حرارة الدموع واختلاق التحدي
فيما مضى كانتِ الدموع عنوانَ الأنثى في الألم، في الدلع، في التعبير عن الإحساس بالوحدة، في الشعور أنها أنثى، بل في أحقية المرأة في أنوثتها أن تجد سلوتَها في عبرات غالية، هي الملجأ الوحيد برمي سلاح المقاومة جانبًا إلى حين.
عبر عصور خَلَتْ كانت أحقية للمرأة في التحدي للضعف بأن تبكي، لكنها تصر أن تبكي وحدها، أو خلف جدران الصمت؛ لأنها حينما تبكي لا تتكلم، فالدموع تعبِّر عن كل شيء، بالرغم من أنها توصف بدموع التماسيح.
صدقا لا أحب لغة التعالي والاستهزاء؛ فإن كان للتماسيح دموع، فلماذا تنقضُّ على فريستها في لحظة خديعة ودون رحمة؟! أظنُّ أنها مفارقة، بل مغالطة، هو مجرَّد تشبيه حتى لا تؤتَمن المرأة في بكائها.
حسنًا لنفترضْ أن هذه الدموع هراء، فما شأن الغير إن كانت صادقة، أم لا؟ ثم ما شأن الغير حينما يكون البكاء هو الملاذ الوحيد، والقوي من ظلمات ثلاث: ظلمة المظالم، وظلمة اللا اعتراف بالحق في الفهم ومناقشة فنون الحياة، وظلمة الضرورة الحتمية في أن تحتمي الأنثى - أو بالأحسن البنت - تحت جناح والدها، والزوجة تحت جناح الزوج، والأخت تحت جناح الأخ!
أين نحن من هذه الأدوار البطولية، والرائعة روعة القوامة في مشهد قرآني واضح؟! أم الملامة ألاَّ تبكي المرأة، وإن بكت فهي تكذب.
لستُ لأنني امرأة أدافع عن بنات جنسي، لكن هل من السهل ذرف الدموع الصادقة، والمعبرة عن الحسرة والألم؟ فالمشاهد كثيرة، ولا داعي لذكرها؛ لأن لغة العيون واضحة، وكاشفة للمستور، ولغة الضعف مفهومة تقنع العقول، ولغة التذمر مترجَمة بترجمة اللغات المقنعة؛ فلما لا تلزم القوامة حدَّها، فيما يجب الالتزام به؟ وهكذا نكف عنا تعليقات موجعة ومصدِّعة لرأس الأسى، ففي تكرار الأسى رغبة في التحدي.
ثم لم التعدِّي على صرح المرأة - وبالأخص الملتزمة التزام الكلمة والفعل - بأحقية الثبات في كوم الضغوطات؟
لم كل هذه المظالم في أن للمرأةِ كلَّ الحق والحرية أن تبكي وكفى بذلك سبيلاً.
ليس هذا هو المتنفَّس الوحيد وفقط؛ ففي المجتمع اختلالاتٌ مُخَلخِلة لخلخال الصراحة والصدق، هناك انقلاباتٌ جذرية لمفاهيم القوامة، وإن ظهرتْ فهي تطفو فقط لإلقاء نظرةٍ من أننا نحن الرجال هنا! أين أنتم هنا من ضمير الحاضر؟.. بعد أن غبتم بضمير كان ولن يكون كما لازم أن يكون وفق مفاهيم فقه المسؤولية.. نصيحتي أن تتركوا لضمائر الإعراب أن تُثبِت القوامة في محلها من الحقيقة، خيرًا من التباهي بها ككلمة دون تطبيق، كستار دون سترة، كهواية دون مهنة، هل في ذلك شك؟
ثم المرأة بحاجة لسند الزوج أو الأخ، المهم عندي ليس في الصفة، بل في صفة الرجولة، المرأة في حقيقتها تستحيي وتخشى الهزيمة، وتخشى التحدي عن ضعف، ثم متى يفهم الأب، والأخ، والزوج، حتميات المسؤولية تجاه البنت، والأخت، والزوجة؟
فالله حباه القوة والتحرر من كل سخط للمجتمع ليلقي برداء الكرامة والتقوى غطاءاً للسترة والحماية للأنثى بتأنيث القدر.. فهل للقدر نقاش أو مسائلات.. بالتأكيد لا..
الشريعة السمحاء ألقتْ بطاقية الإخفاء للمرأة في ألا تختلط، ولا ترفع صوتها، ولا تصافح الأجانب، ولا، ولا.. فلم لَمْ يؤمِّم الأب والأخ والزوج ضمانًا لسنوات العيش الكريم، وليس لسنوات محدودة بقدر مكوث البنت في بيت الأب أو الأخ؟
أليست القوامة تريد التسلل إلى أَقْبِية خاويةٍ؛ لتختفي هروبًا من أدوار البطولة؛ لتظهر على مرأى من الناس: أني رجل موجود بقوامتي، فقط اطلبوني وقت الحاجة.
من أين لهؤلاء بهذا المنطق؟ إن كان من الشريعة، فهي بريئة، وإن كان من العرف والعادات، فالتصحيحات واردة بعقول العارفين، والعالمين في تفاسير النصوص القرآنية.
فالحذر كل الحذر أن تهانَ تقيَّةٌ تقوم الليل في ثلث الظلام الكابد، والحذر كل الحذر أن يُعَاب على معاقَة؛ فالقوة في تلك الإعاقة، وكل النصر في ذاك العجز الخيالي، لأناس يُدْلُون بتصريحات بأحكام مسبقة لا أساس لها من الصحة، فبين الكفيفة والمُبصِرة فرقٌ في الحدس الثاقب بحاسَّة سمِّيت بالسادسة، لا تمتلكها العين المبصرة، ثم حذاري للمرة الألف كل الحذر من حكيمةٍ لم تقرأ لا ألفًا ولا باءً في مدارس الأطوار؛ لأن العناية الإلهية منحتْها الحكم بالأحكام المسبقة، لا تخطئ أبدًا.
إذًا الحذر واجب، بل أعتقده مع هؤلاء هو فرضًا؛ لأن في حرارة الدموع اختلاقًا لمولود التحدي، مثلما في حرارة النار أكلة لذيذة، أو دمار شامل لشظايا بركان التمرد، والرفض لكل محاولات التيئيس والإذلال، وبالأخص حينما يقال: إن الضعيف يبقى ضعيفًا.
دعونا نسأل الموءودة بأي ذنب قتلت؟ وبأي حق وئدت؟ ثم اتركونا نقرأ في تراث الصحابيات الجليلات، في سلسلة نساء خالدات بختم من الرسول - عليه الصلاة والسلام - حينما قال على فراش الموت: ((استوصوا بالنساء خيرًا))؛ ستجدون البطولة والوقار والرفعة لشأن الإسلام، بصبر "آسيا" على فرعون زمانه، وعلى صمت "مريم" العذراء في ميلاد مَن دافع عن العذرية في المهد، ولأم ورقة بطلة الشهادة في أن جمعت القرآن الكريم، فجعل لها مؤذنًا يؤذِّن لها في بيتها، والسلسلة طويلة وليست بالمنتهية.
مني أنا، فلن أكفكفَ دموع أخوات لي في الله، إن هن بكين حبًّا في الله خشية منه، مني أنا لن أطلب من أحد أن يكفكف دموعًا لأعين باتتْ تحرس في سبيل الله، مني أنا لن أطلب من أي كائنٍ أن يمسح دموعه حينما يشعر بالظلم أو الإهانة، بالعكس، الحق كل الحق في هذه العبرات أن تنهمر دونما قيد، ودونما ملامة؛ لأنه لا أحد يحس بجمرة الآخر، وبالأخص إن كانت أمًّا ترثي ابنها مات في الجهاد، أو أختًا بكت أختًا لها في فُرْقة، ولي في رثاء الخنساء لأخيها صخرٍ استئناس بمبدأ الوفاء منها، وهي تقول:
أعينيَّ جُودَا ولا تجمدَا
ألا تبكيانِ لصخرِ الندى
ألا تبكيانِ الجريءَ الجميلَ
ألا تبكيانِ الفتى السيِّدا
|
فإن كان اللوم على دموع المرأة، فعلى الأقل فيها ومنها الوفاء إن اشتدت كرب ومحن، ولنماذج البطولة سجلٌ حافل بإنجاز البطلات في عصور الصلابة.
سأبقى في زمن الصحابيات؛ لأن الندى في إصباح الصدق، والالتزام شاهد على رضاء خير الأنام، فكانت الوصية منه بأمانة، ومني له أفضل الصلاة والسلام، كان خيرَ مدافعٍ عني وعنكن، فأوفينَ له العهد بالصلاة والتسليم عليه، واجعلن من دموعكن شوقًا للقائه، والشفاعة منه يوم لا ينفع مال ولا بنون.