مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
ما بعد الهيمنة
ما بعد الهيمنة
-خالد حسن

نملك أفكارا قوية حية، والعطاء ـ وإن قل ـ لم ينقطع، وصناع الأفكار في الأمة قليلون وربما محدودو التأثير، لكنهم حاضرون يقاومون أنواع الحصار والترويع، وهم يؤثرون في عقول واعدة قادرة على تجاوز عقد الانتظار والإملاء والهيمنة ’’الناعمة’’، ومتحمسون لاكتشاف طرق بحث وتفكير جديدة، بعيدا عن ’’الجاهز’’ و’’الموروث’’. تلهينا التفاصيل وتصرفنا الحوادث ونستمتع بالقصاص والواعظ والمحلل ويبهرنا ’’الأكاديمي’’ والخبير ونغرق في الجزئيات، بينما يقل حماسنا لصانع الفكرة ومجددها، وهذا ما يبقينا ـ ربما لفترة قد تطول ـ أسرى لعقيدة الانتظار أو صرعى أمام ’’الأفكار الجاهزة’’..
ما عاد هذا الغرب قادرا على فرض إرادته على بقية أنحاء العالم مثلما كان عليه الأمر منذ بدايات القرن التاسع عشر، ربما هي بداية نهاية منظومة سيطرة الغرب.

فالإدارة الأمريكية ـ ومن معها من أوروبا ـ تحاول أن تفعل في العراق ’’الأقل ممكنا’’، ولو أنها أخذت بنصيحة ’’الأقل ممكنا’’ في أفغانستان لقللت خسائرها، فانتهى سقفها من ’’تصدير قيمها’’ إلى سياسة الحذر و’’الأقل ممكنا’’.

ويبدو أن الرئيس الأمريكي أوباما أدرك أن الأمور أصعب مما تخيله أو قدره مستشاروه. وحتى توقعاته أصبحت محدودة وتفاؤله لا يتجاوز الأماني الصغيرة. فواشنطن ـ المهابة والمغرية والمؤثرة والكاسحة في السابق ـ عجزت عن منح شرعية لحكومة غير شعبية، كما هو الحال في بغداد وكابل، إذ ما عادت الهيمنة العسكرية محددة لمستقبل موازين القوى، وليس ثمة قوة يمكنها أن تفرض القيم الأمريكية أو نقلها على ظهر دبابات أو طائرات أو مناهج، إذ التاريخ يملي شروطا على طموحات ’’الكبار’’ ويحد من تمددها.

وتأثير عالم الأفكار لا يقاوم، ولا تضاهيه قوة، وبداية الأفول، فقر في الأفكار وشح في العقول، وهو ما يعانيه الغرب ـ عموما ـ اليوم، حيث حلَ الباحث والمحلل والإستراتيجي والمستشار محل صانع الأفكار، الذي لا نكاد نجد له أثرا في الغرب اليوم. وارتبط عمل ’’الأكاديميين’’ والخبراء بالموظف، المقيد بجدول الأعمال والمنحاز دائما لمصالح كبرائه ومسؤوليه.
نعم العبرة بمن يصنع السياسات ويؤثر في تطورات الأوضاع، لكن من غير فكرة لا يمكنه أن يذهب بعيدا، وهو ما أملى على واشنطن أن تتبنى سياسة ’’الأقل ممكنا’’. فقدت القدرة على التأثير، ضاقت أمانيها تبخرت آمالها واصطدمت بتنامي الوعي والإصرار على المقاومة في العالم الإسلامي..

لقد ولى زمن: ’’أنت تعتقد لأنهم يريدونك أن تعتقد’’، أُريد لنا أن نعتقد أن ’’مصير الشعوب الدنيا أن يحكمها البريطانيون قديما والأمريكيون لاحقا’’، ما عدنا اليوم ننتظر قدوم ’’البرابرة’’، حيث يأتي رجال جدد من الإمبراطورية، ويكررون على مرأى منا ما كان يفعله القدامى، لكن أخشى أن نتحرر من ’’التجربة الاستعمارية’’، ومن عقدة ’’الانتظار’’، لينتهي بنا الأمر إلى تكرارها بشكل أو بآخر، لأننا ببساطة لا نقدر الأفكار ولا تصنع حراكنا وتوجهاتنا، ونمعن في التضييق عليها وترويعها.

ننتظر من ’’المخزن’’ أو ’’الباب العالي’’ أو ’’الأمر السامي’’ ما يملي علينا سياساتنا وتوجهاتنا، ويخفف علينا ’’الوسطاء أو الوكلاء’’ وطأة الأوامر والوصايات، ويسوقوها لنا بصورة ناعمة لا عوج فيها ولا أمتا.

يرعبني التكرار بقصد أو بغيره، كما إحياء تجارب الهيمنة بأشكال ’’ناعمة’’ (ولا أرى في الاستعمار والهيمنة أي نعومة).

نملك أفكارا قوية حية، والعطاء ـ وإن قل ـ لم ينقطع، وصناع الأفكار في الأمة قليلون وربما محدودو التأثير، لكنهم حاضرون يقاومون أنواع الحصار والترويع، وهم يؤثرون في عقول واعدة قادرة على تجاوز عقد الانتظار والإملاء والهيمنة ’’الناعمة’’، ومتحمسون لاكتشاف طرق بحث وتفكير جديدة، بعيدا عن ’’الجاهز’’ و’’الموروث’’.
تلهينا التفاصيل وتصرفنا الحوادث ونستمتع بالقصاص والواعظ والمحلل ويبهرنا ’’الأكاديمي’’ والخبير ونغرق في الجزئيات، بينما يقل حماسنا لصانع الفكرة ومجددها، وهذا ما يبقينا ـ ربما لفترة قد تطول ـ أسرى لعقيدة الانتظار أو صرعى أمام ’’الأفكار الجاهزة’’.

بينما قضايا العصر وهمومه وزمن ما بعد الهيمنة، كل هذا وغيره يتطلب أنماط تفكير ثرية وعميقة ومجددة، وكثير من النماذج الفكرية والجدلية الماضية لا تصلح لعالم اليوم.
*العصر
أضافة تعليق