من أبرز المفاهيم الإسلامية التي تم تحريف معناها واختزاله واجتثاثه، مفهوم العبودية لله رب العالمين، فما إن يذكر لفظ العبودية حتى تنصرف الأذهان إلى الصلاة والصيام والزكاة والحج والذكر والشعائر التعبدية المعروفة فحسب، فلئن كانت هذه أجل العبادات، إلا أن مفهوم العبادة أوسع وأشمل من ذلك بكثير.
فالله تعالى خلق الخلق لعبادته كما دل القرآن الكريم {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومن أجل هذه الغاية سخر الله للإنسان ما على الأرض وما في السماء ليقوم بمهمة العبودية والاستخلاف، فهل كل ذلك من أجل بضع ركعات أو صيام النهار أو إخراج جزء يسير من المال أو قراءة القرآن وأداء الحج فحسب؟
العبادة معنى شامل لكل حركة وسكنة يؤديها الإنسان في مرضاة ربه، فهي كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية: “اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة”.
فإذا عُلم ذلك، فإن العبادة يتسع معناها، لتشمل السمت الحسن، وبشاشة الوجه، والإصلاح بين الناس، وإتقان العمل، والنظافة، والحفاظ على البيئة، وإسعاد الآخرين، والحفاظ على الصحة، واكتساب القوة، والأخذ بأسباب الحضارة والتقدم والرقي، والتيسير على العباد، والرفق حتى مع الحيوانات، وإعمار الأرض، بل محبة الخير للناس وكراهية الشر لهم، وكل ذلك له أدلته من الكتاب والسنة، ولذا يدخل في معنى العبادة، لأنه قول أو فعل يحبه الله ويرضاه.
ومن هنا ندرك كيف يكون التشجير والزرع مثلا عبادة، فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ).
لقد أدرك السابقون هذه الحقيقة، حتى إن أحدهم ربما تقرب بمشاعر الرحمة بالعباد إلى خالقه، فهذا أويس القرني من التابعين، والذي حجبه ضيق اليد عن التصدق فقال: “اللهم إني أعتذر إليك من كل كبد جائعة، ومن كل جسد عارٍ، فليس لي إلا بما على ظهري وفي بطني”.
وعندما كان هذا المفهوم الشامل للعبادة ماثلا أمام أعين المسلمين السابقين، برعوا في علوم الكيمياء والطب والفلك والرياضيات والصناعات وغيرها من مفردات الحضارة، فهم يتقربون إلى ربهم بتحصيل أسباب القوة والازدهار.
لقد أدى اختزال مفهوم العبادة واجتثاث كثير من مفرداتها، إلى حالة التقوقع التي مرت بها الأمة في بعض عهودها، فانصرف بعض الناس عن التعاطي مع الواقع وشؤون الدنيا، بحجة التفرغ للعبادة، ولو فطنوا لمعناها الحقيقي لالتمسوا الأجر في الإعمار ورعاية شؤون الناس ومداواتهم وبناء مساكنهم وحياكة ثيابهم، وطباعة الكتب العلمية سواء كانت في علوم الدين أو الدنيا.
كما أدى اختزال مفهوم العبادة، إلى حالة من الانفصام في حياة المسلمين، فيعتقد بعضهم أن كل ما عليه أن يؤديه هو الصلاة والزكاة والصيام والحج، لأنها تمثل كل العبادة وفق مفهومه القاصر، ثم على الجانب الآخر تجده يتساهل في المعاملات المالية، ولا يخالط الناس بخلق حسن، ويتكاسل عن تقديم العون لغيره، غير مدرك أن الأخلاق الحسنة من أعظم العبادات التي يتعبد بها لربه تعالى.
العبادة بمعناها الشامل، تخرُج بالإنسان من محرابه إلى هذا الفضاء الرحب، لتجعله عنصرا فاعلا منتجا في مجتمعه وأمته، وتعيد صياغة سلوكياته وتنظم علاقاته مع الناس والبيئة.
هذا الشمول في معنى العبادة، هو المراد من قوله تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، عندما تكون كل حركة وسكنة وقول وعمل قربة إلى الخالق سبحانه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.