لقد أعجبني الحوار الذي دار بين أستاذة و تلميذها، و نقلته على موقع تواصل اجتماعي، لأنه عبر بصدق عما يعانيه شباب اليوم من تفكك و اهدار للوقت، و كثرة تبرير للفشل ...و هي معاناة أردنا أن نسلط عليها الضوء لتوضيح بعض الجوانب التي تستحق التوقف عندها... تقول الأستاذة الفاضلة و هي مع تلاميذها في قسمها تؤدي واجبها:" كنت البارحة في حوار مع بعض تلاميذ الأقسام النهائية الذين ابتلوا ( بالزطلة و...(المخدرات) و قد تولى النقاش أحدهم... كان متقدا مقتنعا أشد الاقتناع بآرائه... والده رجل محترم أديب... له وزنه الاجتماعي... ناقشني بحرارة... و لما أفرغ ما في جعبته و أنهى حديثه عقبت على كلامه قائلة: (كي يكويك الزمان... تعرف قيمة واش راني نقول) فقام من مكانه و اقترب مني أكثر و قال: الكية راهي هنا... مشيرا إلى صدره...كيف تحكمين علي...؟؟ هل عشت همومي... ؟؟ نعم أنت أكبر مني سنا و ربما قدرا...لكن هذا لا ينفي... أنني عرفت من الآلام الكثير، و قست علي الحياة... كما لم تقس عليك ...ربما... الحياة لا تقاس بالسنين سيدتي... بل بالهموم التي عشناها..." و تضيف قائلة الأستاذة الفاضلة:" أنا أعرف أنه يتيم الأم... و أعرف جيدا مكانة الأم في نفس شاب مراهق... و أعرف...و أعرف... (عن زوجة الأب...و عن الأب في غياب الأم) و ما لبث أنتوقف عن الكلام حينما لاحظ أنني أغالب الدموع... فرق لي و أشفق عليّ...و اعتذر مني... و انصرفت متمنية له الخير..." و هكذا انتهى الحوار بينها و بين التلميذ أو بالأحرى بين القسم الذي تدرِّس فيه... صدقوني أنني تألمت لحاله، و حال كل من هو على شاكلته، غارق في مشاكله، يتجرع ألامه، و يكابد و همومه، و لعلنا نجد عند شبابنا و شابّاتنا قصصا أخرى تكون أكثر إيلاما و اشد وقعا ... و لكن إلى متى تبقى هذه السلبية... إن ما شد انتباهي في هذ الموضوع، هو أنني أعلم علم اليقين، أن الناجحين هم أناس بحثوا عن الظروف التي يريدونها، و حينما لم يجدوها صنعوها ...و اجتهدوا أيما اجتهاد في صناعتها و خرجوا من الوحل الذي هم فيه...و ما كانوا أشخاصا لا يحسنون إلا التبرير...فكثرة التبرير هو مؤشر للفشل ...و بكل صراحة هذا ما يجري مع شبابنا و شابّاتنا... و من زاوية أخرى لا أنكر الحاجة الماسة لإيجاد آليات تنتشلهم مما هم فيه...إننا نرى الكثير و الكثير من المؤسسات التربوية، و الجمعيات، و مراكز التدريب و التطوير، التي تقوم بدورما في هذ المجال، لكن تدخلها فيه يبدو مناسبتيا و هي لم تأخذ كثيرا بعين الاعتبار ضرورة وضع جدول تحسيسي يتكفل على مدار السنة بهذه الفئة ... ثم أين هو دور الأستاذ البيداغوجي و التربوي في التكفل بهذا النوع من التلاميذ ؟ و لماذا لا يتم تخصيص حصص في الأوساط التربوية بين فترة و أخرى لتشكل فضاء واسعا يسمح بمناقشة هذه الظاهرة و يمكّن التلاميذ من التعرف على ما يترتب عليها من أخطار تدمر مستقبلهم و تهدد حياتهم...؟ لماذا لا تخصص ساعة أو ساعتان في الأسبوع في المتوسطة و الثانوية لتتم مناقشة هذه المواضيع مناقشة جادة، بحضور أساتذة مختصين لإعادة تأهيل هؤلاء التلاميذ، حتى يتسنى لهم العودة إلى مباشرة الحياة الطبيعية، و ليضخوا فيهم الأمل في الحياة من جديد...و يجعلون نصب أعينهم أن الهروب من المشاكل بدل مواجهتها هو تحطيم للذات البشرية...؟ و لعل أفضل ما أختم به حديثي هذا هو هذه القصة، و هي قصة أقتبسها من واقع شاب عايش ظروف تقريبا ممثالة لشباب اليوم، بل لعلها أقسى، و لكنه لم يهرب من مشاكله بل واجهها بشجاعة، و لم يستسلم لها، و لم يهرب منها بتعاطي المسكرات أو المخدرات.... كان سنه أربع سنوات ...طلقت والدته من والده ...أمه أعادت الزواج مع آخر و انجبت أطفالا بمعنى أصبحوا إخوة له، في أول سنة له في الابتدائية كانت المدرسة بعيدة عنه و كانت والدته يتعذر عليها مرافقته إلى المدرسة، فكانت تعرفه كيف يذهب و كيف يعود آخر المساء، و هو في هذه السن الحرجة، و في أيام عطلته كان زوج أمه يوقظه بركلات في جنبيه حتى يأخذه معه للعمل و لا يبقى يتمتع مثل كل الأطفال باللعب و شراء الحلوى...أو البقاء في حضن والدته مثل إخوته...عندما نجح بامتياز في السنة السادسة من التعليم الابتدائي ...سخر منه زوج أمه. و هكذا شبّ هذا الطفل مع آلامه و أخذ شهادته العليا للإعلام الآلي، و أضاف إليها شهادة مهندس دولة في علم الالكترونيك ... إذن الناجحون هم أناس بحثوا عن الظروف التي يريدونها و حينما لم يجدوها صنعوها...و هذا بالضبط هو ما يجب أن يعرفه شبابنا و شباتنا و أنه لا مبرر لأحد في تبرير تعاطيه للمخدرات بكثرة المشاكل و تراكم الهموم... و أن المخدرات هي بذاتها مسببة للمشاكل، جالبة للهموم فالذي يهرب إليها يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار... فهل يعقل ذلك؟ و أي عاقل يقول به...؟