السياسة الإشهادية لذوي الألباب
سميرة بيطام
لذوي الألباب سياسة مع الخَلق تُجرِّدهم من فرائض النفس المحببة لانتزاع الأحقية في رد الأذى بالأذى، ورد الظلم بمظالم أكثر منه، وردِّ الكرامة إلى مكانها المعتاد بضوابط النهي عن المنكر والأمر بالمعروف واللاتسامح عند الخطأ.
يبدو أن الأمر ليس واضحًا وضوح الشمس في عزِّ لمعانها، لكن في سياسة ذوي الألباب منهج آخَر وفكر مُغاير تمامًا لفكر قابيل وهابيل في لحظة منافسة على تقبُّل قربان أحدهما عن كليهما، فكانت الخطيئة وكانت الحيرة في مواراة آثار الخطيئة تفسيرًا عن عجز العقل البدائي بداية اختلاق الآدمية على وجه الأرض في مواراة أثر الخطيئة.
في فكر سياسة ذوي الألباب أرجوحة تتمايل بين أن يقتصَّ اللبيب حقه بقصاص حجم الألم الذي يتعرَّض له، أو يفرض نفسه داخل مجموعته التي يتفاعل معها بشكل مُستمر، ولكن برادع ألا يقترب أحد من أحد في افتعال المظالم.
طيب، يبدو أن عقلي وعقلكم بدأ يستوعب أبجديات هذه السياسة المميزة.. أكثر توضيحًا بين مبدأ السنِّ بالسن احتواء لصراع الحلبة بأكمله، وبين العين والعين احتكار لمجال سوء الظن برغبة النظرات في التفاهم على أن الكل سواء كأسنان المشْط، لكن فكرة البادئ أظلم، فصلَت في كل الأقوال، وجعلت من البادئ هو الأظلم والأسبق في اختلاق الظلم.
بصراحة، انتابني شك وظنٌّ كبيرَان فيما إذا كانت الضغوطات سببًا مُباشرًا في سنِّ الظلم، أم إن المظالم على اختلاف أنواعها ليس لديها الشاهد ليشهد معها وليس ضدَّها، ثم مخافة الظلم من انتصار الحق أضحَت مِن المُسلَّمات المعترف بها عن قناعة منذ وجود البشرية قاطبة على وجه الأرض، ولنضرب أمثلة على ذلك.
في قضية أصحاب الكهف، كانت لرفقة الكلب للفتية محل شك في تعدادهم؛ فمنهم من يقول: كانوا خمسة وسادسهم كلبهم، ومنهم من يقول: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، لكن ما كان يُهم أن للفتية شاهدًا على وضعيتهم داخل الكهف وهو كلبهم لما كان باسطًا ذراعيه بالوصيد، فهذا الوصف هو شهادة صريحة على الانبساط والنوم، فهذه الرفقة ولو أنها لم تكن بشرية، إلا أن فيها شهادةً على فرار الفتية مِن مَلِكهم وظلمه لهم.
ومثال آخَر عن نسيج العنكبوت وركون الحمامة على عشِّها في سكينة، شاهد آخَر على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يدخل إلى الغار، وإلا لتمزّق النسيج ولفارقت الحمامة عشَّها تاركة بيضها، هذا تخمين أهل قريش، فهذه الشهادة لم تكن كاذبة، بل كانت مُضلِّلة لقريش بأمر الله - عز وجل - حتى لا ينكشف أمر الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر الصديق.
من هنا استنتاج أن للحق شاهدًا طالَما كان مَبنيًّا على فكرة الولاء لله - عز وجل - ولنضرب مثالاً آخَر من سيرة الأنبياء - عليهم السلام - حتى تكون شهادتهم شهادة لمَن لا شاهد له.
فقد كان دم الذئب على قميص يوسف مُغايرًا للدم البشري؛ لأنه دم كذب أهدر في لحظة تمويه على سيدنا يعقوب من أن يوسف أكله الذئب، ثم في نفس السياق، قميص سيدنا يوسف - عليه السلام - قُدَّ مِن دبُر فكان من الصادقين وكانت امرأة العزيز من الكاذبين، من هذه المشاهد الواقعية، يتبين أن الشاهد ليس بالحتمية دائمًا أن يكون بشرًا؛ لأنه من عمق المظالم يولد الشاهد وحده وليس لأحد من البشر أن يضبط امتداده أو تطاوله على الحق، ولا حتى مجرد قياس يقاس على مقاس الحق؛ ليفي بغرض التضليل.
لذلك؛ كانت سياسة ذوي الألباب تتحرى بنفسها مسرح الظلم؛ إذ لا شأن للقانون، ولا للفقه مساعدة في ذلك؛ لأن هذه السياسة مجبولة على الحِكمة والبصيرة الثاقبة، يُفكِّر صاحبها ويُحلِّل بإشعاع متوقِّد في عقل لبيب يجعل في رحلة التفكير حرية بالدرجة الأولى، ثم نقدًا صحيحًا على ترجمان اللسان، ولما لا حاكمًا في نهاية مطاف اللبابة..، طبعًا الحكم بالحق وليس حكم السلطة.
يبقى أني فضلتُ تسمية منطق ذوي الألباب وقرْنه بالسياسة؛ لأن من يمارس السياسة بنجاح عليه أن يكون على قدر مِن الحنْكة والذكاء والممارسة الجيِّدة لضوابط تحليل المشاهد والأحداث، وأظن أن ذوي الألباب لديهم سياسة البرهان على ما يشاهدونه بأعينهم، وما تفكر فيه عقولهم اليقظة والمتوقدة بشعلة النباهة ووقود الصدق.
لكن بودِّي أن أتقدم بنصيحة لذوي الألباب - حتى وإن كان الله قد حباهم نعمة العقل المُفكِّر - أن يحافظوا على نعمة العقل المتوقد في أن في الحياة حجارة كثيرة ومُتباينة الأحجام، وعلى اللبيب أن يجمعها ويصنع منها جسرًا ممتدًّا إلى آخر خلية مُفكِّرة في عقول الناس، ثم عليه أن لا يَعتبر نفسه مثل قمة الجبل يرى الناس صغارًا، فكم مِن جبال هوتْ بتدحْرُج أحجارها ولو على مرِّ الزمن!
سأسعد جدًّا بكل لبيب لو شعر يومًا أنه شخص في هذا العالم، في حين هناك مِن المحبِّين والممتنين لجوهرة عقله مَن يرونه العالم كله، فهلا حافظت - أيها اللبيب - على شهادة محبيك؛ لتبقى محبة الناس لك شهادة مِن أنك أجدر وأقدر؟ وحبذا لو تكون هذه الجدارة والقدرة امتدادًا للرسالة المحمدية ليتَّخذ الله منا ومن أمثالنا شهداء على الناس، ويكون الرسول علينا شهيدًا.