لم تبق سوى أيام معدودات على رحيل رمضان...رمضان المغفرة، رمضان الرحمة، رمضان العتق من النار...كلما مرّت بالمسلم محطات من الحياة، سواء كانت فرحة أو ترحة، إلا و تراه يقف عندها متأملا فيما مضى و فيما هو آت، و لعله عند ذلك يقف وقفة صادقة مع نفسه، كتلك الشركة أو ذلك التاجر الذي يريد أن يقف عند ربحه أو خسارته في الصفقات التي مرّت به عبر مدة زمنية محدودة، إما السنة أو نصف السنة أو في الشهر، و قد مرّ بنا الحال قبل بداية شهر المغفرة و الرحمة، نفوسنا معلقة إلى قناديل العطاء و البذل و الإخاء و الرحمة... و ما إن يقترب انتهاء شهر الرحمة و المغفرة حتى تجد المسلم يلهج لسانه بشكر الله عز و جل، على توفيقه له في صيامه، و بما قام به جاهدا حتى يحظى بالأجر و القبول، و أن يكون ممن شملتهم مغفرة الله عزّ و جل، و يكون ممّن منّ الله عليهم بالعتق من النار...اللهم اجعلنا منهم ... أردت اليوم أن أقف بين تلك المحطة التي بدأت بهذا الشهر الفضيل، و تلك المحطة التي انتهت معه، شهر الرحمة و الغفران و العتق من النيران، هل ترى وقف كل منا على دفتر إنجازاته، دفتر حساباته...دفتر وقفته مع نفسه...حتى لا ينفرط عقده الثمين و يذهب سدى ... تجد المرء إذا فقد أحدهم مالاً أقام الدنيا و أقعدها، و إذا فقد عزيزاً عليه انقلبت حياته لأيام عديدة كدراً و ضيقاً، و إذا فقد أي شيء يعتبره غاليا في هذه الحياة إلا و تألم أشد الألم، فكيف يكون حالنا نحن إذا فقدنا جزءاً من عمرنا أو عمرنا كله، في الجري وراء الملذات، و التفاهات، و الآهات... لقد أهدى الله إلينا عدة محطات في السنة و هي كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال و ليس الحصر: يوم الجمعة، التي خصها الله بساعة استجابة، و الاثنين و الخميس و لأيام البيض، و هي أيام يستحب فيه الصوم، و شهر رمضان، و ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، و الليالي العشر ((هي عشر ذو الحجة)) و عاشوراء، فالسنة مليئة و الحمد لله بالكثير من المحطات، التي باستطاعة المسلم ان يغتنمها في حياته، و يربطها عقدا فعقدا، حتى لا ينفرط عقده، و السؤال الذي يطرح نفسه هنا: على أي شيء عزمنا بعد انقضاء شهر الصيام و القيام و تلاوة القرآن؟ قيل لبشر - رحمه الله - : إن قوماً يتعبدون و يجتهدون في رمضان، فقال: "بئس القوم لا يعرفون لله حقاً إلا في شهر رمضان، إن الصالح الذي يتعبد و يجتهد السنة كلها". و سئل الشبلي - رحمه الله - : أيما أفضل رجب أو شعبان ؟ فقال: "كن ربانياً و لا تكن شعبانياً". لقد كان نبيك محمد - صلى الله عليه و سلم - عمله ديمة، أي يتصف بالمداومة و الاتصال، فقد سئلت عائشة - رضي الله عنها - هل كان يخص يوماً من الأيام؟ فقالت: "لا، كان عمله ديمة"، و قالت: "كان النبي - صلى الله عليه و سلم - لا يزيد في رمضان و لا في غيره على إحدى عشرة ركعة". فنحن جعلنا من رمضان محطة نتقرب بها إلى الله عزّ و جل، فلا نجعل ختام طاعاتنا مع أول أيام العيد، و نقطع كل صلة قد وثقناها مع رب العزة جل في علاه، و نعود إلى غفلتنا و ضياعنا، بالتخلي عن الصلاة، أو عدم قراءة القرآن آناء الليل و أطراف النهار، و قد نتخلى عن كنوز كثيرة ساقها الله لنا في شهر الرحمة، فلا نكونن من الغافلين عنها، لنحييها بلذة مناجاة الخالق سبحانه. إن المسلم الكيس لا تخدعه المظاهر، و لا تلهيه الشواغل، و لا يتعلق بحبال التسويف، و طول الأمل، فإن الموت قاب قوسين أو أدنى، فلا يغرنه في نفسه ما يرى من صحة و عافية و نشاط قوة، فالشباب سرعان ما يتلاشى و ينطفئ، و الصحة سيعقبها السقم، و الشباب يلاحقه الهرم، و القوة آيلة للضعف، فالحياة قصيرة و إن طالت، و الفرحة ذاهبة و إن دامت. و لهذا و ذاك لابد أن لا نترك هدية الرحمن تنفرط منا مثل ذلك العقد الثمين، لقد كان رمضان عبر الدهور، و تتابع العصور؛ مدرسة إيمانية، و محطة روحية، يتزود منه العبد لبقية عامه، و يشحذ همته، لبقية عمره، إنه بحق مدرسة للتغيير، فلنغير إذن من عاداتنا و سلوكنا و أخلاقنا المخالفة لشرع الله ((إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)). ها أنت يا رمضان قد قرب رحيلك ... و أزف ذهابك ... فيا ليت شعري بما تحب أن نودعك؟! يا أجل شهر عند الله و رسوله، يا شهر الصوم و القرآن، يا شهر العودة إلى رحاب الإيمان، يا شهر التوبة و الرجوع إلى الرحمن... نسأل الله أن يتقبل منا ما قدمناه فيك من الطاعات، و أن يديم تعلقنا فيما سواك بالعبادات و أن يجدد للمسلمين فيك الانتصارات...