيه في إصدار فتوى عدم قتال الخوارج وهم الشاهدون شهادة الحق التي تعصم دماءهم والحكيم الذي يطالب بضبط النفس في معاملة الثوار لقلبهم إلى موالين يشير فإذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه ولي حميم والبحث عن ثغرة بينهم لاستمالتهم إلى جانب سلطة الخلافة وهذا ما فعله بالفعل حين خرج للمعسكر مع الفارس الخارجي والذي كان سبباً في هزيمة معسكر ومع قائد الخوارج !
’’ وإن اختلفنا ’’ حين يتأكد أبو دلامة من إسلام الفارس الخارجي بشهادته الشهادتين أمامه يقول :
( يتنهد ويظهر التألم والأسى ) يا ويلتا ... نحن إذن على دين واحد ، وقد بلغني أن نبينا – صلى اله عليه وسلم – قال : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ، فهل لك أن تصنع لي معروفاً تنقذني به من هذه الورطة التي أنا فيها .
الفارس : ماذا تريد مني ؟
أبودلامة : هل لك أن تسب الإسلام أمامي ؟
الفارس : قبحك الله .. ما تقول ؟
أبودلامة : ولو سباً يسيراً
الفارس : ويلك كيف أسب ديني ؟
وبعد أن يعرض أبو دلامة على الفارس صداقته لانتفاء أسباب العداوة ( يغمد سيفه ثم يرمي به خلفه ) ويقول :
إليك عني يا سافك الدماء ! يا قابض الأرواح ! يا قاطع الأرحام ! يا قاتل النفوس التي حرمها الله إلا بالحق !
مبدأ وإن اختلفنا فما الداعي للقتال والرحم وشيجة تربط بيننا ؟ وربنا حرم قتل النفس إلا بالحق ونبينا يحدد نهاية أخروية مفزعة للقاتل والمقتول المسلمين المتدافعين بسلاحهما، ذروة الانتماء في مهجة أبي دلامة مرتاد الحانة متعاطي الشراب متجاوز الحدود في لفظه وهجائه تتسنمها ’’ نا ’’ في نبينا ! يخطئ البشر بتجاوزاتهم وتظل العقائد شفافة مصقولة صافية وإن شابتها شوائب المعاصي ! ، والسلاح سيفاً كان أوبندقية أو مدفعية في عصر أبي دلامة وعصر باكثير لابد من إلقائه وإخراجه من بيننا لنتوجه به إلى صدر عدونا فهو الأحق به ! صادق أبو دلامة في مواجهة ذاته فلا هو بالفارس الشجاع ولا ما بينه وبين الفارس الخارجي يستدعي حتمية القتال .
أبو دلامة : ( مخاطباً قائد الخوارج بعد أسره والذي يشير إلى الفارس الخارجي الذي أقنعه أبو دلامة بالانضمام إلى معسكر المهدي متهماً له بالخيانة التي تسببت في هزيمته ) يقول :
كذبت يا يافوخ الفتنة ، ليس ولي أمير المؤمنين بخائن ولا غادر
ولاية أمير المؤمنين ، طاعته والانصياع لبيعته ليست خيانة وإنما أمن الأمة أمانة في عنق الجميع ويافوخ الفتنة أعلاها وموقدها هو الغادر بأمته متمثلاً في عصيانه لأمير المؤمنين ، مستشار أمين أبو دلامة ينهى الخليفة عن قتال الخوارج ويدعوه إلى مسالمتهم لاستبدال المناصرة بالعداوة وقد أفلح !وعلى الضفة الأخرى ينهاهم عن العصيان فالولاية أمانة منهم وإليهم فقه أبودلامة عقدة العلاقة بين الراعي والرعية !
ومن حسن تخلصه مرواغة نقاط الضعف لدى الخليفة حين يذكر مشاركته جيش عدوه الأموي أخر خلفائهم مروان بن محمد الذي قتل على يد أتباع العباسيين في حرب الخوارج وهزيمتهم في تسعة عشر عسكر
أبو دلامة : فدعني أنبئك يا أمير المؤمنين بما لا تعلم من أمري ، لقد رأيتني في عهد عدوك المخذول مروان بن محمد وأنا شاب جلد ، وكان يقاتل الخوارج إذ ذاك وخرجت أقاتلهم معه ، فوالله لقد شهدت تسعة عشر عسكرا كلها هزمت وكنت أنا سببها ، فإذا شئت الآن على بصيرة أن يكون عسكرك هذا العسكر العشرين فافعل .
بين حبلين يتنقل أبودلامة لا يحارب فهم مسلمون وإن حارب كان الشؤم والهزيمة والعدد تسعة اكتمال القوة في العشرة الأولى وإضافة عشر إليه تزيده قوة لأنها تصل به إلى درجة الاكتمال في العشرة الثانية ، فالخسارة مؤكدة والعدو المستشهد به آخر خلفاء بني أمية كانت نهايته القتل على يد أتباع الخليفة فهل يهوي المهدي بنفسه إلى دائرة الشؤم هذه ؟ !
وجهنم أليس عليها تسعة عشر من الزبانية والحرب جهنم يصلاها البشر بمحض إرادتهم !.
- يرى أبو دلامة في لونه الأسود ولون الخليفة الأبيض دلالة الشؤم واليمن يقول في معرض إقناع المهدي بعدم إرساله مع الجيش لمحاربة الخوارج : يا أمير المؤمنين ما أحب لك أن تجرب ذلك مني على مثل هذا العسكر
فإني لا أدري أيهما يغلب أيمنك أم شؤمي ؟ إلا أني بنفسي أوثق وأعرف ، وقد دلت التجربة يا أمير المؤمنين على أن السواد يغلب البياض !
شعار العباسيين السواد في ثورتهم على بني أمية فعرفوا بالمسوِدة ومع ذلك فإن أبا دلامة يغلب حكمة التجربة البشرية التي تقول أن السواد يغلب البياض في رمزية تعني أن البياض نور يرتبط دائماً باليمن والنصر بينما السواد ظلمة الهزيمة والخسارة .
- أم دلامة ناطقة بالحكمة مديرة لها تأخذها بعين ملؤها الاعتبار حين تحتاجها عاطفة وعقلاً ، في حال تهدئة حزن أبي دلامة كي تنحى به نحو مصلحة الأسرة هي الأم الصابرة فحين تستقبل الجنيد وأبي العطاء بعد وفاة ابنها دلامة وترحب بهما يقول أبو عطاء :
الحمدلله يا أم دلامة ، كيف أنتِ وعيالك ؟
أم دلامة ( متجلدة تغالب حزنها ) الحمدلله الذي أخذ دلامة وأبقاهم !
ومع زوجها قبل ذلك تصبره :
الصبر يا زوجي ، لقد ذهب بدلامة ما ذهب بأبناء السوقة والملوك من قبله .
( تدنو منه مواسية ) : دع عنك هذا فإن لكل حي أجله الذي لا يستأخر عنه ساعة ولا يستقدم .
الصبر والتصبر والاصطبار قيمة عظمى ترويها أم دلامة حكمة جارية طريقة حياة قبل أن تكون مجرد كلمات وهي الثكلى لابن طالما ناصرها على أبيه ونزواته ، وعقيدة ثابتة هيأتها لأن الموت نهاية كل حي في تضمين لمضامين كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - فلا تقدم ولا تأخر عن ساعة الأجل ، وحمد لله بأن المصيبة لم تكن عامة في الأولاد جميعاً وتستصغر المصاب مع إمكانية أن ينزل من القدر ما هو أعظم منه وهذا شأن المؤمنين ! وسواسية الخلق في درب الكل يسلكه في إشارة إلى طرفي الحياة التي تعيشها وأسرتها وزوجها بين قصر الخلافة بالخليفة وأبنائه وبيتها وزوجها وأسرتها طرف السوقة والفارق كبير جداً في أشياء وهو الصغير لدرجة الزوال في حقائق الحياة فمن من الناس لا يموت ويذهب أبناؤه ؟!














المبحث الثاني
علاقة الرفض والتمرد

يمثل أبودلامة شخصية المسرحية المحورية الأولى بكل علاقاتها المتشعبة مع الآخرين بضعف وشائج تلك العلاقات أو قوتها
وموت ابنه دلامة كان نقطة الهجوم في المسرحية التي ارتكز عليها باكثير في المرحلة الثانية من شخصية أبي دلامة والتي تمثل التحول في نظرته لابنه بعد موته ولموقف الخليفة منه والتي ولدت بعد ذلك بعداً مستقبلياً ظهر في اتحاده مع
( أم دلامة ) للاتفاق على الخليفة وزوجتيه في إدعاء موت كل منهما الآخر ليستعطفا الخليفة وينالا من الجميع العون المادي ورداً انفعالياً على عدم اهتمام الجميع بتقديم العزاء في دلامة
وهذا نص الحوار الذي دار بين أبي دلامة وزوجته
ابودلامة : ( يرسل زفرة حرى ) واحسرتاه عليك يا دلامة ! أفي مثل هذه السن تموت ؟
أم دلامة : ( تجفف دمعها ) هذا قضاء الله يا أبا دلامة ، ولكل أجل كتاب .
أبو دلامة ( يتهدج صوته ) هلا عمره الله كما عمر جده الشقي وأباه الأشقى إنه لأجدر بطول العمر من هذين الخنزيرين !
( ينتحب باكياً )
أم دلامة ( تمسح دموعه بطرف كمها ) هون عليك ، يازند يا بعلي الغالي ، فلن يجدي الحزن عليه فتيلا .
أبو دلامة : ويحك يا حميدة وهل يجديني الضحك شيئاً لو ضحكت !
أم دلامة : الصبر يا زوجي خير ، لقد ذهب
وبعد استمرار في الحديث حول وجد الأب لفراقه لابنه وتذكر بعض المواقف بينهما تقول أم دلامة :
( بعد صمت قصير ) هذا الضحى قد متع يا أبا دلامة أفلا تقوم الآن فترتدي ثيابك وتذهب إلى أمير المؤمنين فلعلك تجد في مجلسه ما ينسيك بعض همك ويعزيك وتنال لنا شيئاَ من بره ؟
أبو دلامة ( يتنهد ) آه يا أم دلامة لقد صرت أكره مجلس المهدي ومن فيه ، ولولا افتقاري إلى ما يفيض علي من سيبه ما أريت هؤلاء وجهي ، ولا أسمعتهم صوتي ، فوالله لا أنسى أبدا أن أحدا منهم لم يجئ لتعزيتي في دلامة .
أم دلامة : ويحك يا زند أما تزال تطوي على هذا الوجد ضلوعك ؟ أفكنت تأمل أن يجئ أمير المؤمنين لتعزيتك ؟
بل كان يكفيني أن يبعث واحدا من رجال قصره ليواسيني في مصابي
أبو دلامة : إنما جاء هذا من تلقاء نفسه ولم يبعثه أمير المؤمنين ولا غيره ، إنه ثكل ابنه مثلي ..... قتله المهدي على الزندقة فذاق مرارة الثكل وعرف كيف يواسي الآخرين
أم دلامة : لعل أمير المؤمنين نسي ولم يذكره أحد وله من همومه ما يشغله
أبو دلامة : والخيزران وريطة ؟
أم دلامة : هاتان غاضبتان علينا منذ يوم مجلس الصلح
أبو دلامة : ويلهما ألا يعطفان علينا مصابنا بابننا دلامة ؟ ألا يعرف قلباهما الرحمة ؟ ليس يعني إحداهما منا إلا أن تغري أحدنا الآخر لتتسليا بشجارنا وخصومتنا وتكيد إحداهما للأخرى ، فلما خالفنا هواهما مرة غضبت هذه علي وغضبت تلك عليك !
أم دلامة : هكذا النساء يا أبا دلامة ، فما ظنك بالضرائر في قصر الخليفة ؟
أبو دلامة : لا بل هم جميعا على هذه الشاكلة ، رجالهم ونساؤهم سواء ، إنما أبو دلامة عندهم آلة تسلية وإضحاك ! ( مهم )
أم دلامة : ويحك يا زند لقد علمت أن هذه منزلتك عندهم من قبل فما عدا مما بدا ؟
أبو دلامة : نعم كنت أعلم أن هذه منزلتي عند المهدي ، وعند أبيه المنصور قبله وعمه السفاح قبل ذلك فكلهم كان يدنيني وينفحني بالمال ليتسلى بنوادري ويضحك به ولكني ما كنت أظن أنني من الهوان عليهم بحيث يموت ابني فلا يعزيني منهم أحد ولا يسأل عني في يوم مصابي .
أم دلامة : أهون بذلك من أمر لا يغنيك وجوده ولا يضيرك فقده .
ألا تذكر يا أبا دلامة يوم التمست من أحدهم يده لتقبلها فمنعك فقلت له والله يا أمير المؤمنين ما منعت عيالي شيئاً أهون عليهم من هذه ؟
أبودلامة : ( يضحك قليلاً ) أجل أذكر ذلك يا أم دلامة
أم دلامة : فاجعل هذه مثل تلك !
وللاسترجاع هنا دلالة الحكم في وعي ولا وعي أبي دلامة الحزين ، دلالة أن يصحو الغافي من نفعيته تحت وطأة مفاجأة موت الولد والإحساس بقيمة الذات أمام الخليفة يقول أبو دلامة في هذا الشأن :
لن أغفر له تقصيره هذا أبداً، أما يعلم أن دلامة عندي خير من ولديه موسى وهارون ؟ أيزدريني لأني أسليه وأضحكه ؟ ويله . الله يعلم وحده أينا يسخر بصاحبه ويضحك منه !!
وهذا الذي أرادته أم دلامة من استرجاع الموقف ؟ صحوة لموجة النفعية بعيداً عن عاطفة نحو الابن لاتقدم ولا تؤخر فالعيال الذين لايحتاجون تقبيل أبيهم يد الخليفة هم الذين يحتاجون الآن ومن قبل صلة الخليفة وعطاؤه لا عزاء يقدمه ورجاله لأبيهم !
( يزدريني وأزدريه ) وجه آخر لرفض أبي دلامة وتمرده فحين اعتبر عدم تقديم المهدي العزاء له ازدراء استبق الإحساس ليثبت أن ازدراءه للخليفة كان في السابق حين يضحكه وهو الضاحك منه تنقصاً ؛ والهدف الحصول على ماله ! ولكن هذا لم يكن الحقيقة أبداً وإنما موجة غضب حركتها عاطفة الأبوة الفاقدة والدليل أنه اعتبر ولاية أمير المؤمنين ذروة الأمانة في خطابه مع قائد الخوارج بعد أن هدأت موجات حزنه الضاربة لكل شئ .

’’ التحول هو تغيير مجرى الفعل إلى عكس اتجاهه ، على أن يتفق ذلك مع قاعدة الاحتمال أو الحتمية
أما التعرف فهو التغير ، أو الانتقال من الجهل أو المعرفة مما يؤدي إلى المحبة أو إلى الكراهية بين الأشخاص ، وأجود أنواع التعرف هو التعرف المقرون بـ ( التحول )
على امتداد التدرج في عرض شخصية أبي دلامة ثمة كشف مستمر وانتقال دائم
( أي تحول من نقطة إلى نقطة سواء في الموضوع أو في نمو الشخصية )
والصراع الصاعد الذي ينشب ببطء وبالتدريج ، هو ثمرة الكشف المستمر والانتقال وهو الذي يضمن النمو ) أي نمو الشخصيات وتطور الموضوع من قطب إل قطب مقابل في الشخصيات
على هذا فإن التحول في الحدث في المسرحية شمل :
1 - تحول مشاعر أبي دلامة تجاه ابنه فبعد كيد بينهما كان موت الابن كفيلا بتفجر عاطفة الأبوة والترحم على ما فات من أيام .
2 - تحول نظرته إلى القصر ورجاله ونسائه في شعور منه بالدونية ترجمته أحاسيسه النفسية وانفعالاته العاطفية والتي تبعها تأملات ذهنية في الحال التي هو عليها مما أعقب غضبه على الخليفة ومن معه بمعنى أن الصراع في شخصية أبي دلامة ظهر في أكثر من خط بعضه مستقيم والآخر متعرج
ففي إحساسه المؤلم بفقد ابنه دلامه كان خطاً مستقيماً قلب كل ما كان بينهما إلى الضد ، ثم انتقل إلى خط آخر غضبه من الخليفة ومن معه فتحول الصراع من داخل أبي دلامة إلى خارجه والذي بدا في نقاشه مع أم دلامة التي استطاعت أن تتعرج بذلك الصراع في خط يصب في المصلحة النفعية القائمة بدءًا بين الطرفين
زوجها وهي وأفراد الأسرة من جهة والخليفة وزوجتيه ومن حوله من جهة أخرى في استرجاع لطبيعة العلاقة منذ قيامها وهو مايؤكد ما ذهبت إليه الدراسة في المبحث الأول ( علاقة التبعية النفعية ) ثم نفخت نفخة قوة تحمل إثارة مكامن نوادر زوجها حين لجأت إلى نموذج سابق تسقطه على الحدث فكانت كمن رسمت لزوجها شخصيته وأكدت عليها لتهرب به من حالة الرفض والتمرد بحادثة تقبيل يد أحدهم ( الخليفة ) ولم يحدد باكثير أكان المهدي أم أباه أم عمه ، والتي منعها منه تواضع الخليفة ،( أو احتقاره لأبي دلامة ) فقلبته إلى معيار المصلحة على لسان أبي دلامة (والله يا أمير المؤمنين ما منعت عيالي شيئاً أهون عليهم من هذه ؟ ) فلما اعترف أبو دلامة كلاماً وفعلاً بضحكته بادرته : فاجعل هذه مثل تلك !
3 - ينتقل الحوار بعد ذلك بين أبي دلامة وصحبه ’’ الجنيد وأبي عطاء ’’ ليتكرر موقفه الناقم على المهدي وخاصته حيث يسألانه عن اليوم السابق لحضورهما والذي ذهب فيه إلى القصر ورفض تقبل عزاء أهل القصر خوفاً من تندرهم عليه بل وأظهر عدم اكتراثه بموت ابنه العاق في الوقت الذي كان قلبه يتمزق في ضلوعه حزنا وكمدا ، ويفشل صاحباه في تبرير موقف المهدي بانشغاله بالخوارج المارقين عليه فماذا كان رده ؟
( أبو دلامة )ما أدري والله لماذا يريد أن يحاربهم وهم مسلمون مثلنا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، ألا يتركهم وشأنهم ؟
الجنيد : ( بصوت منخفض ) صه لو سمعك أحد من رجاله تقول هذا ما سلمت من العقوبة .
أبوعطاء : نعم ... حذار يا أبا دلامة
أبو دلامة : والله لأقولن هذا لرجاله في القصر ولجنوده أيضاً ، فما أرى جلهم إلا راغبين عن الخروج لقتال هؤلاء المسلمين ! ولهذا الرفض دلالالته القاطعة بحكمة أبي دلامة المشار إليها سابقاً من حيث تصوره لقتال لخارجين على الخليفة وإن كانت وقتها تعني الثورة على كل ما يرضي الخليفة ويهدأ توتره
أبوعطاء : ويلك ياشيخ إياك أن تفعل فوالله ليكونن وبالاً عليك .
أبو دلامة : وأنا والله لا أبالي .

على أي قوة نفسية كان يعتمد أبو دلامة في الاعتراض على تتبع المهدي للخوارج ؟ ليس لأبي دلامة من التقى واتباع الشرع ما يجعله ينتقد موقف قتال من اعتبر قتالهم تجاوزاً لمبدأ إسلامهم ؟ وهو المتجاوز للكثير من للحدود الشرعية الفاسق الماجن !
كان دعماً للخط المستقيم في تحوله والذي سيسلكه بتعرج في اتصاله بالخليفة بعد غضبه منه يؤيد ذلك إصراره على ارتداء اللباس الذي أشار به الربيع بن يونس وزير الخليفة للجند والداخلين إلى القصر
( يدخل أبو دلامة لابساً قلنسوة طويلة تدعم بعيدان من داخلها ، وقد علق في منطقته سيفاً طويلاً وعليه جبة سوداء كتب على ظهرها فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم )
( يضحك أبوعطاء والجنيد وهما يتأملان هذا الزي الغريب )
أبوعطاء : ويلك يا أبا دلامة ماذا صنعت بنفسك ؟
أبو دلامة ( جاداً غير هازل ) المهدي هو الذي صنع بي هذا .
الجنيد أفتريد أن تذهب لأمير المؤمنين بهذا الزي ؟
أبو دلامة : ويلك لا أقدر بغيره أن أغشى القصر ، ألم تعلم بعد أنه أمر جميع رجاله ومن يغشى قصره أن يرتدوا هذا الزي ؟ ذلك المأفون الربيع بن يونس وزيره هو الذي أشار عليه بذلك ؟
أبوعطاء : ويله .... ماذا يقصد بذلك ؟
أبودلامة : ( يدير له ظهره ) اقرأ ما على ظهري ؟
أبوعطاء : ( ضاحكاً ) فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم . هذه آية من كتاب الله
أبو دلامة : نعم لقد زعم له هذا الأحمق أن ذلك سيقوي نية جنوده في قتال هؤلاء الخوارج ويشد عزائمهم !
الجنيد : ويحك سيضحك الناس منك في الطريق إن رأوك على هذا الحال
أبو دلامة : ( يتقدم نحو الباب ليخرج قبلهما ) ويلك ماذا يعنيني أن يضحك الناس أو يبكوا ؟ هذا أمر خليفتهم أمير المؤمنين !
يراوغ باكثير أم يراوغ أبودلامة ؟
وفي انتقال للصراع من داخل أبي دلامة إلى خارجه مع زوجته وصحبه ليوسع الدائرة بعد ذلك إلى الشارع حيث الضمير الجمعي للأمة في مواجهة مع قرارات الخليفة التي تسوقه ويسوقهم معه في مواجهة أبعاد الأزمات الداخلية
أبو دلامة يريد أن يحرج الخليفة انتقاماً من موقفه ولا يبالي معتمداً على رصيده من نوادره التي طالما أضحكت الخلفاء فهو المختل غير المتزن في انفعالاته ومن هنا ينبع ظرفه المستحب فليجار اللباس ذلك الاختلال ’’ تزواج بين المظهر والمخبر ’’ في خبث ينتقل به للتسلية بالخليفة ووزيره ومشورته فيضحك منه الناس وباعتراض على قرار قتال الخوارج في عمق مكمن الأزمة ، لا سيما وقد ذهب إلى القصر وأضحك الجنود من زيهم الذي يرتدونه بأمر المهدي ومشورة ابن الربيع ليقنعهم بعد ذلك وبعد أن يصل بهم من خلال نوادره إلى خلع الزي بل وضرورة مسالمة الخوارج بدلاً من قتالهم ؛ بحجة أنهم مسلمون مثلهم يشهدون الشهادتين مما أغضب المهدي وجعله يستبدل قرار قتله لفعلته تلك بخروجه مع الجيش لقتال الخوارج .
4 - وفي المعسكر حيث يُجبر قائد الجيش أبا دلامة على النزال يدور حوار بينه وبين قرنه يستدرجه فيه لمضمون فكرته المؤمن بها لا عداء شخصي ولا قبلي ولا عقدي فلماذا يقتل أحدهما الآخر ؟ وصولاً إلى المصلحة النفعية وأن كليهما خرج للدنيا لا للأخرة حسبة لله ! ثم يقنع أبو دلامة الفارس بأن الدنيا عند المهدي أرحب وأوسع منها عند هؤلاء الشرذمة من الخارجين عليه ؟
الفارس : بغير شك
ويمضي بهما الحديث إلى أن يقنعه بالانسحاب من جيش الخوارج بمن يوافقه منهم ليعتبرهم صيدا ثمينا يقدم لقائد الجند ومن ثم للخليفة يقول أبو دلامة للفارس :
نعم إنك لصيد وإنك لصائد ، كل مافي الوجود صائد ومصيد ، هذا المهدي أمير المؤمنين أتدري لماذا أغشاه ولماذا هو يقربني ؟ إنه يصطاد نوادري وأنا أصطاد دنانيره ، وهذا روح بن حاتم ’’ قائد الجيش ’’ يريد أن يتصيد منك الشجاعة والبلاء ، فتصيد منه أنت وأصحابك منه الرزق والعطاء
الفارس : ما أحسن ما قلت يا أبا دلامة !
فلماذا يا أمة الإسلام النزاع فلا قبلية في زمن باكثير ولا عقيدة وكتاب أمامكم إذن فهو حب الدنيا لا تقديماً لآخرة !
في المشهد الثاني والأخير من الفصل الرابع يعود الكاتب باكثير بأبي دلامة إلى خط البداية حيث التبعية المطلقة ولكن على الطريقة الدلامية الفكهة ، إشاعة موت أبي دلامة وزوجته حيث قسم أسرته إلى حزبين في اتجاه معاكس لما اعتادوه في الاتصال بزوجتي الخليفة
الحزب الأول ويمثل أبو دلامة فيه ويقوم على ادعاء أبي دلامة أمام زوجة الخليفة
( ريطة ) بوفاة أم دلامة التي كانت تتردد عليها لتنصفها دائماً من أبي دلامة في مواجهة لضرتها الخيزران
الحزب الثاني تمثله أم دلامة وابنتها عسلوجة أمام؟ ( الخيزران ) التي كانت تقف دائماً إلى جوار أبي دلامة في مواجهة لضرتها ريطة وادعتا موت أبي دلامة .
مكمن اللغز غضب الزوجتين من أبي دلامة وأسرته بعد حادثة الجارية ودلامة والتي وردت في المشهد الثالث من الفصل الثاني وانقطاع ما كانوا يتحصلون عليه منهما ، وهي النقطة التي وقف عندها أبو دلامة مفكراً كيف بعد أن نال رضا المهدي وعفوه بعد حادث المعسكر وانتصاره على الخارجي بضمه إلى أنصار المهدي ، كيف يستطيع أن يكسب الطرف الآخر والذي يراه يُمسك بخيوط رضا المهدي والمقصود هنا زوجتي الخليفة .
يقول مخاطباً قائد الجيش ( روح ) حين يسأله فيم اهتمامك وتفكيرك ؟
أبو دلامة : في الخيزران كيف ترضى عني ؟ وفي ريطة كيف ترضى عن أم دلامة ؟
روح : ويلك إن رضاهما تبع لرضا أمير المؤمنين .
أبو دلامة : كلا بل رضا أمير المؤمنين لرضاهما تبع ، والله ما رأيت من المهدي إلا العطاء المصرد منذ غضبتا عليّ وعلى أم دلامة .
وبالفعل تنجح خطته ويكسب هذا الطرف مرة أخرى إلى جانبه وتعود حياته إلى قصر المهدي ورضاه وعطائه .

















الخاتمة
مما سبق يمكن استخلاص نتائج الدراسة كالآتي
- هناك علاقة أزلية تفرضها الطبيعة البشرية بين المبدع والسياسي فكلاهما في صف الإبداع منجز وكلاهما يحتاج إلى الآخر تفرض ذلك طبيعة بشرية تُبكي السياسي ويُبكي بها غيره ليأتي بعد ذلك الضحك في نادرة الفنان المبدع الضاحك من بكاء حالته ’’ دمامة شكل أو فقر مادي جلب استياء أسري’’ وربما لهذا بدأ باكثير بالآية الكريمة بأنه تعالى أضحك وأبكى .
- نفعية العلاقة المتبادلة بين من يُقدم النادرة يتصيد بها الدنانير ومن يقدم الدنانير يتصيد بها النادرة فيحفز هذا ذاك وذاك هذا ويستمر عطاء الاثنين بلا توقف .
- والوقفة التي تلفت الانتباه أن كلا الكلمتين حروفها واحدة مع تقديم بعضها وتأخير البعض ( نادرة ودنانير ) فهي نادرة ولا يقدرها إلا من يفتقدها بدنانيره والدنانير مسحاة النوادر تحسن تقليب تربتها الخصبة باستدراج وتفاعل وربما اقتلاع !
- للحقيقة أكثر من وجه وكل يراها بزاوية مختلفة ، فالخوارج للسياسي فتنة تدك استقرار الدولة وللمبدع المضحك مجالا للتندر من مصالح الجميع .
- التحول في الشخصيات ومواقفها حقيقة لا يمكن أن ينكرها أحد تؤدي إلى خلق أزمات جديدة في الشخصيات تنقلها من قطب إلى آخر في بعضها وتكون وقتية ساعة الحدث وأيامه ما تلبث أن تعود بالشخص إلى طبيعته .
- صورة المجتمع المسلم في ذلك الوقت لا تختلف كثيراً عن صورته الآن فالثوابت واحدة وإن ذبذبت تفاعلها متغيرات العصر .
- حياة البشر لا تخرج أبداً عن أزمة الضحك والبكاء على الأشخاص والأشياء ومنها .
- يقبع التمرد والرفض في زوايا الشخصيات يتوارى ويظهر حسب المصالح .
ولأن باكثير يكتب مسرحياته السياسية بطريقة هزلية أو جادة رمزية أو مباشرة يناقش فيها أزمات الأمة فإن مسرحية أبو دلامة التي يرى بعض النقاد أنها تهدف للإضحاك فقط ! يتبدى لي فيها أن باكثير كان أبو دلامة عصره مع الحكام بمرواغة مضحك الخليفة من خلال كلمة في سطر في مسرحية ! فبين المحبرة كما يقال والمقبرة التي رآها باكثير متمثلة في ظروف الأمة السيئة جداً بنزاعاتها المتجددة والمتعددة وجبهات أعداءها المفتوحة عليها ناقش باكثير هذه الأوضاع بدون إثقال على القارئ وربما بدون إثقال على نفسه متخففاً من توتر هذه الأزمات فقد يضحك من تفيض عيناه دمعاً وأحيانا تدفع شدة الضحك الدموع ليُغرق فيها الضاحك ضحكه .
أضافة تعليق