ثقل الأمانة والاستخفاف بالإرث الحضاري
لا أحد يُنكِر أو يتنكَّر لمبدأ أن الإسلام هو الرُّوح الحقيقية للإنسان والنور الهادي له على دربِ الحياة، وأنه مفتاح لمُعضِلات البشريَّة في كل زمان ولكل مكان؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 52، 53].
إن للإسلام تعاريفَ كثيرة؛ منها: أنه دين الفطرة، وأنه دين التوحيد، ودين الحق، ودين الصدق والعدالة، دين المساواة الشرعيَّة في الحقوق، وبيان مُفصَّل للواجبات باتباع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فحفظ الحقوق وكفُّ الاعتداء على المحرَّمات، لهو من أسمى المسؤوليات التي تُلقى على عاتِق مَن يتولَّى الإمارة أو السلطة؛ إذ مهما حاول المسؤول التهرب من المسؤولية؛ كالغش في استعمال القانون بالتحايل على جهاز القضاء مثلاً، أو إخفاء وتضليل الحقيقة عن الرأي العام، فإن هذه التصرفات لا تخفى على الله، وسيُحاسَب كل مَن اختار رداء الحكم أو ثوب المسؤولية في حُلَّة التباهي والتشريف، وليس التكليف لمن رضوا الإمارة في تسيير شؤون الناس، والذين هم بدرجة المرؤوسين، فالعدالة الإلهية هي الأقوى والأصدق والأعدل، فلو حُفِظت حقوق الناس على النحو الشرعي والقانوني، لقلَّت الخصومات والفتن.
إن الاهتمام بأمور المسلمين العامة هي أمانة على عاتِق كل مسلم، وليس على عاتق مَن ينفرد بزمام الأمور من مفاتيح ومغاليق، ولا يُهِم في ذلك إن كانت مفاتيح الخير ومغاليق الشر أو العكس؛ لأن المبدأ أو الجوهر هو ذاك الإحساس بهموم المسلمين، والتي أضحت اليوم مشكلة من مشكلات العصر، ولو أنها في حقيقتها ليست مشكلات إنما متشكلات!
وبالعودة إلى خصائص النظام الاجتماعي في الإسلام، ففيه تدريب الفرد على تحمُّل المسؤولية في إصلاح المجتمع، ولو أن دور المصلح أكبر وأشد ثِقلاً في تحمُّل الأمانة، فمن كمال التكافل الاجتماعي ذاك التعاون فيما بين الأفراد؛ لتحقيق المراد من هذه الآية الكريمة: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، ومن أجمل مظاهر التعاون ذاك الإصلاح لمقوِّمات المجتمع بدرء الفساد على اختلاف أشكاله وألوانه، فمن القواعد الفقهيَّة: "ما حَرُم أخذُه، حرم إعطاؤه"، فمنح الشيء الحرام هو من الفساد، فإن عجز المسلم عن الإصلاح، فعلى الأقل أن يمتنع عن الإتيان بكل ما للفساد ينتمي من رِشوة وأكل للربا؛ مصداقًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعَن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)).
فالواجب على كل مسلم أن يعرف الطريق الصحيح إلى الله، وعدم الاكتفاء بالآراء الخفيفة والمغلوطة والعقيمة، فشتان بين حمْل أمانة الصدق والعدل، وبين قول أي كلام لا يخدُم ولا ينفع أي قضية عادلة! والمسلم قادر على البحث والاجتهاد مقتفيًا أثر العلماء السابقين في تحرِّي الحقيقة والحكمة، بدل اتباع العشوائيَّة وقول الاحتمالات غير المبنيَّة على أسس من العقيدة السمحة.
وإذا كان المسلم عاجزًا وغير قادر على التحري والاستنباط الصحيح في أمور دينه ودنياه، فله أن يسأل أهل العلم لينوِّروا له الطريق وَفْق أحكام الشرع، بدل التسويف وإضاعة الوقت فيما لا ينفع كالغثائية المتناثرة هنا وهناك.
وتبدو فلسفة الحياة الآن مادية أكثر منها رُوحيَّة؛ ولذلك فملامح السعادة والشقاء لم تظهر إلا بظهور فرائض على توجيه فِكر الناس إلى خيال الحقيقة، وليس لب الحقيقة، فأصبح لمس الشيء الحسي بالكاد يكون خيالاً، فكل تشريع لا يحمي أسسَ الأمانة من الوِجْهة القانونية وَفْق إسقاط شرعي، فهو لن يوصل إلى فك عُقد الغموض، وكل قانون لا يثبت الرأي بحجج وأدلة مُقنِعة لن يبعث الرضا في قلوب الناس، وبالمِثل كلما تغلغلت في عروق أي حضارة إسلامية جذورٌ من التحلل من قيود الدين كما يحلو للبعض تسميته، لن يحصل ارتقاء في العلوم والفقه والآداب، وعلى الأخص إن ضُيِّعت الأمانة بكل شمائلها، فحتمًا لن تقوم قائمة لحضارة هشة.
فكل شك أو تصوُّر دخيل على مبادئ الدين الإسلامي إلا وله انعكاسات على الفكر أولاً، ثم الوعي ثانيًا، وأخيرًا: على السلوك؛ لأنه في هذه الحالة لن يُترجَم إلى سلوك إيجابي يأتي حصاده في أوانه؛ وإنما سيبدو سلوكًا سلبيًّا بكل معالمه ومؤثراته، بدءًا بالفرد نفسه، ثم فيما بين الأفراد، وبذلك لن يتحقَّق مبدأ التكافل الصحيح ومبدأ القوامة على الدين كانطلاقة أساسية في عقيدة كل مسلم.
وللثقافة الغربية تأثير كبير في أن تستولي على مفاتيح العقول المتميزة لتنقل كل ما هو رائع وبنَّاء لتنسبه لها، ومن ثم تُغلق الاسترزاق بمفاتيح مقافل لا لتعيدها لأصحابها، وإنما تُعلِّقهم في مداخل جامعاتها ليتتلمذ أبناؤها على أبجديات الحضارة العريقة والصحيحة، فتصبح بذلك مُضِرة في الإصابة بالجمود والتنحي عن مبادئ الدين في قيادة الأمم بما يَكفُل لها عزَّتها، بعد أن تكون قد أخذت منها ركائز العلم والرقي الصحيحين، وما يؤكِّد ذلك ما كان للعرب من أسبقيَّة في العهود السابقة في علوم الطب والصيدلة والفلك وغيرها.
هذا الاستيلاء أدَّى إلى الانعراج بحضارة راقية إلى الوَهْن والضعف، ما أثَّر على كل مقوِّمات السيادة، والتي مُنطلقها التفكير الجيد والرأي السديد.
لذلك البناء لا يتقوَّم إلا بالتحمل الوافي والكافي للأمانة المتوارَثة جيلاً بعد جيل، ويجب الكف عن الإدلاء بالرأي غير البناء؛ لأن الأمانة موصولة بسداد الرأي ليتحقَّق المنهج القويم في إعداد الفرد والجماعة، ومن ثَمَّ المجتمع، لتليها الأمة قاطبة، فأحيانًا يكون فيه تولي المسؤولية والتكفل بالأمانة على النحو الصحيح، ولكن خسارة النتيجة في فساد الرأي والرأي الآخر.
فتطهير الأفكار وتقويمها لا يتم إلا بسداد الرأي بالشورى والاستخارة؛ فهي كفالة في ضمان الرأي السديد، وفي الاستشعار بالخوف من الله وعِظَم المسؤولية أمانٌ للأمانة المصانة.