مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2015/02/11 18:43
إرغامات المكان

بقلم الكاتبة مها المحمدي
(أنا المكان الذي أوجد فيه )  نويل أرنو
عنْ أبي سعِيدٍ سَعْد بْنِ مالك بْنِ سِنانٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَن نَبِيَّ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَال : « كان فِيمنْ كَانَ قَبْلكُمْ رَجُلٌ قتل تِسْعةً وتِسْعين نفْساً ، فسأَل عن أَعلَم أَهْلِ الأَرْضِ فدُلَّ على راهِبٍ ، فَأَتَاهُ فقال : إِنَّهُ قَتَل تِسعةً وتسعِينَ نَفْساً ، فَهلْ لَهُ مِنْ توْبَةٍ ؟
 فقال : لا فقتلَهُ فكمَّلَ بِهِ مِائةً ثمَّ سألَ عن أعلم أهلِ الأرضِ ، فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ فقال: إنهَ قَتل مائةَ نفسٍ فهلْ لَهُ مِنْ تَوْبةٍ ؟ فقالَ: نَعَمْ ومنْ يحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التوْبة ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كذا وكذا ، فإِنَّ بها أُنَاساً يعْبُدُونَ الله تعالى فاعْبُدِ الله مَعْهُمْ ، ولا تَرْجعْ إِلى أَرْضِكَ فإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ ، فانطَلَق حتَّى إِذا نَصَف الطَّريقُ أَتَاهُ الْموْتُ فاختَصمتْ فيهِ مَلائكَةُ الرَّحْمَةِ وملائكةُ الْعَذابِ . فقالتْ ملائكةُ الرَّحْمَةَ : جاءَ تائِباً مُقْبلا بِقلْبِهِ إِلى اللَّهِ تعالى ، وقالَتْ ملائكَةُ الْعذابِ : إِنَّهُ لمْ يَعْمَلْ خيْراً قطُّ ، فأَتَاهُمْ مَلكٌ في صُورَةِ آدمي فجعلوهُ بيْنهُمْ أَي حكماً فقال قيسوا ما بَيْن الأَرْضَين فإِلَى أَيَّتهما كَان أَدْنى فهْو لَهُ، فقاسُوا فوَجَدُوه أَدْنى إِلَى الأَرْضِ التي أَرَادَ فَقبَضْتهُ مَلائكَةُ الرَّحمةِ » متفقٌ عليه.
 وفي روايةٍ في الصحيح : « فكَان إِلَى الْقرْيَةِ الصَّالحَةِ أَقْربَ بِشِبْرٍ ، فجُعِل مِنْ أَهْلِها »
وفي رِواية في الصحيح : « فأَوْحَى اللَّهُ تعالَى إِلَى هَذِهِ أَن تَبَاعَدِى، وإِلى هَذِهِ أَن تَقرَّبِي وقَال : قِيسُوا مَا بيْنهمَا ، فَوَجدُوه إِلَى هَذِهِ أَقَرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفَرَ لَهُ »
 وفي روايةٍ : " فنأَى بِصَدْرِهِ نَحْوهَا " .
عبر نظرة فضائية للمشاهد المكانية في الحديث الشريف ؛ لمحاولة فهم فلسفة المكان وبداياته ونهاياته المنطقية ، ورصد الجانب التوظيفي المكاني الذي بُني عليه الحديث الشريف ما الذي يمكن أن نراه فيها ؟
وفق حسابات الاستراتيجية في العقل السياسي والاقتصادي لا ثقل لها ، وهي ليست خطراً في المعنيات الديموغرافية بحسابات الكثافة السكانية قوة وضعفا ، بمنطق الربح والخسارة في الذهنية العسكرية لا يوجد فيهاما يقلق ! إلا أن هذه المشاهد المكانية تُمثل القلب الرمزي للمكان في القصة حيث يقوم بدور النقل الوجداني للخطيئة والتوبة وذلك بفتح الفضاءات الممكنة للمخطئ التائب فيتأنسن المكان في وعي الذات البشرية  داخل حدود ذاتها وبعلاقتها وانبساطها مع الحدود الخارجية .
ضجيج الألفاظ الدالة على سطوة مفردات المكان ما هو إلا انخطاف في زمن ناكص متردد بتردد صوت التوبة وصداها في نفس المخطئ ،(  أَرْضِ كذا وكذا ، أَرْضِكَ فإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ ، نَصَف الطَّريقُ ، قيسوا ما بَيْن الأَرْضَين ، أَدْنى إِلَى الأَرْضِ ، الْقرْيَةِ الصَّالحَةِ أَقْربَ بِشِبْرٍ ، فأَوْحَى اللَّهُ تعالَى إِلَى هَذِهِ أَن تَبَاعَدِى، وإِلى هَذِهِ أَن تَقرَّبِي ، قِيسُوا مَا بيْنهمَا ، أَقَرَبَ بِشِبْرٍ ، فنأَى بِصَدْرِهِ نَحْوهَا "
منطق المتكلمين عن المكان في أي مُسرد وصفه بأنه تجربة تحمل معاناة الشخصيات وأفكارها  وفي الحديث الشريف يتم تفكيك مفهوم الخطيئة إلى قطبي الولوج والبقاء فيها أو الانعتاق من ربقتها في تبادل المكان مع الشخصية دور الآمر والمطيع فكل منهما رهينة للآخر !
( أقبل بقلبه ! نأى بصدره ) مقصدية المعنى لاستباق جوهر القلب والصدر وهما موضع العقل الإدراكي لتغير الشعور نحو المكان بداية مرحلة مهيمنة ليست رمادية ولا محايدة فالإحساس أولي مُدرك متحرك بكليته في اتجاهين متعاكسين لفعل الإقبال والنأي لمنطقة تلمع الشمس عليها بقوة ولا مكان للظل فيها أبداً .
لقد أقامت الألفاظ علاقة جدلية مع الواقع من خلال المكان فامتلك النص القدرة الإيحائية على إيجابية وسلبية المكان بسيرورة موازية لإنتاج المعنى بواسطة فعل الانتقال وتغيير المكان
 فقه هذا المعنى عالم دون راهب ! ؟
إن الحركة الاستبدالية بين أرض السوء والأرض الصالحة تعني إعانة المكان بمن فيه عبر النأي والإقبال على الخطيئة وبوجهة معكوسة إعانته على التوبة ؟ "انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كذا وكذا ، فإِنَّ بها أُنَاساً يعْبُدُونَ الله تعالى فاعْبُدِ الله مَعْهُمْ ، ولا تَرْجعْ إِلى أَرْضِكَ فإِنَّهَا أَرْضُ سُوءٍ " فإمكانات التغيير قائمة طالما انبثقت الرغبة في النفس بين عالم الممكن وعالم الفرضيات على أرض الواقع ،وارتياد أفاق التوبة يلزم إعادة النظر في قِيم المكان
 تجلية الفوارق والحدود الفاصلة بين أشخاص وقيم المكانين يعني مساءلة الفوارق الممكنة بين الواقع المهروب منه والمهروب إليه ! فالاقتراب الهادئ الذي أملاه العالم على التائب ليست فرضية حدسية وإنما واقع حواس مشهود لأناس يعبدون الله ينسجم مع الإدراك الذهني للصورة النمطية للمعصية في شخصية التائب والتي لم تعد كما كانت ؛ لأن حضوراً مغايراً في الوعي يمثل ضغطاً عاليا في تصوراته وأحاسيسه ومشاعره تجاه واقعه ينفي الماضي وينفي الخارجي بكل معطياته المُدركه بما فيه الفعل والوعي الجماعي مما يعني إمكانية تقويضه ؛ لتغيير تجربة الإنسان عبر وعيين وكلاهما أنتجا في نفس واحدة لرؤية جديدة داخل فعل المكان ، فقه هذا المعنى عالم دون راهب .
 
 
أضافة تعليق