إبراهيم الخليفة / الرياض
في عاشوراء، لم يستشهد الحسين وأهل بيته فقط، بل استشهدت الأمة سياسياً ودخلت بيت الطاعة السياسي بحد السيف واصطفت إلى جوار المقتنيات التي يورثها الأب للابن!! وهنا قد يبدو للبعض أن الأمر يتعلق بأمر تاريخي لم يعد له وجود، بينما الحقيقة أن المنهج السياسي الذي بدأ تثبيته منذ عهد يزيد هو المنهج السياسي الذي حكم ولا زال يحكم البلدان العربية منذ ذلك العهد إلى وقتنا الراهن. إن أهل السنة يعترضون على أعمال يزيد ومعظمهم يدينونها، ولكنهم لا يعترضون على المنهج السياسي الذي أدى إلى هذه الأعمال، وهو منهج التغلب والتوريث العائلي للحكم..
لو تأملنا طبيعة النصوص التي يتم استحضارها من قبل أهل الطرح السياسي المذهبي وطريقة تفسيرهم لها، فسنجد درجة عالية من الانتقائية في اختيار النصوص وقدراً كبيراً من التكلف في تفسيرها.
منذ البداية سنجد استبعاد الشورى ومبدأ ولاية الأمة عند الشيعة، والتهوين منهما أو الذهول عنهما عند أهل السنة. ومن هنا يحدث الخلل، ذلك أن أهم وأبرز ما في الوحي بشأن الحكم وأهم ما يُحيي سنن الخلافة الراشدة ويؤدي إلى التمسك بمنهج عترة الرسول ويسمح بتحقيق الإصلاح السياسي إلى قيام الساعة، هما قيمة الشورى ومبدأ ولاية الأمة. وعلى عكس ما يظن أهل الطرح السياسي المذهبي، فإنه فقط عن طريق الانطلاق من قيمة الشورى ومبدأ ولاية الأمة يمكن استحضار كل النصوص ذات الدلالات السياسية وعدم استبعاد أي منها.
إذا تأملنا النصوص في ضوء ذلك سنجد الطابع الاستشرافي للنصوص المتعلقة بولاية علي، وسنجد التفريق بين مواقف أهل الجمل وأهل صفين، وسنجد الإدانة النبوية الكبرى لأهل المُلك وسنجد نزع صفة الخلفاء عنهم ونزع صفة الخلافة عن حكمهم. ولنتأمل كل ذلك.
لننظر إلى الأدلة التي يحتج بها الشيعة، مثل النص القرآني الذي أعطى خصوصية لأهل البيت وأحاديث المنزلة والغدير والثقلين وغيرها.
إن الكثير من الأدلة تتعلق بالفضل والمنزلة والمقام الديني. ومثل هذه الأدلة لا إشكال فيها، فعلي رضي الله عنه أهل لها، ويوجد إلى جانبها أدلة تخص بعض الصحابة، بل يوجد آيات تزكي عموم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. ومن ثم فإن الإشكال يكمن في الأحاديث القريبة من المعنى السياسي، مثل حديث غدير خم، حيث أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ولاية علي وأوصى بموالاته وعدم معاداته، وبعض الروايات تضمنت الدعاء لمن والاه بموالاة الله ونصره والدعاء على من عاداه بمعاداة الله وخذلانه (وردت روايات تشير إلى هذه المعاني أخرجها الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والطبراني والهيثمي وابن حبان وابن أبي شيبة والحاكم وأبو يعلى وأبو نعيم وغيرهم).
إن مثل هذه الأحاديث لم تكن تهدف إلى معالجة موضوع الاستخلاف، بل كانت تهدف إلى معالجة وضع الفتنة الكبرى. ولولا ذلك لكانت تلك الأحاديث صريحة وواضحة في حسم أمر الاستخلاف، ولما كان لورود الشورى حينئذ أي معنى ولامتلأت سيرة الصحابة ومواقفهم بما يؤكد معنى الاستخلاف.
إن غاية تلك الأحاديث هي إرشاد المختلفين إلى سبل الخروج من الفتنة الكبرى حين تقع، أي أنها أحاديث تستبطن أحداث الفتنة، وينبغي رؤيتها والنظر إليها في ضوء طابعها الاستشرافي والتنبئي، فهي أحاديث تهدف إلى تأكيد أهلية الإمام علي للخلافة وتوجيه الناس نحو القبول به وموالاته وعدم معاداته حين يتم اختياره، وبذلك يمكنهم الخروج من وضع الفتنة والحفاظ على استمرارية الخلافة.
هذا الطابع الاستشرافي والتنبؤي يشهد له كون حديث ’’غدير خم’’ (موضع بين مكة والمدينة، وهو واد عند الجحفة به غدير)، الذي يعد أكثر الأحاديث دلالة على الشأن السياسي قد ألقي في طريق العودة إلى المدينة بعد حجة الوداع، وكأنه يشير إلى وضع خاص سيحدث في المدينة ويستدعي استحضاره. ولو كان المقصود هو استخلاف الإمام علي لألقي هذا الحديث في جموع المسلمين أثناء الحج وبصيغة قاطعة، لا يُفهم منها الترشيح ولا المعاني غير السياسية، بل يُفهم منها الاستخلاف السياسي، ولورد ذلك في القرآن الكريم ولألقي في كل مناسبة ولما كان لورود الشورى أي معنى أو محل.
قد يقال بأن الطابع الاستشرافي واضح أو مقبول في الأحاديث ذات الأبعاد الزمانية والمكانية مثل حديث الغدير، ولكن هذا الطابع مفقود ومستبعد في الأحاديث ذات الدلالات الممتدة مثل حديث الثقلين، حيث أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالقرآن وبعترته أهل بيته، وأخبر أن المتمسك بهما لن يضل بعده؟!.
والواقع أن لفظ العترة يطلق على النسل والرهط والعشيرة والأولاد والذرية، ولكن اختيار هذا اللفظ من بين الألفاظ المرادفة، رغم أنها أكثر شيوعاً واستعمالاً، يدل على اتجاه القصد نحو المعاني الخاصة والمميزة لهذا المفهوم عن غيره من المرادفات. وبالإضافة إلى المعاني العامة التي أشرنا إليها، فإن مفهوم العترة يطلق على أقرب الأقارب وأخصهم وعلى العشيرة الأدنى وعلى العقب من صلب المرء، ويطلق على ساق الشجرة، وفي الثغر يراد به رقة أطراف الأسنان ونقاؤها، كما أنه يطلق على القطعة من المسك الخالص.
وإذا أخذنا كل هذه المعاني بعين الاعتبار، فإنه يصعب القول بأن المعنى المراد هو المعنى العام للنسل والرهط والعشيرة والأولاد، بل لا بد أن يكون القصد اتجه إلى أخص الأقارب وأقربهم ومن يشبهون ساق الشجرة بالنسبة لبقية الأقارب أو من يحملون خلاصة شمائل الأقارب. ومثل هذه المعاني مجتمعة لا تتحقق ـ في تقديرنا ـ إلا في علي والحسن والحسين، وهذا هو سر اختيار لفظ العترة من بين بقية الألفاظ المرادفة والأكثر شيوعاً واستعمالاً.
وإذا صح القول بأن مفهوم العترة يكتسب مبرر اختياره من معانيه المميزة التي لا تبقيه عند عموم الأقارب بل تقصره على صفوتهم، فإن المعنى الصحيح لمفهوم العترة لا يمكن اكتشافه إلا من خلال حسن دراسة أحوال صفوة الأقارب، وهم تحديداً علي والحسن والحسين، ومحاولة اكتشاف الخط الجامع الذي ميزهم عن غيرهم، والذي يصلح أن يكون محلاً للاقتداء وعاصماً من الضلال إلى قيام الساعة؟!
والواقع أن ذلك الخط ليس خفياً ولا خافتاً، بل هو ملء التاريخ والواقع، سواء عند أهل السنة أو عند الشيعة، وهو الخط السياسي أو المنهج السياسي الذي قدموا من خلاله أروع النماذج في الخضوع لإرادة الأمة وفي الدفاع عنها وتقديم مصلحتها والدفاع عن ولايتها.
وبما أن السياسة هي بوابة كل ما هو مهم في الحياة الدنيوية، فإن التمسك بالقرآن وبالمنهج القويم الذي مثله صفوة الأقارب على المستوى السياسي، سيكون منجياً من الضلال، لأنه تمسك بالقرآن من ناحية وبالشورى وولاية الأمة من ناحية أخرى.
لننتقل إلى الأحاديث التي تميز بين مواقف المقاتلين لعلي في موقعة الجمل والمقاتلين له في موقعة صفين، فالأحاديث تؤكد خطأ السيدة عائشة ـ رشي الله عنها ـ، حيث أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن إحدى نسائه ستنبح عليها كلاب الحوأب (وردت أحاديث حول ذلك أخرجها أحمد والبيهقي والحاكم والهيثمي وابن حبان وأبو نعيم وأبو يعلى والسيوطي والطبراني وغيرهم).
وتشهد الأحاديث كذلك بخطأ الزبير، وقد ذكّره علي بما أخبر به الرسـول من أن الزبير سيقاتل علياً وهو ظالم له، فتذكر وتراجع عن القتال (وردت أحاديث حول ذلك أخرجها الحاكم والبيهقي والحافظ بن حجر وابن أبي شيبة وعبدالرزاق وإسحاق بن راهويه وغيرهم).
أما طلحة، فقد قُتِل غدراً من قبل أحد المقاتلين معه وأحد أبرز المسخوط عليهم في عهد عثمان رضي الله عنه، وهو (مروان بن الحكم)، الذي أصبح بعد انتصار المُلك والياً للمدينة ثم حاكماً للمسلمين.
أما أهم الأدلة التي تؤكد اختلاف مواقف المقاتلين لعلي في موقعة الجمل عن مواقف المقاتلين له في موقعة صفين، فهي تلك الإدانة النبوية الكبرى التي صدرت في مواجهة مقاتلي علي في موقعة صفين، ممن قاموا في النهاية بتأسيس الحكم العائلي. فماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم؟
أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن عرى الإسلام ستنقض عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة (ورد هذا الخبر في روايات أخرجها أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي والطبراني وأبو نعيم والسيوطي والهيثمي وغيرهم)، وينبغي التنبُّه هنا إلى أن عدم إسلامية الحكم لا تعني كفر الحكام أو عدم إسلامية المجتمع.
وقد تم تأكيد هذا النقض من خـلال أحاديث أخرى، حيث أخبر الرسـول صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون بعده خلافة راشدة ثم يكـون ملكاً عضوضاً أو عاضاً ثم حكماً جبرياً (وردت روايات تحمل هذه التوصيفات أخرجها أحمد والطبراني وأبو يعلى والهيثمي وأبو نعيم والبيهقي والبزار والطيالسي والسيوطي).
كما تم وصف قاتلي عمار بن ياسر (المجموعة التي أسست الحكم العائلي الأموي) بأنهم فئة باغية (وردت روايات تحمل هذا الوصف أخرجها البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأحمد ومالك والحاكم والطبراني والبيهقي والسيوطي وابن حبان وأبو يعلى والحافظ بن حجر وأبو نعيم وابن أبي شيبه وعبدالرزاق والطيالسي واسحاق بن راهويه والبغوي والبزار وابن أبي عاصم وغيرهم)، كما ورد في بعض الروايات أنه يدعوهم إلى الجنة ـ أي إلى سبب من أسباب دخول الجنة ـ ويدعونه إلى النار ـ أي إلى سبب من أسباب دخول النار ـ (وردت روايات تحمل هذا الوصف أخرجها البخاري وأحمد والبيهقي وابن حبان).
وهكذا فقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بني أمية بأنه ملك عضوض أو عاض ونقض لعروة من عرى الإسلام، ووصف مؤسسيه بأنهم فئة باغية تدعو إلى النار. فما هي طبيعة الانحراف الذي حدث منذ عهد بني أمية واستدعى هذه الأوصاف؟ أهو القتال؟!.
كلا، فالقرآن الكريم يشير إلى إمكانية تقاتل المؤمنين، كما أن بعض المقاتلين للإمام علي كانوا من المشهود لهم بالفضل وعلو المنزلة وكان بينهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
هل يعود الانحراف إلى عدم الخضوع للحاكم الذي اختارته صفوة الأمة؟! هذه معصية. إلا أن أوضاع الفتنة منذ مقتل عثمان وصعود مسألة القَتَلة وحدوث نوع من الفراغ السياسي، تسمح بالاعتذار لمواقف المختلفين الذين لم ينطلقوا من استبعاد الشورى ورفض ولاية الأمة. وحتى تولي معاوية ـ رضي الله عنه ـ الحكم بعد ذلك يمكن تفهمه في إطار جو الفتنة الكبرى كمرحلة انتقالية لم يذهب معها الأمل، خصوصاً بعد الصلح مع الحسن.
إلا أنه منذ تنصيب الابن على رقاب الناس بحد السيف تم نقض الشورى ومصادرة آمال الإصلاح وتثبيت المُلك. وهذا هو الانحراف الذي استدعى الإدانة النبوية الكبرى التي تضمنتها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
ورغم ذلك، فإنه يهمنا التنبيه هنا إلى أن إدانة المقاتلين لعلي في موقعة صفين تنحصر في الشق السياسي في مآله الذي آل إليه، بدليل إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله يصلح بالحسن بين طائفتين من المؤمنين (وردت روايات تحمل هذا المعنى أخرجها البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد والطبراني والبيهقي والهيثمي والحاكم وغيرهم). وإخباره بأن الطائفة التي تقاتل الخوارج أولى بالحق (وردت روايات تحمل هذا المعنى أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي وأبو يعلى وغيرهم).
ومن ثم، فإن الفئة التي أسست حكم التغلب والتوريث العائلي في عهد بني أمية تظل من طوائف المؤمنين ويظل علي وأتباعه أولى بالحق منها، أما اغتصاب أمر الأمة وتوريث الحكم للأبناء بحد السيف بعد زوال جو الفتنة، فهي أعمال بغي ونقض لعروة من عـرى الإسلام ودعوة إلى سبب من أسباب النار. على أن الإخبار عن أن دعوة المُلك (التوريث العائلي بحد السيف) هي دعوة إلى النار أو إلى سبب من أسبابها، ينبغي أن يفهم بمثل ما يفهم به أي أمر محرم أو يقود إلى المحرم. أما أهل الدعوة، فالأمر يرتبط بمجمل أعمالهم ومعتقداتهم، وقد نقضوا عروة من عرى الدين إلا أنهم لم ينقضوا بقية عرى الدين.
ومما يؤيد كل هذه المعاني حول الانحراف السياسي ما ورد في بعض الروايات من إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن أول من يغير سنته رجل من بني أمية (وردت روايات تحمل هذا المعنى أخرجها أخرجها البيهقي والهيثمي والسيوطي وأبو يعلى وأبو نعيم وابن أبي شيبة والبزار والمتقي الهندي وغيرهم، وأوردها الألباني في السلسلة الصحيحة).
ومهما قيل بشأن صحة تلك الروايات، فإن مجمل الروايات الأخرى المتعلقة بالانحراف السياسي تؤيد معناها وتؤكده.
نأتي الآن إلى الأحاديث التي تحفظ لكل المقاتلين لعلي إسلامهم وإيمانهم، ولكنها ذات دلالات دينية تخاطب المسلمين في كل العصور، حيث أنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم في الكثير من الأحاديث النبوية عن قتال علي، وأخبر أن الله يمتحن قلبه للإيمان، فيقاتل على الدين وعلى تأويل القرآن كما قاتل الرسول على تنزيله (وردت روايات تحمل هذا المعنى أخرجها الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم والبيهقي وابن حبان والطحاوي والطبراني والسيوطي وابن أبي شيبه وأبو يعلى وعبدالرزاق وأبو نعيم والبزار وغيرهم) .
والشيعة يستشهدون بهذه الأحاديث دون التنبه إلى أنها تنقض عقيدة الأئمة المعصومين. وحتى لو عرضوها من باب إلزام أهل السنة بما يلزمون به أنفسهم، فإن الأدلة العقلية والمنطقية تثبت صحة هذه الأحاديث، باعتبار أن وضعها ليس أبداً من مصلحة خصوم علي، فهي لا تشهد لمواقفهم السياسية بل تدينها.
إن هذه الأحاديث تؤكد الطابع الاستشرافي والتنبؤي للأحاديث الواردة بشأن ولاية علي، وبالتالي خطأ المقولات السياسية الشيعية، إضافة إلى خطأ الفقه السياسي السني.
أما بالنسبة لخطأ المقولات السياسية الشيعية، فإذا كان الوحي قد حرص كل هذا الحرص على الإخبار عن قتال علي والإشادة به ووصفه بأنه قتال على الدين وأن الله يمتحن قلب علي للإيمان، فماذا عن المرحلة الطويلة التي سبقت القتال منذ عهد أبي بكر إلى نهاية عهد عثمان؟!.
لو كانت عقيدة الإمامة الإلهية صحيحة لما خضع علي لحكم أبي بكر وعمر وعثمان، ولما سكتت الأحاديث عن خضوعه، ولما قاتل بعد اختياره خليفة ولما أشاد الوحي بقتاله.
إن الإخبار عن قتال علي رضي الله عنه، والإشارة إلى أن الله يمتحن قلبه للإيمان فيقاتل على الدين وعلى تأويل القرآن كما قاتل الرسول على تنزيله، ثم التمييز بين اختلاف الأشخاص في موقعة الجمل واختلاف المبادئ في صفين، لهي دلائل قاطعة على أنه لم يكن يوجد أئمة معصومون بل كان يوجد ولاية للأمة أو لصفوة الأمة تم إجهاضها والقضاء عليها وتأسيس نقيضها.
ولولا ذلك لما تم السكوت عن مرحلة السلم في حياة علي والإشادة بمرحلة القتال، ولما اقتصرت الإدانة على الفئة التي اغتصبت أمر الأمة وأسست حكم التغلب والتوريث العائلي، بل لكانت الإدانة من نصيب طلحة والزبير وعائشة، ولكانت قبل ذلك من نصيب أبي بكر وعمر ومعظم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، بل ولكانت أيضاً من نصيب علي الذي فرط في قتال الخلفاء الذين سبقوه.هذا بالنسبة للمقولات السياسية الشيعية، أما بالنسبة للفقه السياسي السني، فإذا كانت الأحاديث قد وصفت قتال علي بأنه قتال على الدين وعلى تأويل القرآن بمثل قتال الرسول على تنزيله، فهل وردت هذه الإشادة لمجرد تمكيننا من الحكم على مواقف المتقاتلين، أم أن الهدف الأسمى لهذه الأحاديث هو دفعنا نحو التعرف على أسباب هذه الإشادة وإعادة التمسك بتلك الأسباب ومخالفة الذين أخبر الرسول بأنهم أخطأوا التأويل؟!
إن تبني الحكم الذي قاتل علي من أجل عدم التمكين له، وهو حكم التغلب، بل وإضفاء المشروعية الدينية عليه، هو وقوف تام ضد موقف علي الذي وصف الرسول قتاله بأنه قتال على الدين وعلى تأويل القرآن بمثل قتال الرسول على تنزيله، ووقوف تام مع الحكم الذي وصفه الرسول بأنه مُلك عضوض ونقض لعروة من عرى الإسلام ووصف مؤسسيه بأنهم فئة باغية تدعو إلى النار أو إلى سبب من أسبابها.
ننتقل إلى انتفاضة الحسين رضي الله عنه، فمن بين أعظم كوارثنا الثقافية ذلك الوقوف عند أحداث المجزرة الدموية المروعة التي طالت الحسين وآل بيته رضي الله عنهم في يوم عاشوراء دون الانتقال إلى مضمونها السياسي والمسار الذي رسمته في حياة المسلمين منذ ذلك الحين إلى يومنا الحاضر، رغم أنه هنا يشتد حضور ووضوح مفهوم عترة الرسول ومنهجهم السياسي الذي ينبغي التمسك به والانتصار له.
في عاشوراء، لم يستشهد الحسين وأهل بيته فقط، بل استشهدت الأمة سياسياً ودخلت بيت الطاعة السياسي بحد السيف واصطفت إلى جوار المقتنيات التي يورثها الأب للابن!!
وهنا قد يبدو للبعض ممن لم يعرفوا السياسة ولم يعرفوا سننها، أن الأمر يتعلق بأمر تاريخي لم يعد له وجود، بينما الحقيقة أن المنهج السياسي الذي بدأ تثبيته منذ عهد يزيد هو المنهج السياسي الذي حكم ولا زال يحكم البلدان العربية منذ ذلك الحين إلى وقتنا الراهن.
إن أهل السنة يعترضون على أعمال يزيد ومعظمهم يدينونها، ولكنهم لا يعترضون على المنهج السياسي الذي أدى إلى هذه الأعمال، وهو منهج التغلب والتوريث العائلي للحكم، بل إنهم يضفون المشروعية الدينية على هذا المنهج ويتلمسون الأعذار والتبريرات له، رغم أنه على النقيض تماماً من منهج الخلفاء الراشدين.
ألا يستطيع أهل السنة القول بأن الحسين رضي الله عنه احترم الشورى خلال حكم الخلفاء الراشدين، ثم احترم الصلح مع معاوية والعهد بإعادة الأمر إلى المسلمين بعده ـ تحقيقاً للمصلحة ودرءاً للفتنة ـ، ولكنه انتفض ضد الحكم الأموي حين تم الإخلال بالعهد وتثبيت المُلك العضوض ونقض عروة من عرى الدين وترسيخ الدعوة السياسية التي وصفها رسول الله بأنها دعوة إلى النار أو إلى سبب من أسبابها؟!.
إذا كانوا لا يستطيعون ذلك، فهم يقفون فعلياً وواقعياً ضد الشورى وضد منهج الخلفاء الراشدين، ويقفون فعلياً وواقعياً وإلى أبعد الحدود مع المنهج المناقض له وهو منهج التغلب والتوريث العائلي.
وبالمقابل، فإن الشيعة ينقلون اسم الحسين وذكرى استشهاده من عالم السياسة إلى عالم العقيدة، وذلك عبر تناول الأمر في إطار عقيدة الأئمة المعصومين، فما الذي ينتج عن ذلك؟!:
على مستوى الشيعة أنفسهم، لا يستطيعون تحديد القضية المحورية التي دعت إلى انتفاضة الحسين رضي الله عنه والتضحية بنفسه وأبنائه وأقاربه في سبيل تلك القضية. إنهم بمجرد تناول الأمر في إطار عقيدة الأئمة المعصومين يجعلون انتفاضة الحسين فاقدة للمعنى الديني وللمعنى السياسي، إذ كيف يمكن أن يكون رمزاً وحكيماً وإماماً هذا الذي يسكت عن انتهاك عقيدة الأئمة المعصومين في عهد أبي بكر وعمر وعثمـان، ثم يتجاوز عنها بعد إبرام الصلح مع معاوية ولا يتذكر التضحية من أجل عقيدته الدينية إلا عند اغتصاب أمـر الأمة وتوريث الحكم ليزيد؟!.
ما هو المعنى الديني هنا؟! ولماذا نجعل سلوكه ومنهجه الطويل في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وبعده مع معاوية غير معبر عن عقيدته الدينية، ثم نحصر عقيدته الدينية في موقفه تجاه يزيد؟!.
إذا كان الحسين رضي الله عنه قد ضحى بنفسه وأبنائه وإخوته وأقربائه من أجل عقيدة الأئمة المعصومين، فهو مجرد مغامر غير مستقر الأفكار وغير ثابت المنهج ومخالف لنهج الإمام علي ونهج الحسن، بل ونهجه هو منذ وفاة الرسول حتى تنصيب يزيد؟!.
لا شك أن المتتبع للكتابات الشيعية سيجد كلاماً إنشائياً ووجدانياً لا حدود له عن الثورة ضد الظلم، فهل كانت انتفاضة الحسين رضي الله عنه وتضحيته بنفسه وأبنائه وإخوته وأقاربه مجرد ثورة ضد الظلم؟! ثم ـ وهذا هو الأهم ـ ما هو الظلم هنا؟!
لقد حدثت انتفاضة الحسين في بدايات عهد يزيد، أي أن الوقت لم يكن قد أسعف يزيد لإحداث الظلم الواسع المؤكد الذي يفوق ـ بحسب المنطق الشيعي ـ ظلم من سبقوه ويستدعي التضحية بالنفس والأبناء والإخوة والأقارب لمواجهة هذا الظلم؟!.
الواقع أنه مهما تم البحث في دوافع انتفاضة الحسين ضد يزيد والقيمة الرسالية التي تحملها انتفاضته، فإن هذه الدوافع والقيمة تتقزّم وتضمحل إلى أن يصبح المرء أمام شخصية بلا منهج وبلا منطق وبلا حكمة، وذلك حين يتم تناول الأمر في إطار عقيدة الأئمة المعصومين. أما حين يتم تناول انتفاضة الحسين والقيمة الرسالية لانتفاضته في إطار مضمونها السياسي المتعلق، باغتصاب أمر الأمة وفرض التوريث للأبناء بحد السيف، فإن دوافع انتفاضة الحسين وقيمة انتفاضته تبرز متألقة سامية، ويصبح المرء أمام شخصية فذة بمنهج ثابت ممتد وحكمة ومنطق ورسالة تستحق استلهامها من قبل كل مسلم وكل مصلح.
إن الشيعة يحجبون إمكانات الوعي السياسي بقضية الحسين منذ البداية، ويحولون الحسين إلى مجرد مغامر خالف منهج علي ومنهج الحسن ومنهجه هو منذ وفاة الرسول، ويحولون ما حدث للحسين إلى مجرد حلقة ضمن انحراف عقائدي بدأ منذ وفاة الرسول، ويذيبون الفوارق بين أبي بكر وعمر وبين يزيد إلى درجة يصبح معها اسم الحسين وذكرى استشهاده مجرد مناسبة للبكاء والعويل والسواطير والدماء والثورة التي لا تحمل معها منطقاً ولا فكراً يصلح حياة الناس، بل يصبح الأمر مناسبة لتكريس وترسيخ الانقسام العقائدي وتجديد وإحياء مشاعر الشحن والكراهية وشخصنة الأحداث والصراع حول الماضي وصرف الأنظار والعقول عن سنن ومنهج حكام التغلب ورفعهم إلى منزلة موازية لمنزلة أبي بكر وعمر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بدل أن يكونوا من أبعد الناس عنها.
ما أهنأ حكام التغلب وما أسعدهم بهذا المنطق!!.
وهكذا، فإننا إذا نظرنا إلى انتفاضة الحسين من حيث توقيتها ومستواها، فإننا لن نجد سبباً دينياً ولا مبرراً رسالياً صالحاً لها ومتناسباً معها إلا في مواجهة خرق ديني ورسالي عظيم حدث في بداية عهد يزيد. فما هو الخرق الديني والرسالي العظيم الذي حدث في بداية عهد يزيد؟!.
إنه اغتصاب إرادة الأمة والإزهاق الصريح والنهائي للشورى وتثبيت المُلك من خلال تأسيس الحكم العائلي وتوريث شـؤون الأمة للأبناء مثلما يتم توريث الأموال والمقتنيات.
هذا هو أعظم خرق ديني ورسالي تعرض له المسلمون منذ وفاة الرسـول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى عهد يزيد، بل إنه أعظم خرق ديني ورسالي تعرض له المسلمون منذ وفاة الرسول إلى وقتنا الراهـن.
وإن عدنا إلى أحداث التاريخ وسنن السياسة منذ عهد يزيد إلى وقتنا الراهـن، فسنجد أنها تؤكد هذا الخرق. وإن عدنـا إلى لحظات التأسيس فقط، فسنجد أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تصفها بأنها أول نقض لعروة من عرى الدين، وتصف الدعوة السياسية التي تمثلها بأنها دعـوة إلى النار أو إلى سبب من أسبابها، وتصف الحكم الذي قام في ظل هذه الدعوة بأنه مُلك عضوض.
من هنا تنبع قيمة الحسين الكبرى. ومن هنا يمكن أن يكون لانتفاضته سبباً مشروعاً ومبرراً رسالياً جديراً بالحفاوة والإتباع والتأسي في مواجهة أعظم خرق ديني ورسالي حدث في حياة المسلمين، وهنا أيضاً نستطيع أن نجد أرضية مشتركة تقف عليها مواقف الحسين وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير وأمثالهم ممن أدركوا طبيعة الخرق الذي حدث.
إن انتفاضة الحسين تجد تفسيراً رسالياً تاريخياً وإنسانياً لا نظير له في إطـار قضية الشورى والمُلك، بينما الرؤية الشيعية تجعل الحسين رمزاً طائفياً لعقيدة سياسية لا تصلح لمعالجة أحـوال البشر، بل ولا تصلح حتى لمعالجة أحوال الطائفة الشيعية ذاتها.
وحين نفسر انتفاضة الحسين في إطار قضية الشورى والمُلك، فإن هذا التفسير يمكن أن يحشد خلفه أكثر من مليار مسلم سنّي في وقتنا الراهن ويسهم بقوة في استعادة ولاية الأمة، بدلاً من جعل ذكراه مناسبة لطعن واستفزاز واستعداء كل هؤلاء والإسهام بقوة في بقاء ورسوخ ثقافة المُلك.
*العصر
في عاشوراء، لم يستشهد الحسين وأهل بيته فقط، بل استشهدت الأمة سياسياً ودخلت بيت الطاعة السياسي بحد السيف واصطفت إلى جوار المقتنيات التي يورثها الأب للابن!! وهنا قد يبدو للبعض أن الأمر يتعلق بأمر تاريخي لم يعد له وجود، بينما الحقيقة أن المنهج السياسي الذي بدأ تثبيته منذ عهد يزيد هو المنهج السياسي الذي حكم ولا زال يحكم البلدان العربية منذ ذلك العهد إلى وقتنا الراهن. إن أهل السنة يعترضون على أعمال يزيد ومعظمهم يدينونها، ولكنهم لا يعترضون على المنهج السياسي الذي أدى إلى هذه الأعمال، وهو منهج التغلب والتوريث العائلي للحكم..
لو تأملنا طبيعة النصوص التي يتم استحضارها من قبل أهل الطرح السياسي المذهبي وطريقة تفسيرهم لها، فسنجد درجة عالية من الانتقائية في اختيار النصوص وقدراً كبيراً من التكلف في تفسيرها.
منذ البداية سنجد استبعاد الشورى ومبدأ ولاية الأمة عند الشيعة، والتهوين منهما أو الذهول عنهما عند أهل السنة. ومن هنا يحدث الخلل، ذلك أن أهم وأبرز ما في الوحي بشأن الحكم وأهم ما يُحيي سنن الخلافة الراشدة ويؤدي إلى التمسك بمنهج عترة الرسول ويسمح بتحقيق الإصلاح السياسي إلى قيام الساعة، هما قيمة الشورى ومبدأ ولاية الأمة. وعلى عكس ما يظن أهل الطرح السياسي المذهبي، فإنه فقط عن طريق الانطلاق من قيمة الشورى ومبدأ ولاية الأمة يمكن استحضار كل النصوص ذات الدلالات السياسية وعدم استبعاد أي منها.
إذا تأملنا النصوص في ضوء ذلك سنجد الطابع الاستشرافي للنصوص المتعلقة بولاية علي، وسنجد التفريق بين مواقف أهل الجمل وأهل صفين، وسنجد الإدانة النبوية الكبرى لأهل المُلك وسنجد نزع صفة الخلفاء عنهم ونزع صفة الخلافة عن حكمهم. ولنتأمل كل ذلك.
لننظر إلى الأدلة التي يحتج بها الشيعة، مثل النص القرآني الذي أعطى خصوصية لأهل البيت وأحاديث المنزلة والغدير والثقلين وغيرها.
إن الكثير من الأدلة تتعلق بالفضل والمنزلة والمقام الديني. ومثل هذه الأدلة لا إشكال فيها، فعلي رضي الله عنه أهل لها، ويوجد إلى جانبها أدلة تخص بعض الصحابة، بل يوجد آيات تزكي عموم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. ومن ثم فإن الإشكال يكمن في الأحاديث القريبة من المعنى السياسي، مثل حديث غدير خم، حيث أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ولاية علي وأوصى بموالاته وعدم معاداته، وبعض الروايات تضمنت الدعاء لمن والاه بموالاة الله ونصره والدعاء على من عاداه بمعاداة الله وخذلانه (وردت روايات تشير إلى هذه المعاني أخرجها الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والطبراني والهيثمي وابن حبان وابن أبي شيبة والحاكم وأبو يعلى وأبو نعيم وغيرهم).
إن مثل هذه الأحاديث لم تكن تهدف إلى معالجة موضوع الاستخلاف، بل كانت تهدف إلى معالجة وضع الفتنة الكبرى. ولولا ذلك لكانت تلك الأحاديث صريحة وواضحة في حسم أمر الاستخلاف، ولما كان لورود الشورى حينئذ أي معنى ولامتلأت سيرة الصحابة ومواقفهم بما يؤكد معنى الاستخلاف.
إن غاية تلك الأحاديث هي إرشاد المختلفين إلى سبل الخروج من الفتنة الكبرى حين تقع، أي أنها أحاديث تستبطن أحداث الفتنة، وينبغي رؤيتها والنظر إليها في ضوء طابعها الاستشرافي والتنبئي، فهي أحاديث تهدف إلى تأكيد أهلية الإمام علي للخلافة وتوجيه الناس نحو القبول به وموالاته وعدم معاداته حين يتم اختياره، وبذلك يمكنهم الخروج من وضع الفتنة والحفاظ على استمرارية الخلافة.
هذا الطابع الاستشرافي والتنبؤي يشهد له كون حديث ’’غدير خم’’ (موضع بين مكة والمدينة، وهو واد عند الجحفة به غدير)، الذي يعد أكثر الأحاديث دلالة على الشأن السياسي قد ألقي في طريق العودة إلى المدينة بعد حجة الوداع، وكأنه يشير إلى وضع خاص سيحدث في المدينة ويستدعي استحضاره. ولو كان المقصود هو استخلاف الإمام علي لألقي هذا الحديث في جموع المسلمين أثناء الحج وبصيغة قاطعة، لا يُفهم منها الترشيح ولا المعاني غير السياسية، بل يُفهم منها الاستخلاف السياسي، ولورد ذلك في القرآن الكريم ولألقي في كل مناسبة ولما كان لورود الشورى أي معنى أو محل.
قد يقال بأن الطابع الاستشرافي واضح أو مقبول في الأحاديث ذات الأبعاد الزمانية والمكانية مثل حديث الغدير، ولكن هذا الطابع مفقود ومستبعد في الأحاديث ذات الدلالات الممتدة مثل حديث الثقلين، حيث أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالقرآن وبعترته أهل بيته، وأخبر أن المتمسك بهما لن يضل بعده؟!.
والواقع أن لفظ العترة يطلق على النسل والرهط والعشيرة والأولاد والذرية، ولكن اختيار هذا اللفظ من بين الألفاظ المرادفة، رغم أنها أكثر شيوعاً واستعمالاً، يدل على اتجاه القصد نحو المعاني الخاصة والمميزة لهذا المفهوم عن غيره من المرادفات. وبالإضافة إلى المعاني العامة التي أشرنا إليها، فإن مفهوم العترة يطلق على أقرب الأقارب وأخصهم وعلى العشيرة الأدنى وعلى العقب من صلب المرء، ويطلق على ساق الشجرة، وفي الثغر يراد به رقة أطراف الأسنان ونقاؤها، كما أنه يطلق على القطعة من المسك الخالص.
وإذا أخذنا كل هذه المعاني بعين الاعتبار، فإنه يصعب القول بأن المعنى المراد هو المعنى العام للنسل والرهط والعشيرة والأولاد، بل لا بد أن يكون القصد اتجه إلى أخص الأقارب وأقربهم ومن يشبهون ساق الشجرة بالنسبة لبقية الأقارب أو من يحملون خلاصة شمائل الأقارب. ومثل هذه المعاني مجتمعة لا تتحقق ـ في تقديرنا ـ إلا في علي والحسن والحسين، وهذا هو سر اختيار لفظ العترة من بين بقية الألفاظ المرادفة والأكثر شيوعاً واستعمالاً.
وإذا صح القول بأن مفهوم العترة يكتسب مبرر اختياره من معانيه المميزة التي لا تبقيه عند عموم الأقارب بل تقصره على صفوتهم، فإن المعنى الصحيح لمفهوم العترة لا يمكن اكتشافه إلا من خلال حسن دراسة أحوال صفوة الأقارب، وهم تحديداً علي والحسن والحسين، ومحاولة اكتشاف الخط الجامع الذي ميزهم عن غيرهم، والذي يصلح أن يكون محلاً للاقتداء وعاصماً من الضلال إلى قيام الساعة؟!
والواقع أن ذلك الخط ليس خفياً ولا خافتاً، بل هو ملء التاريخ والواقع، سواء عند أهل السنة أو عند الشيعة، وهو الخط السياسي أو المنهج السياسي الذي قدموا من خلاله أروع النماذج في الخضوع لإرادة الأمة وفي الدفاع عنها وتقديم مصلحتها والدفاع عن ولايتها.
وبما أن السياسة هي بوابة كل ما هو مهم في الحياة الدنيوية، فإن التمسك بالقرآن وبالمنهج القويم الذي مثله صفوة الأقارب على المستوى السياسي، سيكون منجياً من الضلال، لأنه تمسك بالقرآن من ناحية وبالشورى وولاية الأمة من ناحية أخرى.
لننتقل إلى الأحاديث التي تميز بين مواقف المقاتلين لعلي في موقعة الجمل والمقاتلين له في موقعة صفين، فالأحاديث تؤكد خطأ السيدة عائشة ـ رشي الله عنها ـ، حيث أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن إحدى نسائه ستنبح عليها كلاب الحوأب (وردت أحاديث حول ذلك أخرجها أحمد والبيهقي والحاكم والهيثمي وابن حبان وأبو نعيم وأبو يعلى والسيوطي والطبراني وغيرهم).
وتشهد الأحاديث كذلك بخطأ الزبير، وقد ذكّره علي بما أخبر به الرسـول من أن الزبير سيقاتل علياً وهو ظالم له، فتذكر وتراجع عن القتال (وردت أحاديث حول ذلك أخرجها الحاكم والبيهقي والحافظ بن حجر وابن أبي شيبة وعبدالرزاق وإسحاق بن راهويه وغيرهم).
أما طلحة، فقد قُتِل غدراً من قبل أحد المقاتلين معه وأحد أبرز المسخوط عليهم في عهد عثمان رضي الله عنه، وهو (مروان بن الحكم)، الذي أصبح بعد انتصار المُلك والياً للمدينة ثم حاكماً للمسلمين.
أما أهم الأدلة التي تؤكد اختلاف مواقف المقاتلين لعلي في موقعة الجمل عن مواقف المقاتلين له في موقعة صفين، فهي تلك الإدانة النبوية الكبرى التي صدرت في مواجهة مقاتلي علي في موقعة صفين، ممن قاموا في النهاية بتأسيس الحكم العائلي. فماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم؟
أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن عرى الإسلام ستنقض عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة (ورد هذا الخبر في روايات أخرجها أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي والطبراني وأبو نعيم والسيوطي والهيثمي وغيرهم)، وينبغي التنبُّه هنا إلى أن عدم إسلامية الحكم لا تعني كفر الحكام أو عدم إسلامية المجتمع.
وقد تم تأكيد هذا النقض من خـلال أحاديث أخرى، حيث أخبر الرسـول صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون بعده خلافة راشدة ثم يكـون ملكاً عضوضاً أو عاضاً ثم حكماً جبرياً (وردت روايات تحمل هذه التوصيفات أخرجها أحمد والطبراني وأبو يعلى والهيثمي وأبو نعيم والبيهقي والبزار والطيالسي والسيوطي).
كما تم وصف قاتلي عمار بن ياسر (المجموعة التي أسست الحكم العائلي الأموي) بأنهم فئة باغية (وردت روايات تحمل هذا الوصف أخرجها البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأحمد ومالك والحاكم والطبراني والبيهقي والسيوطي وابن حبان وأبو يعلى والحافظ بن حجر وأبو نعيم وابن أبي شيبه وعبدالرزاق والطيالسي واسحاق بن راهويه والبغوي والبزار وابن أبي عاصم وغيرهم)، كما ورد في بعض الروايات أنه يدعوهم إلى الجنة ـ أي إلى سبب من أسباب دخول الجنة ـ ويدعونه إلى النار ـ أي إلى سبب من أسباب دخول النار ـ (وردت روايات تحمل هذا الوصف أخرجها البخاري وأحمد والبيهقي وابن حبان).
وهكذا فقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بني أمية بأنه ملك عضوض أو عاض ونقض لعروة من عرى الإسلام، ووصف مؤسسيه بأنهم فئة باغية تدعو إلى النار. فما هي طبيعة الانحراف الذي حدث منذ عهد بني أمية واستدعى هذه الأوصاف؟ أهو القتال؟!.
كلا، فالقرآن الكريم يشير إلى إمكانية تقاتل المؤمنين، كما أن بعض المقاتلين للإمام علي كانوا من المشهود لهم بالفضل وعلو المنزلة وكان بينهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
هل يعود الانحراف إلى عدم الخضوع للحاكم الذي اختارته صفوة الأمة؟! هذه معصية. إلا أن أوضاع الفتنة منذ مقتل عثمان وصعود مسألة القَتَلة وحدوث نوع من الفراغ السياسي، تسمح بالاعتذار لمواقف المختلفين الذين لم ينطلقوا من استبعاد الشورى ورفض ولاية الأمة. وحتى تولي معاوية ـ رضي الله عنه ـ الحكم بعد ذلك يمكن تفهمه في إطار جو الفتنة الكبرى كمرحلة انتقالية لم يذهب معها الأمل، خصوصاً بعد الصلح مع الحسن.
إلا أنه منذ تنصيب الابن على رقاب الناس بحد السيف تم نقض الشورى ومصادرة آمال الإصلاح وتثبيت المُلك. وهذا هو الانحراف الذي استدعى الإدانة النبوية الكبرى التي تضمنتها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
ورغم ذلك، فإنه يهمنا التنبيه هنا إلى أن إدانة المقاتلين لعلي في موقعة صفين تنحصر في الشق السياسي في مآله الذي آل إليه، بدليل إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله يصلح بالحسن بين طائفتين من المؤمنين (وردت روايات تحمل هذا المعنى أخرجها البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد والطبراني والبيهقي والهيثمي والحاكم وغيرهم). وإخباره بأن الطائفة التي تقاتل الخوارج أولى بالحق (وردت روايات تحمل هذا المعنى أخرجها مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي وأبو يعلى وغيرهم).
ومن ثم، فإن الفئة التي أسست حكم التغلب والتوريث العائلي في عهد بني أمية تظل من طوائف المؤمنين ويظل علي وأتباعه أولى بالحق منها، أما اغتصاب أمر الأمة وتوريث الحكم للأبناء بحد السيف بعد زوال جو الفتنة، فهي أعمال بغي ونقض لعروة من عـرى الإسلام ودعوة إلى سبب من أسباب النار. على أن الإخبار عن أن دعوة المُلك (التوريث العائلي بحد السيف) هي دعوة إلى النار أو إلى سبب من أسبابها، ينبغي أن يفهم بمثل ما يفهم به أي أمر محرم أو يقود إلى المحرم. أما أهل الدعوة، فالأمر يرتبط بمجمل أعمالهم ومعتقداتهم، وقد نقضوا عروة من عرى الدين إلا أنهم لم ينقضوا بقية عرى الدين.
ومما يؤيد كل هذه المعاني حول الانحراف السياسي ما ورد في بعض الروايات من إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن أول من يغير سنته رجل من بني أمية (وردت روايات تحمل هذا المعنى أخرجها أخرجها البيهقي والهيثمي والسيوطي وأبو يعلى وأبو نعيم وابن أبي شيبة والبزار والمتقي الهندي وغيرهم، وأوردها الألباني في السلسلة الصحيحة).
ومهما قيل بشأن صحة تلك الروايات، فإن مجمل الروايات الأخرى المتعلقة بالانحراف السياسي تؤيد معناها وتؤكده.
نأتي الآن إلى الأحاديث التي تحفظ لكل المقاتلين لعلي إسلامهم وإيمانهم، ولكنها ذات دلالات دينية تخاطب المسلمين في كل العصور، حيث أنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم في الكثير من الأحاديث النبوية عن قتال علي، وأخبر أن الله يمتحن قلبه للإيمان، فيقاتل على الدين وعلى تأويل القرآن كما قاتل الرسول على تنزيله (وردت روايات تحمل هذا المعنى أخرجها الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم والبيهقي وابن حبان والطحاوي والطبراني والسيوطي وابن أبي شيبه وأبو يعلى وعبدالرزاق وأبو نعيم والبزار وغيرهم) .
والشيعة يستشهدون بهذه الأحاديث دون التنبه إلى أنها تنقض عقيدة الأئمة المعصومين. وحتى لو عرضوها من باب إلزام أهل السنة بما يلزمون به أنفسهم، فإن الأدلة العقلية والمنطقية تثبت صحة هذه الأحاديث، باعتبار أن وضعها ليس أبداً من مصلحة خصوم علي، فهي لا تشهد لمواقفهم السياسية بل تدينها.
إن هذه الأحاديث تؤكد الطابع الاستشرافي والتنبؤي للأحاديث الواردة بشأن ولاية علي، وبالتالي خطأ المقولات السياسية الشيعية، إضافة إلى خطأ الفقه السياسي السني.
أما بالنسبة لخطأ المقولات السياسية الشيعية، فإذا كان الوحي قد حرص كل هذا الحرص على الإخبار عن قتال علي والإشادة به ووصفه بأنه قتال على الدين وأن الله يمتحن قلب علي للإيمان، فماذا عن المرحلة الطويلة التي سبقت القتال منذ عهد أبي بكر إلى نهاية عهد عثمان؟!.
لو كانت عقيدة الإمامة الإلهية صحيحة لما خضع علي لحكم أبي بكر وعمر وعثمان، ولما سكتت الأحاديث عن خضوعه، ولما قاتل بعد اختياره خليفة ولما أشاد الوحي بقتاله.
إن الإخبار عن قتال علي رضي الله عنه، والإشارة إلى أن الله يمتحن قلبه للإيمان فيقاتل على الدين وعلى تأويل القرآن كما قاتل الرسول على تنزيله، ثم التمييز بين اختلاف الأشخاص في موقعة الجمل واختلاف المبادئ في صفين، لهي دلائل قاطعة على أنه لم يكن يوجد أئمة معصومون بل كان يوجد ولاية للأمة أو لصفوة الأمة تم إجهاضها والقضاء عليها وتأسيس نقيضها.
ولولا ذلك لما تم السكوت عن مرحلة السلم في حياة علي والإشادة بمرحلة القتال، ولما اقتصرت الإدانة على الفئة التي اغتصبت أمر الأمة وأسست حكم التغلب والتوريث العائلي، بل لكانت الإدانة من نصيب طلحة والزبير وعائشة، ولكانت قبل ذلك من نصيب أبي بكر وعمر ومعظم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، بل ولكانت أيضاً من نصيب علي الذي فرط في قتال الخلفاء الذين سبقوه.هذا بالنسبة للمقولات السياسية الشيعية، أما بالنسبة للفقه السياسي السني، فإذا كانت الأحاديث قد وصفت قتال علي بأنه قتال على الدين وعلى تأويل القرآن بمثل قتال الرسول على تنزيله، فهل وردت هذه الإشادة لمجرد تمكيننا من الحكم على مواقف المتقاتلين، أم أن الهدف الأسمى لهذه الأحاديث هو دفعنا نحو التعرف على أسباب هذه الإشادة وإعادة التمسك بتلك الأسباب ومخالفة الذين أخبر الرسول بأنهم أخطأوا التأويل؟!
إن تبني الحكم الذي قاتل علي من أجل عدم التمكين له، وهو حكم التغلب، بل وإضفاء المشروعية الدينية عليه، هو وقوف تام ضد موقف علي الذي وصف الرسول قتاله بأنه قتال على الدين وعلى تأويل القرآن بمثل قتال الرسول على تنزيله، ووقوف تام مع الحكم الذي وصفه الرسول بأنه مُلك عضوض ونقض لعروة من عرى الإسلام ووصف مؤسسيه بأنهم فئة باغية تدعو إلى النار أو إلى سبب من أسبابها.
ننتقل إلى انتفاضة الحسين رضي الله عنه، فمن بين أعظم كوارثنا الثقافية ذلك الوقوف عند أحداث المجزرة الدموية المروعة التي طالت الحسين وآل بيته رضي الله عنهم في يوم عاشوراء دون الانتقال إلى مضمونها السياسي والمسار الذي رسمته في حياة المسلمين منذ ذلك الحين إلى يومنا الحاضر، رغم أنه هنا يشتد حضور ووضوح مفهوم عترة الرسول ومنهجهم السياسي الذي ينبغي التمسك به والانتصار له.
في عاشوراء، لم يستشهد الحسين وأهل بيته فقط، بل استشهدت الأمة سياسياً ودخلت بيت الطاعة السياسي بحد السيف واصطفت إلى جوار المقتنيات التي يورثها الأب للابن!!
وهنا قد يبدو للبعض ممن لم يعرفوا السياسة ولم يعرفوا سننها، أن الأمر يتعلق بأمر تاريخي لم يعد له وجود، بينما الحقيقة أن المنهج السياسي الذي بدأ تثبيته منذ عهد يزيد هو المنهج السياسي الذي حكم ولا زال يحكم البلدان العربية منذ ذلك الحين إلى وقتنا الراهن.
إن أهل السنة يعترضون على أعمال يزيد ومعظمهم يدينونها، ولكنهم لا يعترضون على المنهج السياسي الذي أدى إلى هذه الأعمال، وهو منهج التغلب والتوريث العائلي للحكم، بل إنهم يضفون المشروعية الدينية على هذا المنهج ويتلمسون الأعذار والتبريرات له، رغم أنه على النقيض تماماً من منهج الخلفاء الراشدين.
ألا يستطيع أهل السنة القول بأن الحسين رضي الله عنه احترم الشورى خلال حكم الخلفاء الراشدين، ثم احترم الصلح مع معاوية والعهد بإعادة الأمر إلى المسلمين بعده ـ تحقيقاً للمصلحة ودرءاً للفتنة ـ، ولكنه انتفض ضد الحكم الأموي حين تم الإخلال بالعهد وتثبيت المُلك العضوض ونقض عروة من عرى الدين وترسيخ الدعوة السياسية التي وصفها رسول الله بأنها دعوة إلى النار أو إلى سبب من أسبابها؟!.
إذا كانوا لا يستطيعون ذلك، فهم يقفون فعلياً وواقعياً ضد الشورى وضد منهج الخلفاء الراشدين، ويقفون فعلياً وواقعياً وإلى أبعد الحدود مع المنهج المناقض له وهو منهج التغلب والتوريث العائلي.
وبالمقابل، فإن الشيعة ينقلون اسم الحسين وذكرى استشهاده من عالم السياسة إلى عالم العقيدة، وذلك عبر تناول الأمر في إطار عقيدة الأئمة المعصومين، فما الذي ينتج عن ذلك؟!:
على مستوى الشيعة أنفسهم، لا يستطيعون تحديد القضية المحورية التي دعت إلى انتفاضة الحسين رضي الله عنه والتضحية بنفسه وأبنائه وأقاربه في سبيل تلك القضية. إنهم بمجرد تناول الأمر في إطار عقيدة الأئمة المعصومين يجعلون انتفاضة الحسين فاقدة للمعنى الديني وللمعنى السياسي، إذ كيف يمكن أن يكون رمزاً وحكيماً وإماماً هذا الذي يسكت عن انتهاك عقيدة الأئمة المعصومين في عهد أبي بكر وعمر وعثمـان، ثم يتجاوز عنها بعد إبرام الصلح مع معاوية ولا يتذكر التضحية من أجل عقيدته الدينية إلا عند اغتصاب أمـر الأمة وتوريث الحكم ليزيد؟!.
ما هو المعنى الديني هنا؟! ولماذا نجعل سلوكه ومنهجه الطويل في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وبعده مع معاوية غير معبر عن عقيدته الدينية، ثم نحصر عقيدته الدينية في موقفه تجاه يزيد؟!.
إذا كان الحسين رضي الله عنه قد ضحى بنفسه وأبنائه وإخوته وأقربائه من أجل عقيدة الأئمة المعصومين، فهو مجرد مغامر غير مستقر الأفكار وغير ثابت المنهج ومخالف لنهج الإمام علي ونهج الحسن، بل ونهجه هو منذ وفاة الرسول حتى تنصيب يزيد؟!.
لا شك أن المتتبع للكتابات الشيعية سيجد كلاماً إنشائياً ووجدانياً لا حدود له عن الثورة ضد الظلم، فهل كانت انتفاضة الحسين رضي الله عنه وتضحيته بنفسه وأبنائه وإخوته وأقاربه مجرد ثورة ضد الظلم؟! ثم ـ وهذا هو الأهم ـ ما هو الظلم هنا؟!
لقد حدثت انتفاضة الحسين في بدايات عهد يزيد، أي أن الوقت لم يكن قد أسعف يزيد لإحداث الظلم الواسع المؤكد الذي يفوق ـ بحسب المنطق الشيعي ـ ظلم من سبقوه ويستدعي التضحية بالنفس والأبناء والإخوة والأقارب لمواجهة هذا الظلم؟!.
الواقع أنه مهما تم البحث في دوافع انتفاضة الحسين ضد يزيد والقيمة الرسالية التي تحملها انتفاضته، فإن هذه الدوافع والقيمة تتقزّم وتضمحل إلى أن يصبح المرء أمام شخصية بلا منهج وبلا منطق وبلا حكمة، وذلك حين يتم تناول الأمر في إطار عقيدة الأئمة المعصومين. أما حين يتم تناول انتفاضة الحسين والقيمة الرسالية لانتفاضته في إطار مضمونها السياسي المتعلق، باغتصاب أمر الأمة وفرض التوريث للأبناء بحد السيف، فإن دوافع انتفاضة الحسين وقيمة انتفاضته تبرز متألقة سامية، ويصبح المرء أمام شخصية فذة بمنهج ثابت ممتد وحكمة ومنطق ورسالة تستحق استلهامها من قبل كل مسلم وكل مصلح.
إن الشيعة يحجبون إمكانات الوعي السياسي بقضية الحسين منذ البداية، ويحولون الحسين إلى مجرد مغامر خالف منهج علي ومنهج الحسن ومنهجه هو منذ وفاة الرسول، ويحولون ما حدث للحسين إلى مجرد حلقة ضمن انحراف عقائدي بدأ منذ وفاة الرسول، ويذيبون الفوارق بين أبي بكر وعمر وبين يزيد إلى درجة يصبح معها اسم الحسين وذكرى استشهاده مجرد مناسبة للبكاء والعويل والسواطير والدماء والثورة التي لا تحمل معها منطقاً ولا فكراً يصلح حياة الناس، بل يصبح الأمر مناسبة لتكريس وترسيخ الانقسام العقائدي وتجديد وإحياء مشاعر الشحن والكراهية وشخصنة الأحداث والصراع حول الماضي وصرف الأنظار والعقول عن سنن ومنهج حكام التغلب ورفعهم إلى منزلة موازية لمنزلة أبي بكر وعمر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بدل أن يكونوا من أبعد الناس عنها.
ما أهنأ حكام التغلب وما أسعدهم بهذا المنطق!!.
وهكذا، فإننا إذا نظرنا إلى انتفاضة الحسين من حيث توقيتها ومستواها، فإننا لن نجد سبباً دينياً ولا مبرراً رسالياً صالحاً لها ومتناسباً معها إلا في مواجهة خرق ديني ورسالي عظيم حدث في بداية عهد يزيد. فما هو الخرق الديني والرسالي العظيم الذي حدث في بداية عهد يزيد؟!.
إنه اغتصاب إرادة الأمة والإزهاق الصريح والنهائي للشورى وتثبيت المُلك من خلال تأسيس الحكم العائلي وتوريث شـؤون الأمة للأبناء مثلما يتم توريث الأموال والمقتنيات.
هذا هو أعظم خرق ديني ورسالي تعرض له المسلمون منذ وفاة الرسـول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى عهد يزيد، بل إنه أعظم خرق ديني ورسالي تعرض له المسلمون منذ وفاة الرسول إلى وقتنا الراهـن.
وإن عدنا إلى أحداث التاريخ وسنن السياسة منذ عهد يزيد إلى وقتنا الراهـن، فسنجد أنها تؤكد هذا الخرق. وإن عدنـا إلى لحظات التأسيس فقط، فسنجد أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تصفها بأنها أول نقض لعروة من عرى الدين، وتصف الدعوة السياسية التي تمثلها بأنها دعـوة إلى النار أو إلى سبب من أسبابها، وتصف الحكم الذي قام في ظل هذه الدعوة بأنه مُلك عضوض.
من هنا تنبع قيمة الحسين الكبرى. ومن هنا يمكن أن يكون لانتفاضته سبباً مشروعاً ومبرراً رسالياً جديراً بالحفاوة والإتباع والتأسي في مواجهة أعظم خرق ديني ورسالي حدث في حياة المسلمين، وهنا أيضاً نستطيع أن نجد أرضية مشتركة تقف عليها مواقف الحسين وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير وأمثالهم ممن أدركوا طبيعة الخرق الذي حدث.
إن انتفاضة الحسين تجد تفسيراً رسالياً تاريخياً وإنسانياً لا نظير له في إطـار قضية الشورى والمُلك، بينما الرؤية الشيعية تجعل الحسين رمزاً طائفياً لعقيدة سياسية لا تصلح لمعالجة أحـوال البشر، بل ولا تصلح حتى لمعالجة أحوال الطائفة الشيعية ذاتها.
وحين نفسر انتفاضة الحسين في إطار قضية الشورى والمُلك، فإن هذا التفسير يمكن أن يحشد خلفه أكثر من مليار مسلم سنّي في وقتنا الراهن ويسهم بقوة في استعادة ولاية الأمة، بدلاً من جعل ذكراه مناسبة لطعن واستفزاز واستعداء كل هؤلاء والإسهام بقوة في بقاء ورسوخ ثقافة المُلك.
*العصر