حينما تهب رياح التغريب
يحزُّ في نفسي شعور بانتفاضة عقلي في تبجيل خلق الله للإنسان في أحسن تقويم، وفي لوحة فنية من الجمال لا تسع الصفحات في احتواء المدح والثناء لحسن الصنيع، وبالأخص حينما تتوالى الميولات والرغبات في برامج شتى وأهداف عدة، تحدوها إرادة فذَّة تريد تحقيقها، غير أن القوى واللطائف والأحاسيس النفسية والأنانية والغضب والحقد، تولدت عند الإنسان بدوافع غير مدروسة الأبعاد، فظهور التجاوز في المعاملات، والظلم بين العباد، والفساد في الأرض، ضيَّع عنا الكثير من الوقت والفرص الناجحة، وفي بواطن الإنسان كلام آخر عنوانه تحقيق العدالة والسلام، إلا أنه من ناحية أخرى وبتأثير الإنسان بحظوظه النفسية يحاول حلَّ قضاياه بالظلم والاعتداء، بالجوع والفقر والمسكنة، وفوضى الحروب والعنف، بكل أنواعه لفظيًّا أو جسديًّا كان وما آلت إليه من السلبيات التي ظهرت في كثير من المجتمعات البشرية على مدى التاريخ إلا انعكاسات لهذا الواقع.
أعقل جيدًا إن خاطبني أحد أن عقل الإنسان محدود، ومعرض لكثير من التأثيرات والتوجيهات الخارجية، فيعجز عن الوصول إلى الصواب، لكن إذا تصفَّحنا التاريخ الإسلامي سنستشف من قصص الأنبياء كيف قام الرسل بوظيفة الإرشاد على أفضل وجه؛ لأنهم بُعِثوا لهداية البشرية من جَور المظالم وانحلال الأخلاق إلى مكارم الفضل ونُبْل وسماحة الإسلام، فكانوا نموذجًا رائعًا في كيفية تخطي المنعرجات الوعرة، ليدوِّن التاريخ فنّيات التحولات الكبرى، هذه الأخيرة التي تحققت بإرادة الخالق لتبقى مميزة وصالحة لأن يقتدى بها في كل الأزمان؛ لأن فيها رفعة وإتقانًا في استحداث التحول من حال لحال.
في الوقت الذي نرى العقل يحاول وحدَه وبمنأى عن عاطفة الإبداع أن يقيم مسائل التغيير ضمن حدود الزمان والمكان، فيعجز بذلك في الوصول إلى الحقيقة، ولا يبدي الكفاءة اللازمة في وضع اللبنة القوية والرشيدة لتأسيس نمط حياتي راقٍ، وبهذا العجز فالعقل بحاجة لفهم أساسيات الوحي، وما كان له من دور فعال في تفعيل الدور الرسالي للأنبياء، فحتى وإن تجاوز هذا الوحي إلى السيدة العذراء، إلا أنه رسالة لمأمورية كن فيكون، لذلك وعلى أساس هذا العجز في عقل الإنسان أضحى بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مرجعية إرشادية هي في أوج الكمال، ولا خيار لنا سوى سيرة الأنبياء والوحي الذي كانوا يستقون منه درب الإنسانية في ملامح وضيئة على مدى التاريخ.
اليوم نحن أمام كمٍّ هائل من الفتن والمغالطات الشبيهة بذرَّات الرماد في عيون البصيرة النيرة، لا شك أن رياح التغريب هبَّت من كل مكان، فراحت تحصد معها فضائل الأخلاق بما فيها إنسانية الإنسان، وهذه باعتقادي أصعب الرهانات في الحفاظ على معادلة تسوية العراك التعصبي، خاصة لما تتقاذفه تيارات حب التأصيل في أن المبادئ والثوابت كانت يومًا ما ملكًا لحضارة دخيلة على عقيدتنا ولغتنا وانتمائنا الفكري، فنعيش حالة إغماء جماعية لا ينجو منها أحد، والسبب في هذا الضعف هو وجود ثغرات سببها تفرُّقنا ونزاعاتنا التي تتصف بالغوغائية أكثر من أن تُثِيرها ردود أفعال لمصير وحدتنا وهُوِيَّتنا وأصالتنا، فتنشأ هناك ما يسمى بثنائيات توامية لا أساس لها من التأصيل الذاتي واللغوي والحضاري بالأبعاد الإسلامية الثابتة، كأن يكون فيه تقليد وإبداع، تأصيل وتغريب، تراث واستحداث، إبداع وابتداع، انفتاح وانغلاق، عقلانية وإمعة.. هي نماذج من مصطلحات لغوية جائزة ومعترف بها في ممارساتنا القولية والفعلية، لكن استحداثها كان بهدف التفريق والتضليل ليكون الضياع والانحلال والفساد ثم الفناء البطيء، أعتقد أن فيه الكثير من التمويه، بل الكثير من الافتعالية لتكسير حلقات روابط المتانة، والتي وضع لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثوابت من سيرته؛ لتكون منهجًا فريدًا وناجحًا يقتدى به.
فهذه الثنائية من شأنها تعطيل مشروع النهضة الإسلامي المعاصر، لكن لو استعملنا التحليل والنقد لتبيان المكاسب وتنميتها، وتحديد مكامن المزالق وتجاوزها، لأمكن ذلك من تثبيت أواصر المحبة أكثر فيما بيننا لنمنع كل دخيل عنا من الولوج في دائرة وحدتنا حتى لا يفرق بيننا؛ لأن في هذا التفريق فشلاً وضياعًا مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46].
لذلك علينا أن نشغل حيز إطارنا العقلي بالأنفع والأجود؛ حتى نستطيع حصاد إمكانياتنا المعرفية، وبلورتها في تشكيلة حضارية مستقبلية، وتعيننا هذه التشكيلة في خدمة توجهاتنا العقلانية بما ينسجم مع دورنا الرسالي، وسيظهر أثره في مسيرة كل واحد منا، بشرط أن نحذر رياح التغريب حتى لا تعصف بكل جميل رسمناه بأنامل عبقرية تتقن رسم مخطوطات الجمال بألوان الإشراق والأمل والأصالة.
ففينا يكمن الجمال والإبداع، فلنحافظ عليه من رياح التغريب والتي نشاهد أثرها إلى اليوم وهي تعصف بأرواح الأبرياء في سوريا وفلسطين وبورما، فليس كل مَن هو مسلم آمن في سربه فهو في أمان؛ لأنه ليس منا مَن لم يهمَّه أمر المسلمين، لأننا جزء من خريطة الانتماء، والانتماء متأصل فينا.. أم لرياح التغريب اتجاه آخر؟!
نستطيع أن نؤثر في اتجاه هذه الرياح حينما تهب رياح معاكسة لها، هي رياح الاحتواء العقلاني.. بمعنى أن نختار ما يناسب حضارتنا التاريخية؛ لأنها مرجعيَّتنا في تصحيح الأخطاء، ثم نختار ما يليق ويناسب مبادئ شريعتنا السمحاء، وكل ما يناقض ذلك لن يمر على مجال التمكين.. تمكين الدين الإسلامي، والذي يسعى كل مسلم إلى تحقيقه في مجاله ولو كان ضيقًا؛ لأن تمازج المضائق يوسع مساحات التلاحم والتواد.. فحينما تهب رياح التغريب فلا بد من المثيل لصد التغريب عنا حتى لا تضيع معالمنا الإسلامية.