مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/05/26 20:04
أيا مكة جودي علي في رمضان

أيا مكة.. جودي علي في رمضان

 

لما ذُكر الإيمان في القرآن ذكر معه المؤمنون، وذكر العمل الذي هو الترجمة الواقعية والتطبيق العملي للإيمان، ولا تتم حقيقة الإيمان إلا به، فليس الأمر مجرَّد مشاعر؛ إنما هو مشاعر تفرغ في حركة لإنشاء واقع وَفْق التصوّر الإسلامي للحياة.

 

فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة، ما إن تجد لها سكنًا في الضمير حتى تسعى بذاتها ولذات الآخرين في تحقيق ذاتية الإيمان في الخارج في صورة عمل صالح.

 

صحيح أن الشمول من أهم السمات التي يتميز بها المنهج الإسلامي عن كل ما عرفه الناس من الأديان والفلسفات والمذاهب، إلا أن زيارة بيت الله الحرام هي من أصدق الرحلات التي يحط الركب المسافر رحاله؛ حيث الطهرُ والطمأنينة، والوصال مع الله - عز وجل.

 

مكة أو مكة المكرمة، اختاري ما شئت من مسمياتك؛ فأنت أحلى بالتكريم، وأجمل بالوصف، وأرقى الدُّور في عبادة وتسبيح الله - عز وجل - في رحاب البيت الحرام.

 

أي مكة.. فيك قِبلة المسلمين، وبك أشاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أطيبَك وأحبَّك إليَّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما سكنت غيرك)).

 

إنه شعور مترتب على حبك، فمَن لا حب له في قلبه ناحيتك - باعتقادي - لا انتماء له، وأنا أنتمي إليك يا مكة بألفتي في زيارة مقدساتك؛ حيث الأركان ألفت وقع أقدامي، ولمس يدي، ونظرات عيني بدموع الشوق إليك، فَرُحْتُ أستأجر فندقًا لأضع أغراضي، أما نومي فكان في كل شبر من بيت الله الحرام، هو سكن لي دونما تكلُّف أو حسابات الأكل والشرب؛ فسكر العجوة طاقة لبدني، وشرب زمزم إشباع لعطشي، فما مزايا الفندق؟

 

أقمت على أرضك يا مكة في رمضان الكريم، فانتظرت ليلة السابع والعشرين أعدُّ ساعاتها بأناملي؛ لأن فيها لقاءً مع الملائكة تبسط أجنحتها للمسبِّحين والمتهجدين، فكان السهر إلى بزوغ الفجر قيام ليلة كاملة، وإن كنت أخشى ألا تكون الليلة الحقيقية، ولكن فرصة الصلاة على أرضك يا مكة لا تساويها أي فرصة أخرى من شبر المعمورة على خلاف باحة الأقصى.

 

فأنتِ من قال فيك الله - عز وجل -: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96]، وقوله أيضًا في سورة البقرة: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 126]، وقوله - تعالى - عن إبراهيم: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37].

 

فهذا زخم هائل في وصفِك يا منارة المسلمين من كل بقاع المعمورة، ولَكَم كان في اعتدال المصلين آية في الجمال، وفي الركوع اتساق بين الأكتاف، إنها الأبهة الإيمانية، والكبرياء الديني، فيها عزة الإسلام، وفَيْح التقوى، وركون الخاطر والبال في طواف التسبيح، والدعاء بقوة العزيمة على الرغم من حر الشمس وعطش الريق وزحمة الوافدين إليك، إلا أن ذكر الله ينسينا كل التعب والمشقة، وأظنها البركة المعطاة لك، وبتقدير إلهي بعد أحداث سابقة حدثت على أرضك، حيث كان لأمِّنا هاجر غدوٌّ ورواح بحثًا عن الماء الذي غدا "زمزم" بإشارة من لسانها، واطمئنان سيدنا إبراهيم بعد أن ترك زوجته وولده في رعاية الله وحفظه، فكانت المعجزة وكان العطاء، وعلى ركن إحدى قواعدِك يفوح مسك الحجر الأسود حجر الجنة، ومن التزاحم عليه يترك فينا - نحن النساء - أملَ رؤيتِه بمنأى عن مزاحمة الرجال، بعد أن كان في قصته حديث وحديث من تقبيل الأنبياء له، يا من كنت ياقوتًا من يواقيت الجنة؛ لتصبح علامة لبداية الطواف ونهايته، وختم عند تقبيلك استجابة الدعاء.

 

فيا مكة، فيك من الإعجاز ما لا تكفيه نقاء الكلمات لوصفك ومدحك، جرِّدت من جمال الطبيعة حتى لا ينشغل المسلمون عن العبادة، فكانت الحكمة الإلهية في أن تكون الطبيعة صامتة، غير مزينة باخضرار الشجر، ولا بألوان الزهور، أليس هذا من إتقان الله في تخصيص قِبلتك للعبادة؟!

 

إذًا؛ دعيني أصف حلاوة ماء زمزم، ببرودة الانتعاش من ينبوع البركة، ففيه الشفاء لما شرب له، وفيه الاستجابة لما دعي له.

 

مكة، يسكن قلبي وأنا أصلّي في أي شبر من أرضك المحيطة بالحرم وبداخل الحرم، خشوع آخر على جدار الكعبة، أين ألقي بوجهي على جدارها، وأعانق ارتفاعها وأنا أطمئن أن الله لن يرد دعائي.. ودائمًا على لساني أمنية أن يا رب اكتب لي زيارة بيتك الحرام كل عام.

 

ومن هناك من على قمة الصفا والمروة سعيٌ على خطى أمِّنا هاجر، حيث أستحضر همَّة المرأة في السعي توكلاً على الله؛ عساها أن تجد مصدرًا للحياة.. صدقًا إنه جمال الإسلام، وعزيمة أولياء الله.. فيا مكة، أرضك تشهد على المعتمرين والحجَّاج؛ لتكوني شاهدة على عرس المسلمين في ضيافة الرحمن.. أليس هذا إتقانًا وفنًّا آخر للجمال الإلهي؟! ففي أثواب بيض صفاء الفطرة، وفي تتابع سلسلة الزائرين ترحاب منك لكل مَن يحمل جنسية إسلامية.

 

مكة.. أنا أصفُك خارج الحرم وداخله؛ لأني لا أقدر أن أَفِي بقيمة قداسة أرضك وطهرك، وأمام هذا العجز أقول لك: أيا مكة، جودي عليَّ في رمضان، اللهم استجب يا رب.

 


أضافة تعليق