ثبات الكلمة واعوجاج الروح
لست بحاجة أن أضع تعريفًا للروح، وليس مفهومًا لها، فالتعريف أوسع وأشمل، ولأن الروح تنوب عن كل شيء، ليس فقط بنبض الحياة في أجسادنا؛ إنما هي استمرارية الحياة في كل شيء، حتى في القلم وهو ينقش عبارات التفاؤل، فذاك المداد الآمل هو الروح.
منطلقات الثبات واحدة، وهي استقرار الفكر والكيان على نسق واحد، حتى لو كانت فيه مُنعرجات، فهنا ركيزة الثبات في أن لا يَحيد الإنسان عن جادة الصواب، فتيارات التغريب والغربة كثيرة ومتنوعة، ومنزلقات التنكُّر أكثر وضوحًا في عصرٍ تتهافت فيه فقاعات السراب الخادع لترتفع عاليًا؛ ظنًّا منها أن تَسمو في كبرياء التغليط والمغالطة؛ رغبة منها في تشويش الرؤيا الصافية بتذبذبات الهوى الجامح.
أمثالنا لا يلتفت مجرد الْتِفات إلى مثل هذه الفقاعات التي مهما ارتفعت ستَنفجر لتهوي على أرضٍ فارقَتْها في لحظة خديعة، لكنها آلت إليها في نهاية المهمة القذرة، ليس لزامًا أن أعطيها أكثر من حجمها ما دامت مجرَّد فقاعات آيلة للانفجار، ليس انفجار القوة؛ وإنما انفجار الانطفاء دون رجعة.
ما يُهمنا وسط ظلام دامس وغيث ليس بالنافع، والذي هو إشارة الله أن ثمة تغليطًا ومغالطات وضياعًا لثبات الكلمة، أي كلمة تتزاوَج مع الثبات؟ وأي برٍّ نودُّ أن يرسو إليه؟
هي كلمة نُحبها، بل نعشقها حدَّ الثمالة، هي كلمة نتغنى بها كلَّ صباح حينما تُغرِّد العصافير أن لحْن الصدق هو إيقاع صادق، والكذب شِعر غير موزون الألحان، كلمة نحلم بها كل ليلة، بل كل يوم، كلا بل كل دقيقة في مشوار درب الحياة.
التغيير، تبدو صعبة، بل مستحيلة، تبدو مفروضة بل فارضة بفرض الافتراض، تبدو انتقامية من أخطبوط الفساد، بل مائلة مع الإصلاح، تبدو لغزًا، بل أغنية، تبدو جمالاً، بل سِحرًا، تبدو جديدة ودخيلة الأصل في آنٍ واحد، بل قديمة ومستحدثة، ليس هناك تعارض في الترتيب وليس هناك تناقض في البرامج؛ لأن الغرض مِن تسطير كلمة التغيير هو جر الظلم والمظالم والشر والتخلُّف المُستحدَث بعولمة مُهلكة مخدرة إلى سلة مهملات الفناء، هي تريد أن تحلَّ محل هاته العبارات لتنال جائزة أوسكارية في مناسبة هي كمهرجان الأفلام البارعة، لكن بالنسبة للتغيير تريده مهرجان الحضارة والرقي والسمو.
يبدو كل شيء مستحيلاً، بل نبدو نحن البشر ضعافًا أمام حجْم كلمة التغيير.
دعوني أُقنِع نفسي وإياكم بأحقية سهولة التغيير، بدءًا بكتاب الله - عز وجل - في قوله -تعالى-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، وفي آية أخرى من سورة فاطر: ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43]، والتبديل والتحويل فيه ملامح بل مكنونات التغيير، ساعدوني بصَبرِكم في أن أضع فاصلة، فقط مجرَّد فاصلة، الله - عز وجل - في الآية يشترط أن نتغير نحن أولاً حتى يتغير ما بنا.
فنٌّ جميل أن تكون المبادرة منا لنردَّ جميل الصنيع لله - عز وجل - بالحمد والشكر؛ لأن فينا عيوبًا.. فينا نقائص.. فينا مُفسدات من الجسم وإلى الجسم.. في لذات الغريزة ومهلكات الروح في عدم التوقف قليلاً
لتأخذ الروح نفَسًا وتُراجع شريط فيلم الذاكرة، هل كان فيه تخلٍّ عن المسؤولية أم لا؟ وهل كان فيه حياد للعقيدة أم اعوجاج من الروح في تسبيحها في باطن جهاز الآدمية؟
حتى لا نُفكِّر في كل هذا، بدون مركب نقص وبدون إحساس بعقدة الذنب؛ لأن انهزام الإيمان ينطلق من هذا الشعور.. يجب أن نكون من كل هذا.. يجب أن نَصمُد في اللا رجوع إلى نقطة الانطلاق؛ لأن فيها ركونًا للهدوء وعدم المغامرة بالحياة والروح.
إذًا؛ من هنا نستخلص مشكلتنا في التغيير، هي في الاقتناع المبدئي أنه لا بدَّ من أن نلبس ثوب التغيير، نعم نلبسه عمدًا أو تعمُّدًا، بالفكر أم بالإحساس، بالكلام، بالصمت، بالتعايش السليم، اختاروا ما شئتم من هذه الطرُق، المُهم أنه يجب - بل فرض علينا - أن نتغير، حتى وأنا أكتب هذه الأسطر عليَّ أن أتحرى التغيير في أن أمسح وأُصحِّح العبارات غير الهادفة، والتي ليست باللائقة؛ لأن ثاني ركيزة في التغيير هو تحديد الهدف، من خلال لماذا نريد أن نتغير؟ وكيف، ولأيِّ أفق نريد أن نصل؟ ثم في خيال كل واحد منا أفكار إيجابية وسلبية، فلنختر أحسنها، بل أجملها، وحتى أكثرها تأثيرًا باندفاع الرغبة فينا أنه حقٌّ وأحقية علينا لا بدَّ من التغيير.
وهنا يأتي دور الإستراتيجية أو الخطة - بالمعنى البسيط - حتى نستطيع تجاوز العراقيل؛ لأنها ستكون موجودة لتصنع الاعوِجاج، وتصنع الفشل، وتُحقِّق الخسارة، وأن تُحقِّق اعوجاج الروح في التراجع عن المبدأ... ضاعت الكلمة في كوم صوف بعد أن نقضْنا غَزْلنا من بعد قوة أنكاثًا، فهل تريدون أن نكون كذلك؟ نَنسِج برنوسا التغيير بكل صبر ليَرتديَه كل واحد منا على طول قامة الشموخ والرقيِّ والاعتزاز بانتمائنا لأمة التغيير، والتي كانت وستكون - بإذن المولى - خير أمة أخرجت للناس.
هل في ذلك خطب؟ بل هل تبدو هناك صعوبة في التغيير؟
صحيح قد نختلف في رسم خريطة التغيير، لكن يستحيل أن نختلف في أنه كان لنا قدوة واحدة، وهو رسول الأنام - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم - يَستحيل إذًا أن نَختلِف تحت ظلال القرآن التي تُظلُّنا مِن شكوك العقل البشري؛ لأن فيه من القصور ما يجعلنا نبحث عن ضالة اليقين بفانوس الحيرة.
أظن أن الصعب في التغيير هو كتابة مقالات عنه؛ لأن الكلمة تحتاج إلى تركيز، وذكاء خارق، ودقة في التمييز، شريطة أن نكون مميزين لنَفكَّ شَفرة التمييز، فالكلمة إن سمحَت لك بالكتابة عنها، فعليك أن تحقق بنودها؛ لأن التغيير فيه التحويل مِن انتقال إلى كل ما هو جديد، وكل ما هو أمل واعد بالحقيقة وليس بالتمني، شُعلة الفراسة جمرة نرميها بعزيمة في كل مكان ما عدا بحرَ التردُّد؛ حتى لا تَخبو وتنطفئ ولنَترك الخوف جانبًا؛ لأن مخدِّر التغيير هو الخوف، توجيه الانطلاقة منا وإلينا، وليس من غيرنا، ما دام كل واحد فينا سيَتغيَّر مِن داخل وجدانه، فأين المشقة إذًا؟!
وحتى لا أحيد عن منهجية التغيير سأترك المجال لذاتي ولذواتكم في أن نتساءل بكل صدق: هل نحن صادقون؟
الجواب في منعطف اعوجاج الروح، بمعنى هل ستَستمِر الروح في أن تميل مع منعطف الثبات؟ أم تريده طريقًا مُستقيمًا؛ مخافةَ الفشل؟
يَقينًا في كل مشوار منعطف، فقط لا نميل كل الميل حتى نُحقِّق ثبات الكلمة، ولما يتحقَّق التغيير نلتفت جميعًا - وبِيَد من حديد - إلى أن نُلغي كل المنعرجات من الخريطة؛ لأنه ليس لدَينا وقت، بل الوقت كان لدَينا لكننا بدَّدْناه سُدى في كيف ولماذا، وبالأخص في متى ومَن سيُحدِث التغيير؟
فبين ثبات الكلمة واعوجاج الروح...ترقد حقيقة التغيير.