في ديسمبر 1989، أوصلني والدي رحمه الله مختار عنيبة علي الساعة السادسة إلا الربع مساءا إلي كلية الحقوق، لأتابع دروس التعليم المتواصل من الساعة 6 إلي 8 ليلا.
بقيت في مدخل معهد الحقوق إلي حين ما سمح لنا بالإلتحاق بقاعة الدرس. وقفت أنتظر لوحدي، كانت من عادتي عدم التحدث مع الزميلات لأن في جل الأوقات كن يسمحن للزملاء الذكور بالوقوف إلي جنبهن و مشاركتهن الحديث و هذا ما كنت لا أطيقه، فديننا الحنيف يمنع منع بات مثل هذه السلوكات الغير الأخلاقية.
كنت صارمة في تعاملي مع الذكور، لم أكن لأسمح لنفسي بأن يقف أحدهم إلي جنبي ليحدثني، و لست ممن تتسامح مع من يسيء لسمعتي، فأنا كنت اجتهد للحفاظ علي عفتي، لا أخالط الذكور تحت أي عنوان.
كان ذلك اليوم مميز، كنت أنظر إلي كل ما حولي بنظرة مودعة، سعيدة.
كانت قاعة الدرس تضم أكثر من 500 طالب و طالبة....الإختلاط علي أشده و مادة القانون المدرسة كانت وضعية لا تعترف للخالق بحق التشريع.
كان هاجس الزميلات إيجاد عمل بعد حصولهن علي الشهادة الجامعية في حالة ما إجتزنا إختبار الإنتقال إلي الجامعة بنجاح بعد عامين من التعليم المتواصل و كن ينشدن آنذاك أيضا الزواج.
أما هم الزملاء الذكور، فطبعا التخرج و إيجاد عمل. لا أحد من هؤلاء أو هؤلاء أولي أهمية للشرع الإسلامي الذي يحرم الإختلاط بين الجنسين في أوج شبابهم، فبعد أكثر من 40 سنة من الإستقلال نجحت المنظومة الفكرية العلمانية للسلطة الجزائرية في قولبة شبابنا وفق القالب المعادي للدين الإسلامي منهاجا و شرعا و أخلاقا.
زنا العينين و اللسان و اليدين و القدمين، كان منتشر بين صفوف الطلبة، كي لا أقول أكثر.
كنت قد فكرت مليا في قراري بالتوقف عن طلب العلم في مؤسسات دولة جزائرية لا تؤمن بشرع الله و لا تطبقه، متطرفة في علمانيتها.
تحدثت مع والدي رحمه الله مليا. كنت أؤمن أشد الإيمان أن لا حاجة للمرأة المسلمة المؤمنة في الإسترزاق و إن عملت طبيبة أو معلمة، فلساعات قليلة مرة أو مرتين في الأسبوع و في وسط غير مختلط أما مكانها الطبيعي فهو بيتها. كلفها الله بأدوار أهم بكثير من الإسترزاق، ان تكون خير إبنة و خير أخت و خير زوجة و خير أم، و أما أن تكون قائدة طائرة أو مهندسة في الميكانيك، فهذه مهام ذكورية بحتة حكر علي الرجال بإعتبارهم قوامون علي النساء و عليهم تقع مهمة الإنفاق عليهن.
لم اخبر أحد في محيطي المباشر بمعهد الحقوق أن ذلك اليوم كان الأخير، فقد كانوا حتما سيقابلونني بالسخرية من رجعيتي و تشددي الديني أو بالسخط، بكل بساطة لم أكن لأعبأ بأراءهم.
قررت طلب العلم بين جدران البيت العائلي و كنت علي قناعة بأن الله يرزقني من حيث لا أحتسب تزوجت أم لا. المهم و الأهم بالنسبة لي الحفاظ علي عفتي.
بعد 34 سنة من إتخاذي ذلك القرار، لم أندم عليه أبدا.
طاعة الله و الثقة فيه الكاملة جنبتني الوقوع في معاصي و كبائر وقع و يقع فيها شبابنا.
كان اليوم الأخير، جلست في زاوية محاطة بزميلات، لم أكن أسمح لأي من الزملاء الجلوس إلي جنبي أو حولي مباشرة، جاء الأستاذ متأخرا و درسه كان فارغا لا يستند إلي ركيزة بصلابة و صحة الشرع الإسلامي.
في نهاية الدرس و عند خروجنا، ودعت الزميلة الوحيدة التي أخبرتها بقراري. كانت متأثرة، فقد كانت ترتاح كثيرا لزمالتنا.
-لماذا عفاف هذا القرار الغير الواقعي ؟ ديننا حثنا علي طلب العلم ...و في مرحلة ما من حياتك المستقبلية ستحتاجين إلي شهادة عليا...
قاطعتها بلطف :
- طلب العلم ضمن ضوابط أخلاقية صارمة و علي بمواصلة طلب العلم الشرعي أولا في بيتي بالتوازي مع دراسة العلوم السياسية وفق المنهج الذي أضعه أنا بعيدا عن الإختلاط و عيون الذكور التي لا تغض بصرها عنا، هذا و "من ترك شيئا إتقاء الله عوضه الله خير منه "طبقا للآية الكريمة 2 من سورة الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم { و من يتق الله يجعل له مخرجا} و اللهم يتقبل مني الله عز و جل، وداعا!