في القصة المعروفة للجميع، كان هناك ثلاثة ثيران، الأبيض والأحمر والأسود، شكلوا قوة عجز الأسد عن دحضها، فاحتال على الثورين الأحمر والأسود، بأن معركته ليست معهما، وإنما مع الثور الأبيض، فلما استسلما لهذه الخديعة أكله الأسد، ثم كرر الحيلة ذاتها وأقنع الثور الأسود بأنه لا يستهدفه، وإنما يريد الثور الأحمر، فلما أكله وأقبل بعدها لينقض على الثور الأسود المتبقي، قال الأخير: «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض»، فنهايته لم تكن في اللحظة الراهنة، وإنما انتهت حياته في اليوم الذي ترك فيه رفيقه لمصرعه، ولم يتعظ بأحوال الآخرين.
لكن القصة غير المروية، أن الثور الأسود عندما أُكِل رفيقاه تناول أقراصا مخدّرة، جعلته ينسى مصيرهما، وصار يعيش بذاكرة بيضاء، يرفل بغمرة نشوته في أوهام النجاة، ممنيا نفسه أنه الناجي الوحيد، وأنه سيعيش في مأمن غير عابئ بطبائع الافتراس للأسد.
يمكننا بمنطق الثور الأسود، الذي يُخدّر وعيه للحصول على ذاكرة بيضاء، أن نشير إلى المشروع الصهيوني، الذي لم يعد أحد في العالمين يعرف حدوده وامتداده، ويتلاقى هذا المشروع مع مشروع غربي إمبريالي توسعي آخر، لشق الوطن العربي جغرافيا إلى شقين: بلاد النيل وبلاد الشام، وسبيله إلى ذلك أنْ قام بزراعة الكيان اللقيط في فلسطين. كل العرب يوقنون بأن الكيان المحتل يتحرك بالفكرة الدينية، لأنه في الأصل جمع عليها أهلها من أقطار الأرض، حتى إن كان مؤسسوها علمانيين ملاحدة لا يقيمون لتوراتهم وزنا، لكنهم جعلوا الدين رأس حربة في مشروعهم الإمبريالي التوسعي، وحتى الآن يسير السياسي والديني داخل حدود الكيان جنبا إلى جنب، كلاهما يستفيد من الآخر، بينما تدرك الحكومات الصهيونية أن التخلي عن الفكرة الدينية سيكون إيذانا بزوال الدولة. إذا كان هدف إقامة دولة إسرائيل الكبرى غير خاف على أحد، وإذا كان قادة الكيان وزعماؤه منذ التأسيس يصرحون بهذه الأحلام الصهيونية، وإذا كان الحاخامات المتنفذون يحشدون الجماهير على فكرة شعب الله المختار، في مواجهة الأغيار (غير اليهود) ويعدونهم حيوانات بشرية، أو على أقصى تقدير، بشرا من الدرجة الثانية، وإذا كانوا يرفعون شعار «العربي الجيد هو العربي الميت»، فكيف يقف الثور الأسود على مقاعد المتفرجين، وهو يشاهد غزة تُباد؟ غزة تعني المقاومة، والمقاومة تعني العقبة الكؤود أمام ابتلاع الكيان المحتل لسائر فلسطين، وابتلاع فلسطين يعني الانتقال إلى خطوة توسعية أخرى للكيان في المنطقة. كيف يظل الثور الأسود حتى الآن مؤثِرا موادعة الأسد (مع الاعتذار للأسود)، ومباشِرا للتفاوض معه والإنصات إليه وقبول وعوده بحياة أكثر هدوءا مفعمة بالسلام والمحبة، مع العلم التام بأنه كيان ناقض لكل العهود والمواثيق، وتاريخه حافل بالسواد!
الثور الأسود يعلم يقينا أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الراعي الرسمي للكيان الإسرائيلي، ويعلم يقينا أنها دولة تحركها دولة عميقة، ولوبي صهيوني قوي يؤثر على القرار السياسي في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية خاصة، وكل ما له صلة بالمصالح الإسرائيلية، ولن تكف عن دعم الكيان على حساب المصالح العربية.
يعلم الثور الأسود يقينا، أن أمريكا تبيع حلفاءها بعد أن يصيروا أوراقا محروقة، ويُسأل عن ذلك الرئيس الباكستاني الأسبق برويز مشرف، الذي كان أكبر حلفائها ثم غدرت به، وبالمثل تخلت عن عملاء آخرين منهم شاه إيران، والرئيسُ الفلبينيُ ماركوس، وسوهارتو الإندونيسيُ، وباتيستا الكوبيُ وغيرُهم، كُلُهُم تَنَكَّرَت أمريكا لِصَدَاقَاتِهِم. فلماذا يصر الثور الأبيض على الاستقواء بالأسد الأمريكي (مع الاعتذار للأسود مرة أخرى)!
من الواضح أن الثور الأسود مأسور بلحظة النجاة الراهنة، لا يكترث للمدى المنظور، على طريقة (احيني اليوم واقتلني غدا)، عليه فقط أن يستمتع باللحظة ووهجها وبريقها، وينعم بامتلاك لقب حظيرة الثيران، ويُطبق على هذه السلطة الآنية، أما النظر إلى مصير الثيران السود من بعده، فهذا أمر هو عنه بعيد. الثور الأسود يجد في الولايات المتحدة ملاذًا من طوفان رعيته من الثيران السوداء، يرى في أمريكا ضامنا لاستمراره على كرسيه، لأنها تستطيع أن تبرز ثورا آخر من الثيران السوداء ليحل محله، ومن أجل تحقيق هذا يقدم تنازلات، وفقا لقانون المصالح الذي يحرك السياسات الخارجية لأمريكا وكل الدول قطعا، ويقبل بها حتى لو وصلت إلى تغيير هوية الثيران في حظيرته. مشكلة الثور الأسود والثيران عموما على اختلاف ألوانها، أنه لا أحد بينهم يثق في الآخر، كل منهم يرى أن زميله يمثل خطرا عليه أشد من خطورة الأسد، فلذلك هو في مرحلة استقواء دائم بملك الغابة على من سواه من الثيران.
اعتاد الناس على الاعتقاد بأن اللون الأحمر الذي يلوح به مصارع الثيران يستفز الثور، لكن يأتي العلم لينفي هذا المعتقد، حيث أن الثور كسائر الماشية لا يستطيع تمييز الألوان أو ما يسمى بعمى الألوان، لكنه يُستفَز بتلويح المصارع بالراية، يشعره بالتحدي والخطر، لكن مشكلة الثور الأسود أنه لا تستفزه أنياب الأسد البادية، ويطمع في أن يظل في رحلة تفاوضية معه أبد الدهر، ويغمض عينيه عن كارثة الثور الأبيض والأحمر، بعد أن دخل في غيبوبة تجعل ذاكرته بيضاء، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.