مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/03/26 15:43
كان ضريرا و لم أكن أدري

كان ضريرًا ولم أكن أدري

 

في مسار لي إلى المنزل عبر الحافلة، كنت أراجع في مخيلتي لوازم البيت ونقائصه؛ لأحضر نفسي فور الوصول إلى ترتيب أبجديات قضاء الحاجات من ألف الشراء، إلى تاء التنظيف، وصولاً بكاف كتابة مقال؛ لأنه غالبًا ما أفكر في فكرة الكتابة وأنا في وضع انتظار أو تنقل، ومعظم الأفكار النيرة تأتيني وأنا في قمة زخم هيجان العالم من حولي؛ لأنفرد بفكري حيث أكفُّ عني اندهاشًا أو قلقًا قد يفقدني إرادة الإقبال على الحياة حتى بضغطها وفصول التسابق فيما بين البشر للظفر بالأسرع والمتفوق من رزنامة الوقت.

 

حقًّا شعرت بنوع من التعب وأنا أنطلِق في النزول من الحافلة بعد عمل امتصَّ مني طاقة كبيرة، ثبت بصري فإذا بشخص أمامي يعرقل حركة السرعة في رواق الحافلة، فكنت أصبِّر نفسي لحين تَكتمل عنده الخطوات، ويفرج عمن وراءه للنزول، لكنها الحركة في عطل كما كانت، وبدأتُ أفقد صبري وفي يدي محفظة بها أوراق وكتب وأقلام، ونوع من الفوضى لرزنامة المطالعة لديَّ، فاندمج ثقل المحفظة على ثقل عقلي، وبدأت أفكِّر في كيفية الحديث مع الشخص ليُسرع في الخطى، فإذا بالأمر قد تيسَّر ونزلت وأنا أتنفس الهواء: أن يا رب أعطِني قوة مع بشر اليوم بحسب ظنِّي أنه كان إنسانًا كامل الحواس، لكنه بطيء التفاعل مع المجتمع بتقصير منه في عدم رغبته في السرعة، لكن الوقت يمر ولا يرحم، والعقول مثقلة بالبرامج والنيات، أكملت مسيري خلف الشخص نفسه، وبدأت أفكر في شراء بعض اللوازم بدايةً، فإذا بي ألمحه يُخرج عصا من محفظته كانت مطوية ليلتمس منها دليلاً لطريقه..

 

شعرت بنوع من التأسي لهذه اللقطة وأنا ألمح على عينيه نظارات شمسية كانت تحجب عينيه، فكان أن شعرت بخجل كبير، فقللت من سرعة المشي لديَّ وأنا أتابع حركة العصا يَمنة ويَسرة بكثير من التعثُّر؛ حيث إنها كانت لا تفي بالغرض المطلوب كما يَنبغي، وأيقنتُ أن الشخص كان ضريرًا، ولم أكن أفهم لقطات التأني لديه.. ازددتُ احترامًا وردَّدتُ دعاء: الحمد لله الذي فضلني على كثير من خلقه، وعافاني مما ابتلى به كثيرًا من الناس.

 

أوقفت عقلي عن مراجعة البرنامج الموالي لخطواتي، واسترسلت في محاولة فهم محتوى المحفظة التي كان يحملها الضرير، وعلى بعد أمتار توجد الكلية، ففهمت أنه متجه للدراسة، فازددت احترامًا بنوع من الإعجاب الكبير لإرادة هذا الضرير وحجم تحمُّله في أن يصبر على ظُلمة البصر، وثقل المحفظة، واعوِجاج المسير، حينما لا تختزل العين تعثرًا وإرباكًا وارتطامًا بالأشخاص والأشياء، شعرت بقيمة النِّعَم ونحن لا نفقه فضل الله علينا، أدركت أن أناسًا يعيشون حياة بسيطة من غير حواس فاعلة، ويُسارعون في حجز أماكن للدراسة في الجامعات ودور حفظ القرآن!

 

ترى هل عمى العيون هو ما يعطِّل مسيرة الظفر بالنجاح والتفوق، أم عمى القلوب حينما تيئس من روح الله فتركن للكسل والخوف والضعف؟!

يا ألله على كفاح مثل هؤلاء الناس وكيف ينسجمون في مجتمع مبصِر وحرَكي وقلِقٍ، ويتمتع بالصحة والعافية، ووسائل توفر عنهم عبءَ التنقُّل والدراسة للحصول على شهادات عليا! هل معيار الثقة والتوكل على الله هو ما يختزل بل يمحي الشعور بمركب النقص أم أن النوابغ والناجحين الفائقي الذكاء عادة ما لديهم حاسة مفقودة أو مريضة؟!

 

ربما هي الدافع لهذا التحدي، والرغبة الأكيدة من هذا الضرير أن يبصر بقلبه لا بعينه؛ لأن العمى الحقيقي هو عمى القلوب، وما أصعَبَه من داء لأناس غلف الران أفئدتهم، فأصبحوا لا يرون نورًا والنور منار لهم، ولا يفقهون حكمة والحكمة أمامهم، ولا يتقنون إحسانًا ووسائل الإحسان بين أيديهم! أفقت من تحليلي، وطلبت من شاب آخر كان يحمل محفظة أن يوصل الضرير إلى الكلية ما دام هو كذلك متجهًا إليها؛ ليوفر عليه عناء الاحتراس والحيطة من أن يقع أرضًا.

 

بدوري راجعت سلوكي في التسرع والحكم على الناس في حركاتهم وردود أفعالهم، فمثلاً هذا الشخص كان ضريرًا ولم أكن أدري، فتعلمت أن أمنح لكل من يبدو لي معرقلاً أو مثبطًا وقتًا ليرتِّب مشيه أو رد فعله، فلربما به علة، ومن الخُلُق ألا نُشعر هؤلاء بما هم فيه من عناء التأقلم مع البشر العاديين والذين ليس بهم عاهة، أما صنف الناس - خاصة الشباب - الذين يضعون سماعات على آذانهم ويرحلون إلى عالم الغناء والاستمتاع بالموسيقا، فحريٌّ جدًّا أن نسابقهم ونكون نحن من يعرقل الحركة لديهم لحين يَنزعون سماعاتهم ويعطوننا قسطًا من الاهتمام لو طلبوا استفسارًا؛ على الأقل لنقول لهم: إنكم تعرقلون الحياة بتقليدكم المزعج في مظاهرِه، وبسداد آذانكم عن سماع كلامنا حينما نخاطبكم، أنْ عفوًا دعونا نمرُّ لو سمحتم، فأن تسير وترحل إلى عالم خاص بك ناسيًا من حولك من هم في واقعهم الحقيقي - هو إبصار مع سبق الإصرار والترصد من أجل اللامبالاة، ومَن يبدي سلوكًا مثل هذا كان الأجدر بهم هو اللامبالاة معهم لحين عودتهم إلى صخب الحياة الحقيقي، فليست الموسيقا والغناء الماجن يحلان مشكلة، أو يشعران الإنسان بتواصله الاجتماعي مع الغير، بل الإقبال على الواقع وتحديه، فتلكم هي قمة الكفاح وما أروعه! خاصة لدى الضرير بعصا يتفحَّص بها سلامة الطريق.

 



أضافة تعليق