عمالقة الصمت الحكيم
كلما قرأتُ سير العُظماء، أنتقِل من مرحلة حياتية إلى أخرى غير التي أحيا بها وفيها الآن، أستنتِج تصرُّفات كانت في غاية التعقيد مِن مُواجَهة الصعاب وتَحدِّي الخطوب، فأزداد اشتياقًا لمعرفة المزيد، والغوص في المعقَّد والصعب، لستُ مِن هُواة التطفُّل المدقِّق لتفاصيل الحياة الشخصية أو المِهنيَّة بقدر ما يستهويني ذاك التصدي لكلِّ صعب، وكيف أن هؤلاء العظماء نالوا شرف التتويج بوصولهم لتحقيق أمانيهم وأهدافهم المخطَّط لها منذ عقود مِن الزمن، لا تُهمُّني جنسية هؤلاء المكافِحين بقدر ما يهمني مبدؤهم في رسم خطوط النصر بمشقَّة كبيرة للتتويج، ومِن غير تراجُع للوراء أو توانٍ عن تَكملة مسيرة النضال.
كان لا بدَّ لي أن أتفرَّس بنظرة ثاقبة مراتب التتويج، وكيف بَدَؤوها مِن العدم، أو قل: مِن شبْه العدم، في المواساة المعنويَّة والمادية والروحانية، والتي هي مِن أهمِّ مقوِّمات النصر، لكن الحقيقة هي أن بلوغ الأهداف الطموحة والرائعة ليستْ تأتي ببَساطة المكسب وبتوفر الوسيلة والسند من المحيطين لمد العون والمساعدة، بالعكس فمُعظم مَن اكتوى بنار الصِّعاب تذوَّقها وحده وفي صمت رهيب، ومِن غيرِ أن يكون له شهود أو شواهد، بل كانت هاته الهامات هي الشاهد الوحيد على أنفسهم في مسيرتهم، ولكم صعب عليهم تَدْوين مشاهِد مذكِّراتهم بالصورة المستقاة من واقعِهِم المعيش، حتى إن البعض مِن هؤلاء الخيرة مِن الناس تجده يؤجِّل الكتابة إلى حين يَرى الوقت مناسبًا، وربما السبب هو نضج المبدأ على مرور الوقت لتتجلى ملامح الصراع والنصر جيدًا، فقد يكون من اللقطات والأحداث ما هو مناسب وموافق للسرد، ومنها ما يتحفَّظ فيه بسبب خصوصيات شخصيَّة، قد تكون عائلية، وقد تكون لها صلة بمتاعب أخرى لا يجوز سردها، وهذا التحفُّظ يتناوله هؤلاء الناجحون بطريقة أخرى قد تكون في معظم الحالات غير مباشرة، أو تنسب لأشخاص آخرين ومواقع مُغايرة؛ حتى يُبعد المكافح عنه تمجيد الأنا، والتي حقيقةً تجرَّعت من كأس العذاب كثيرًا، ليقرِّر في مُنتصَف ذكرياته أن يَجعل نصيبًا منها احتسابًا لله تعالى حينما تكون الشخصية إسلامية مائة بالمائة، أما الغير مِن ذوي الانتماءات المختلفة للديانة، فتجد نهاية البعض منهم غامضةً أو شابها الكثير من الحزن والدِّراما المُبكيَة، ليَبقى التصوُّر للمبدأ يختلف من عقيدة لأخرى ومِن فكْر لآخَر، وما يُهمُّني كثيرًا هو نسق الصالحين المُكابدين في بطن المعاناة؛ حيث يَخرج الزبَد مُنفصلاً عما جادت به عزيمة هؤلاء من خير للبشر وللدين.
ليس المقام مخصصًا لشخصيَّة معيَّنة باسمها وبمَسيرتها بقدر ما سيكون التركيز على فكرة الصَّمت في اجتياز الصعب والشاق الذي تتحلَّى به مسيرة أيِّ مُستميت بقلب ينبض تأكيدًا على تخطِّي العراقيل ولو بضريبة مُزلزلة للروح والكيان ككل، فالضريبة هي تاج الفائز في نهاية المطاف، هي أيقونة تدون حكمة الصمت عند هؤلاء فيشعر القارئ أنهم ضحَّوا وتنازَلوا وصبروا وصمتوا أولاً وأخيرًا حتى لا يَنهار ما بنَوه في غياب كامل للقريب والبعيد، ليُشارك إنجاز التحدي، أو على الأقل يُشجع لتمامه، وهي حكمة إلهية في أن يُحقِّق الطموحُ نصرَه بيده وباستحضار عوامل النصر، وأولها: التوكُّل على الله وحسن الظن به؛ لأنَّ مُنهكات القوى كثيرة ومُتنوِّعة ومتكرِّرة عبر كل مرحلَة مِن مَراحل الكفاح.
في اعتقادي أن نَيل الشرف من أمانة الأداء ليس يُحقِّقه إلا الصمتُ الحكيم، وقوَّة الإرادة التي يَصنعها الإيمان القويُّ والمُتجدِّد في كل حقبة من حقبات المسيرة، فالإيمان يبلى ويصيبه الوهن والتردي والانكسار لتُصبح سريرة المكافح في اضطراب بين ما يُمليه عليه عقله مِن ضرورة إكمال الطريق برغم المخاطر، وبين ما تُطالبه به نفسه أنها تُريد التراجُع والتخلِّي عن مُواجَهة هذه المشاقِّ؛ لأنها أحيانًا تكون فوق طاقة التحمُّل، وما يُعيد ميزان الشُّعور بالتوازُن هو التذكُّر أن الله تعالى لا يُحمِّل نفسًا إلا وسعَها، فتصل قناعة الإنسان المثابر المؤمن خاصة إلى أنَّ طريق الله شاق، وتَحدوه الكثير من موهنات القوَّة والإرادة، ولكن بقراءته لسيرة الأولين ممَّن اختاروا طريق الله يَسترجِع أنفاسه بثقة كبيرة وبهمَّة عالية أنه الطريق الصحيح والنافع في كل الأحوال - يعني في الدنيا والآخرة - وغيرُه من الطرق المؤدية لملذات الدنيا ما هي إلا سبُلٌ لتحقيق نزوات عابرة تكون مِن باب التقليد والتنافُس مِن جهة، وقد تكون من باب اختيار الأيسر والأسهل والأخفِّ في أن يحمل على الأكتاف، لكن العقل الواعي والفاهم لحقيقة وجود ابن آدم يَستوعب أنه لا بد من دفع ضريبة الجنة التي وعد الله بها المتقين، فيُصبح الاحتراق لأجل تحقيق الفكرة الطموحة لذةً ما بعدَها لذَّة، ويؤول التعب والجهد والإنهاك إلى راحة وطمأنينة وسكينة قلب نبض كثيرًا شوقًا لنَيل الرِّفعة في المرتبة المتوجة بعد صبر طويل وجهاد مُستمرٍّ، والأصعب فيه هو جهاد النفس الأمَّارة بالسوء، وما يكون مبنيًّا على قناعة النصرة لدِين الله يتحقَّق بإذنه تعالى ولو اعترض المسارَ اعوِجاجاتٌ كثيرة ومُتعدِّدة؛ لأنَّ هذه العراقيل كانت لدى الأنبياء السابقين والأولين، فما بالك نحن - البشر العاديِّين - فيما لدينا من طاقة لتحمل ما استطاعت عليه إرادتنا من غير إضفاء صفة الإيثار والزهد والترفُّع عن الآلام والجراح ونزيف الروح خاصة؟ هذا النزيف يجعل المؤمن يعيش غربةً حقيقيًّةً، فلا يَلقى ثناءً مِن حبيب، ولا إعجابًا مِن صديق، فتزداد درجة الغُربة والوحدة لدَيه لدرجة يشعر فيها أحيانًا بنَوعٍ مِن الشكِّ الذي يُحاول أن يَحيد به عن جادَّة الصواب، فيظنُّ بنفسِه أنه مُخطئ، وأنه حالة خاصَّة بتفكيره الراقي في مُجتمَع تسُوده الكثير من الفِتَن والتناقُضات والسلبيات التي تُخطئ بصاحبها حيثما اعترضَه طارئ أو عارض ما.
لكن ما استنتجتُه مِن قراءتي المتنوِّعة لبعض سِيَر العمالِقة الذين احترمتُهم كثيرًا بعد أن عرفت تركيبة شخصياتهم الفذَّة هو أنَّ الصمت كان يُخيِّم على مشاوريهم النضاليَّة، فلا يبوحون بما يدمي جراحَهم الأبدية، ولا ينقلون رنين عبراتهم المتقطِّعة أشلاءً كثيرة لمَن يَحسبونهم مستودعًا لأسرارِهم؛ لأنَّ البعض في مسيرته تعرَّض للخيانة، والبعض الآخر تعرَّض لمُنافسة غير شريفة من أقرب الناس له، والبعض الآخَر تعرَّض لصدمات نفسية أفقدته نكهة البناء، فتوقَّف الصُّنع في المنتصَف على الرغم مِن اقتراب انتهاء هرم التتويج، وما أصعبه مِن خذلان يكسر الطموح، بل يَغتاله مِن غير سبب واضح أحيانًا؛ لأنَّ ما كان سلاحه الحسد والغيرة يقتل في رهبة شديدة من الخفاء، ولا يعرف السبب حتى بعد كشف ملابسات ما حدث؛ لذلك تكون ضريبة هؤلاء الأخيار شاقَّة وغالية جدًّا، أحيانًا لا يتصوَّرها ولا يستوعبها عقل بشريٌّ، لكن النجاح الحقيقي يناله الشريف بشرف أدائه لأمانة الكفاح بكل صدق وإخلاص لله تعالى، فلا يُصبِح همه إذا أصبَح إلا مرضاة الله، ولا يصير هدفه حين يُمسي إلا كيف يُحقِّق المزيد من التتويج، أكيد تتْويج الدعوة إلى نداء الله في تَمكين دينه في الأرض، وليس يهمُّ في ذلك لا خوف ولا فشل مؤقَّت؛ لأنَّ طبيعة المسار تتخلَّله لحظات ضعف منطقيَّة للخلود للراحة والْتِقاط القوى بعزيمة الإيمان المتجدِّد.
وعليه، لا يظن أحد فينا أن الناجحين من الأبطال وصانعي النصر نالوا التتويج في طبق من ذهب مسجى بأحلى لؤلؤ التيسير، بل كادهم التعب، ونال منهم العذاب، وتخلَّل طريقهم يأس حتى في اقتراب بلوغ الهدف، ولكنهم استفاقوا في نهاية المطاف على قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [يوسف: 110].
ويَبقى الصمت لاجتياز الصعب أهم سلاح حينما تشتدُّ عواصِف القَسوة والتنكُّر ومحاولة تدمير صاحب الفكرة المميزة، ومني أنا أؤكِّد أنَّ صاحب النجاح الحقيقي لا يَنتهي في منتصف الطريق برغم الصعاب، بل يُكمل الطريق ليستمر العطاء وتستمر الحياة ويَكتمل نصاب اليقين أن الله هو من بيده كل شيء، وليس للبشر قدرة على إيذائه إلا بما كتبه الله ولحكمة من الحكم.
فنصيحتي لك أيها المكافح:
استمرَّ ولا تلتفت خلفك حينما تثور ضدك أعاصير الفشل، تقدَّم قدمًا، واكسِر بإيمانك جدار التنكُّر، وصدَّ صمام أذنيك عن سماع الكلام المزعج لطموحك، واترك الضعف والسخرية والاحتقار لأهله؛ فهذا كله سببه الغيرة والحسد، وحتمًا ستَجدهم يتبعون وتيرة إنجازك، ولكن حينما تصل إلى القمة لتظهرَ لهم جيدًا، هنيئًا لكفاحِك ولنجاحك الحقيقي من غير مساومات ولا مُزايَدات، ومِن غير أن يُشاركك أحد صنيع تعبك، فهذا هو النجاح الحقيقي.
تقديري لهؤلاء العباقرة.