د.احمدالدغشي
باستقراء المشهد الثوري الراهن الذي تنسج فصوله اليوم في مختلف أقطارنا العربية بوسع الباحث التربوي التأكيد على أن الثورات العربية التي تتنامى في كل يوم وتتأثر ببعضها، على نحو لم نعهده بهذا الحجم والسرعة والفاعلية، ولاسيما مع التعقيدات التي لا تخفى في هذه البيئات المتخمة – بامتياز - بالاستبداد والقمع والفساد ؛ أن يستخلص حقيقة ما كان يَدْرُسه أو يُدَرِّسه ضمن الأدبيات التربوية من أن أبلغ أساليب التربية والتعلّم يكمن في أسلوب التعلّم بالموقف والحَدَث، أي الاقتداء بالسلوك العملي، ومحاكاة النموذج على الأرض ، قبل الحديث عن أي أسلوب نظري آخر ، مهما اكتسب من مثالية وعظمة ، أو حظي بالاحترام والتقديس ، إذا لم يرفد بنموذج فعلي مجسّد في الواقع وحيّ فاعل بين النّاس . والحق أنّ هذا لا ينفي أهمية النظرية والمثال، بل إن ذلك يمثّل مقدّمة ضرورية للفعل المنشود في الواقع ، بيد أن المقصود أنّه لا قيمة فاعلة، ولا تأثير يذكر لمبدأ أو مفهوم أو قيمة نظرية مجرّدة، ما لم تكن مشفوعة بسلوك عملي مجسّد في واقع المجتمع وبين أفراده .
= هل تغيّرت النظرية التربوية؟
يكاد يجمع المتابعون لمسار التغيير الذي تحقّق بأقدار متفاوتة في بعض مجتمعاتنا العربية كتونس ومصر واليمن ، كما يتبلور اليوم في ليبيا وسوريا - على سبيل المثال- أن ليس كلّ روّاد التغيير وصانعيه والمشاركين فيه من ذوي التعليم الجيّد أو الثقافة المتميّزة أو حتى السلوك القويم، بل إن بعض المشتغلين بالعمل التربوي- وفي ضوء تلك الملاحظة- قد يندفعون نحو المناداة بضرورة المراجعة لبعض النظريات التربوية وما كان أشبه بالمسلّمات لديهم ، حيث إن ما تعلّموه وراح بعضهم يقدّمه في كتابته أو تدريسه أو الدورات التي يكلّف بها من أن نوعية المخرجات التربوية تأتي محكومة بطبيعة المدخلات وفق العمليات بينهما ، لكأنّما تغيّرت نتائج هذه الحقيقة إذ جاءت مخرجات الثورة بنتائج تخالف مدخلاتها ، أي أنّه بات من المفارقات اللافتة أن جزءاً غير يسير من المدخلات التربوية غير الإيجابية ( ضعف السلوك الديني وقلّة الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والوطنية، في مقابل الاهتمام بالسفاسف والرغبات الصغيرة ، وفشو ظواهر سيئة كالعنف والانتقام وضعف التسامح والتعايش ...إلخ) ، جاءت بنتائج عكسية إلى حدّ كبير( الانضباط السلوكي والمناداة بقيم كليّة وكونية كبرى : تحرّر ، مساواة ، عدالة اجتماعية ، مؤسسات ، رفض التخلّف والفساد والاستبداد ، حرص على التعايش والتسامح...إلخ ) ، وسواء تمثّلت بعض تلك المدخلات في صورة مسخ أو تقزيم أو تهميش مباشر للمناهج التعليمية، ولاسيما ذات الصلة بالمقرّرات التربوية ( الدينية ) و( الوطنية ) ،كما في تونس ومصر وسوريا –على سبيل المثال- أم جاء بعضها في صورة تدمير متعدّد الأساليب لكيان الأسرة وحصنها ( التقليدي) المحافظ عبر ركام هائل من أفلام العنف والجريمة والمسلسلات الموصوفة بـ( الاجتماعية ) ، تلك التي تكرّس حب الأثرة وغلبة الأنانية والحرص على الانتقام ، وكذا الاهتمامات الصغيرة ولاسيما العاطفية منها، بحيث تجعل منها الغاية القصوى للمرء في الحياة ، أم من خلال الإغراء بالتحلّل الأخلاقي للفرد عبر مصادر المعرفة المعاصرة ووسائل التلقي والتأثير، ممثلة في التوظيف السيئ لوسائط التعلّم الحديث من وسائل إعلامية ( مرئية بوجه خاص ) ، و مسموعة ، و مقروءة، ، أم عبر بعض المواقع الإلكترونية ونواتجها من بريد إلكتروني و( يوتويوب ) ، وصفحات التواصل الاجتماعي ( فيس بوك و تويتر ) ، أم كان ذلك عبر وسائط التأثير التقليدية أي عبر بعض الجماعات والمجموعات و( الشُّلل ) ذات الأيديولوجيات ( الشاذة ) أو المسالك ( المنحرفة ) ؛ فقد تأكّد أن ذلك لم يحقّق النتائج المستهدفة، بل جاءت النتائج على عكس الأهداف ، وآية ذلك أن عدداً لا يستهان به من المشاركين في عملية التغيير بفعالية أحياناً لم يُعرف عنهم قبل التحاقهم بصفوف الثورة وساحات التغيير التزام بقيم التربية ( الإسلامية ) لا فكراً ولا سلوكاً ، كما أن جزءاً من ( الثوّار ) الشباب ( اليافعين ) و( المراهقين ) الذين ربما كانت قبلتهم قبل الثورة : أماكن اللهو والترفيه البريء وغير البريء، وبعضهم ربما ابتلي ببعض العادات السيئة والمسالك غير السويّة ، لكن شأنهم اليوم غدا مختلفاً إذ أصبح منصهراً مع الضمير الجمعي في ساحات التغيير، فإلى جانب الالتزام بأداء الشعائر ( الدينية ) ، وأهمها الصلوات اليومية وصلاة الجمعة على نحو أخصّ - وسيتم إفراد الحديث عن صلاة الجمعة ودورها التربوي في مقالة مستقلة بإذن الله- ، وذلك ما لم يكن لكثيرين عهدٌ به على هذا النحو من الانضباط والإحساس بالقيمة والتأثير والمسئولية تجاهه ؛ فإن ثمّة همّة في التفكير، ورشداً في السلوك، ورؤية جديدة نحو المستقبل الأرحب، لذا تحوّلت الهموم الذاتية المحدودة المتمثلة لدى بعضهم في كيفية الإشباع المجرّد للذات عبر اللّذة والمتعة والشهوة والشهرة والمال إلى تطلّع سامٍ نحو قيم كليّة وكونية وإنسانية كبرى تتمثل في كيفية تحقيق قيم : الحريّة والعدالة الاجتماعية، وتجسيد قيم المساواة والتآخي والتكافل والتسامح والتعايش وتكافؤ الفرص والسعي نحو التغيير لأوضاع الظلم والقهر والاستبداد والفساد، التي صارت مَعْلَماً ( مخجلاً ) لكل مجتمعاتنا ، وإن تفاوتت حدّة المشكلة بعد ذلك بين كل قطر وآخر. فهل يا تُرى تغيّرت النظرية التربوية حقّاً؟
الحق أن النظرية التربوية في جانب المدخلات والعمليات والمخرجات ، أو الأهداف والنتائج لم تتغيّر، ولا يمكن لها ذلك، إذ إن ذلك جزء لا يتجزّأ من القانون الكوني القائم على حقيقة أن المقدّمات السليمة تحدث نتائج سليمة ، والعكس صحيح ، وفق لغة بعض أهل المنطق، ولعلّ الآيات القرآنية تحدّثت عن تلك الحقيقة بما لا مزيد عليها ، وحسبنا في هذه العجالة الإشارة إلى ما ورد في سورة الإسراء في قوله تعالى : { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً } ( الإسراء : 72 ) ، وفي السورة ذاتها بعد الآية السابقة بآيات قليلة جاء التأكيد على أن سنة الله لا تتغير : { سنّة من قد أرسلنا من رسلنا، ولا تجد لسنّتنا تحويلاً } ( الإسراء : 77 ) لتخلص إلى تقرير حقيقة المدخلات والمخرجات بإشارة الحق سبحانه إلى ذلك بقوله :{ وقل ربّ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} ( (الإسراء: 80).
إذاً مع التأكيد على حقيقة أن المدخلات الجيّدة تحقّق مخرجات جيّدة وعكسها صحيح - وهذه هي السنة الكونية العامة - ، فإن ثمّة ميادين للبناء جديدة أتاحتها عملية الثورة - وقد حدثت في بعض الحقب أو الظروف والمواقف ، وتحدث كلما تحقّقت شروطها الموضوعية - تعمل على اختزال جملة من الأساليب العتيقة أو حتى الفاعلة التي قد تأخذ مدى أطول ، وجهداً أعلى في ظروف اعتيادية ، يختزلها الحدث العظيم في نسق محدود زمناً، وجهداً مادياً منظوراً، إذ تفرض طبيعة الحدث وأهميته وخطورته ذلك التأثير الذي يتشكّل وفقاً لمعطيات منظورة وغير منظورة، أهمها ما يعنيه ذلك الحدث من تأثير فاعل كليّ كبير، تسهم فيه الأحداث غير المتوقّعة ولاسيما مشاهد العنف التي تلحق بالمظلوم ، في صورة إهانة أو سوء تعامل ، أو قهر بأي معنى ، ناهيك عن مظهر إراقة دمه ، فذلك يدفع نحو ردّ فعل عكسي مضاعف، ما كان للتربية في الأوضاع الاعتيادية أن تحقّقه ، بل إن الأوضاع العادية الطبيعية تقضي بمكافأة مجزية لمن يبذل وقته وجهده وماله وربما دمه ، من اجل نهضة أمته ورفعتها ، وهذا ما تفعله الأمم الحية تجاه أفرادها الذين يتفانون في سبيل رفعتها .
إن هذا التوصيف على أهميته – في تقدير كاتب هذه السطور على الأقل – لا ينفي أو يتعارض مع حقيقة كليّة أخرى فحواها أنّ ما تمتلكه دعوة الحق من قوّة ذاتية كامنة فيها يعدّ أساساً في سرعة ذلك التأثير وامتداداته ، وهو ما يجسّده قول الحق سبحانه : { ...كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأّمّا الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال} ( الرعد:17).
أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي
أستاذ أصول التربية وفلسفتها- كلية التربية – جامعة صنعاء
*تربيتنا
باستقراء المشهد الثوري الراهن الذي تنسج فصوله اليوم في مختلف أقطارنا العربية بوسع الباحث التربوي التأكيد على أن الثورات العربية التي تتنامى في كل يوم وتتأثر ببعضها، على نحو لم نعهده بهذا الحجم والسرعة والفاعلية، ولاسيما مع التعقيدات التي لا تخفى في هذه البيئات المتخمة – بامتياز - بالاستبداد والقمع والفساد ؛ أن يستخلص حقيقة ما كان يَدْرُسه أو يُدَرِّسه ضمن الأدبيات التربوية من أن أبلغ أساليب التربية والتعلّم يكمن في أسلوب التعلّم بالموقف والحَدَث، أي الاقتداء بالسلوك العملي، ومحاكاة النموذج على الأرض ، قبل الحديث عن أي أسلوب نظري آخر ، مهما اكتسب من مثالية وعظمة ، أو حظي بالاحترام والتقديس ، إذا لم يرفد بنموذج فعلي مجسّد في الواقع وحيّ فاعل بين النّاس . والحق أنّ هذا لا ينفي أهمية النظرية والمثال، بل إن ذلك يمثّل مقدّمة ضرورية للفعل المنشود في الواقع ، بيد أن المقصود أنّه لا قيمة فاعلة، ولا تأثير يذكر لمبدأ أو مفهوم أو قيمة نظرية مجرّدة، ما لم تكن مشفوعة بسلوك عملي مجسّد في واقع المجتمع وبين أفراده .
= هل تغيّرت النظرية التربوية؟
يكاد يجمع المتابعون لمسار التغيير الذي تحقّق بأقدار متفاوتة في بعض مجتمعاتنا العربية كتونس ومصر واليمن ، كما يتبلور اليوم في ليبيا وسوريا - على سبيل المثال- أن ليس كلّ روّاد التغيير وصانعيه والمشاركين فيه من ذوي التعليم الجيّد أو الثقافة المتميّزة أو حتى السلوك القويم، بل إن بعض المشتغلين بالعمل التربوي- وفي ضوء تلك الملاحظة- قد يندفعون نحو المناداة بضرورة المراجعة لبعض النظريات التربوية وما كان أشبه بالمسلّمات لديهم ، حيث إن ما تعلّموه وراح بعضهم يقدّمه في كتابته أو تدريسه أو الدورات التي يكلّف بها من أن نوعية المخرجات التربوية تأتي محكومة بطبيعة المدخلات وفق العمليات بينهما ، لكأنّما تغيّرت نتائج هذه الحقيقة إذ جاءت مخرجات الثورة بنتائج تخالف مدخلاتها ، أي أنّه بات من المفارقات اللافتة أن جزءاً غير يسير من المدخلات التربوية غير الإيجابية ( ضعف السلوك الديني وقلّة الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والوطنية، في مقابل الاهتمام بالسفاسف والرغبات الصغيرة ، وفشو ظواهر سيئة كالعنف والانتقام وضعف التسامح والتعايش ...إلخ) ، جاءت بنتائج عكسية إلى حدّ كبير( الانضباط السلوكي والمناداة بقيم كليّة وكونية كبرى : تحرّر ، مساواة ، عدالة اجتماعية ، مؤسسات ، رفض التخلّف والفساد والاستبداد ، حرص على التعايش والتسامح...إلخ ) ، وسواء تمثّلت بعض تلك المدخلات في صورة مسخ أو تقزيم أو تهميش مباشر للمناهج التعليمية، ولاسيما ذات الصلة بالمقرّرات التربوية ( الدينية ) و( الوطنية ) ،كما في تونس ومصر وسوريا –على سبيل المثال- أم جاء بعضها في صورة تدمير متعدّد الأساليب لكيان الأسرة وحصنها ( التقليدي) المحافظ عبر ركام هائل من أفلام العنف والجريمة والمسلسلات الموصوفة بـ( الاجتماعية ) ، تلك التي تكرّس حب الأثرة وغلبة الأنانية والحرص على الانتقام ، وكذا الاهتمامات الصغيرة ولاسيما العاطفية منها، بحيث تجعل منها الغاية القصوى للمرء في الحياة ، أم من خلال الإغراء بالتحلّل الأخلاقي للفرد عبر مصادر المعرفة المعاصرة ووسائل التلقي والتأثير، ممثلة في التوظيف السيئ لوسائط التعلّم الحديث من وسائل إعلامية ( مرئية بوجه خاص ) ، و مسموعة ، و مقروءة، ، أم عبر بعض المواقع الإلكترونية ونواتجها من بريد إلكتروني و( يوتويوب ) ، وصفحات التواصل الاجتماعي ( فيس بوك و تويتر ) ، أم كان ذلك عبر وسائط التأثير التقليدية أي عبر بعض الجماعات والمجموعات و( الشُّلل ) ذات الأيديولوجيات ( الشاذة ) أو المسالك ( المنحرفة ) ؛ فقد تأكّد أن ذلك لم يحقّق النتائج المستهدفة، بل جاءت النتائج على عكس الأهداف ، وآية ذلك أن عدداً لا يستهان به من المشاركين في عملية التغيير بفعالية أحياناً لم يُعرف عنهم قبل التحاقهم بصفوف الثورة وساحات التغيير التزام بقيم التربية ( الإسلامية ) لا فكراً ولا سلوكاً ، كما أن جزءاً من ( الثوّار ) الشباب ( اليافعين ) و( المراهقين ) الذين ربما كانت قبلتهم قبل الثورة : أماكن اللهو والترفيه البريء وغير البريء، وبعضهم ربما ابتلي ببعض العادات السيئة والمسالك غير السويّة ، لكن شأنهم اليوم غدا مختلفاً إذ أصبح منصهراً مع الضمير الجمعي في ساحات التغيير، فإلى جانب الالتزام بأداء الشعائر ( الدينية ) ، وأهمها الصلوات اليومية وصلاة الجمعة على نحو أخصّ - وسيتم إفراد الحديث عن صلاة الجمعة ودورها التربوي في مقالة مستقلة بإذن الله- ، وذلك ما لم يكن لكثيرين عهدٌ به على هذا النحو من الانضباط والإحساس بالقيمة والتأثير والمسئولية تجاهه ؛ فإن ثمّة همّة في التفكير، ورشداً في السلوك، ورؤية جديدة نحو المستقبل الأرحب، لذا تحوّلت الهموم الذاتية المحدودة المتمثلة لدى بعضهم في كيفية الإشباع المجرّد للذات عبر اللّذة والمتعة والشهوة والشهرة والمال إلى تطلّع سامٍ نحو قيم كليّة وكونية وإنسانية كبرى تتمثل في كيفية تحقيق قيم : الحريّة والعدالة الاجتماعية، وتجسيد قيم المساواة والتآخي والتكافل والتسامح والتعايش وتكافؤ الفرص والسعي نحو التغيير لأوضاع الظلم والقهر والاستبداد والفساد، التي صارت مَعْلَماً ( مخجلاً ) لكل مجتمعاتنا ، وإن تفاوتت حدّة المشكلة بعد ذلك بين كل قطر وآخر. فهل يا تُرى تغيّرت النظرية التربوية حقّاً؟
الحق أن النظرية التربوية في جانب المدخلات والعمليات والمخرجات ، أو الأهداف والنتائج لم تتغيّر، ولا يمكن لها ذلك، إذ إن ذلك جزء لا يتجزّأ من القانون الكوني القائم على حقيقة أن المقدّمات السليمة تحدث نتائج سليمة ، والعكس صحيح ، وفق لغة بعض أهل المنطق، ولعلّ الآيات القرآنية تحدّثت عن تلك الحقيقة بما لا مزيد عليها ، وحسبنا في هذه العجالة الإشارة إلى ما ورد في سورة الإسراء في قوله تعالى : { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً } ( الإسراء : 72 ) ، وفي السورة ذاتها بعد الآية السابقة بآيات قليلة جاء التأكيد على أن سنة الله لا تتغير : { سنّة من قد أرسلنا من رسلنا، ولا تجد لسنّتنا تحويلاً } ( الإسراء : 77 ) لتخلص إلى تقرير حقيقة المدخلات والمخرجات بإشارة الحق سبحانه إلى ذلك بقوله :{ وقل ربّ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} ( (الإسراء: 80).
إذاً مع التأكيد على حقيقة أن المدخلات الجيّدة تحقّق مخرجات جيّدة وعكسها صحيح - وهذه هي السنة الكونية العامة - ، فإن ثمّة ميادين للبناء جديدة أتاحتها عملية الثورة - وقد حدثت في بعض الحقب أو الظروف والمواقف ، وتحدث كلما تحقّقت شروطها الموضوعية - تعمل على اختزال جملة من الأساليب العتيقة أو حتى الفاعلة التي قد تأخذ مدى أطول ، وجهداً أعلى في ظروف اعتيادية ، يختزلها الحدث العظيم في نسق محدود زمناً، وجهداً مادياً منظوراً، إذ تفرض طبيعة الحدث وأهميته وخطورته ذلك التأثير الذي يتشكّل وفقاً لمعطيات منظورة وغير منظورة، أهمها ما يعنيه ذلك الحدث من تأثير فاعل كليّ كبير، تسهم فيه الأحداث غير المتوقّعة ولاسيما مشاهد العنف التي تلحق بالمظلوم ، في صورة إهانة أو سوء تعامل ، أو قهر بأي معنى ، ناهيك عن مظهر إراقة دمه ، فذلك يدفع نحو ردّ فعل عكسي مضاعف، ما كان للتربية في الأوضاع الاعتيادية أن تحقّقه ، بل إن الأوضاع العادية الطبيعية تقضي بمكافأة مجزية لمن يبذل وقته وجهده وماله وربما دمه ، من اجل نهضة أمته ورفعتها ، وهذا ما تفعله الأمم الحية تجاه أفرادها الذين يتفانون في سبيل رفعتها .
إن هذا التوصيف على أهميته – في تقدير كاتب هذه السطور على الأقل – لا ينفي أو يتعارض مع حقيقة كليّة أخرى فحواها أنّ ما تمتلكه دعوة الحق من قوّة ذاتية كامنة فيها يعدّ أساساً في سرعة ذلك التأثير وامتداداته ، وهو ما يجسّده قول الحق سبحانه : { ...كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأّمّا الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال} ( الرعد:17).
أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي
أستاذ أصول التربية وفلسفتها- كلية التربية – جامعة صنعاء
*تربيتنا