مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
لمطاردة الفكرية وصولا إلى الإخضاع أو الإبعاد
لمطاردة الفكرية وصولا إلى الإخضاع أو الإبعاد
- خالد حسن
يريدونك واحدا من الحشود، تقول بمقالتهم، أو تدس قناعتك ورأيك إلى أن تموت غما وهما وكمدا، مكبوتا محبوسا مفجوعا، ليس لك من الأمر شيء... أن تواجه حملات التشكيك والمطاردة، أشرف وأنبل وأرحم من الخضوع لمنطق المربعات المغلقة، وأصعب من هذا أن تقاوم وترفض الإذعان والانضمام إلى الصف، وتكسر الجمود وتفكر وتؤثر خارج البرمجة الفكرية المفروضة. وأسوأ ما في الأمر أن هذه المطاردة للأفكار الحرة توظف لتمديد عصور الانحطاط والطغيان..

ثمة خطاب كاسح حاد جاف يمهد لهيمنة رؤية واحدة ونمط واحد في التفكير.

يرهب خصومه أو بالأحرى مخالفيه، يفرض الصمت ويحاكم الرأي والهمس دون نظر وتروَ، خطاب مهيمن لا يقاوم ولا مفر منه. والفكرة المغايرة تطارد وتشوه وهي متهمة ابتداء، لأنها صادرة من ’’متمردين’’ مشاكسين.

والكثيرون خضعوا وهادنوا، وأصبح الواحد منهم يكتب ويفكر ضمن مربعات ضيقة حتى لا يثير زوابع ولا يتعرض للمحاكم والمطاردات والمداهمات الفكرية، ليتها كانت ليلا أو فجرا، كما تفعل الأجهزة الأمنية القمعية، وإنما في كل حين وآن، ويُمعنون في تثبيت الحدود الفكرية والتأصيل لفقه المفاصلة.

إذا تكلمت عن الديمقراطية، طاردوك، وإذا زادت جرأتك عن حد معين، وتحدثت عن إيران أو حزب الله أو فضل الله (مؤخرا)، حاصروك وسلوا سيوفهم ليجهزوا على كتاباتك، وإذا تحدثت عن الحريات والتواطؤ مع الطغيان والاستبداد، أغلقوا دونك الباب، والقائمة طويلة، ورسالة الهيمنة لا تخطئها العين: لا مقام للفكرة الحرة في أوطاننا، وبلادنا مرتوية وليست جرداء بور، قف مكانك أو ارحل عنا غير مأسوف عليك، ولن يبق أمامك إلا الكتابة متخفيا، إلى أن تيأس وترمي قلمك طلبا للسلامة والعافية، أو تظل مطاردا وربما تموت متخفيا، وربما يتزامن هذا مع لحظة الإعلان عن ’’الاغتيال المعنوي للمفكر’’!! وهذا لن يكون.

يريدونك واحدا من الحشود، تقول بمقالتهم، أو تدس قناعتك ورأيك إلى أن تموت غما وهما وكمدا، مكبوتا محبوسا مفجوعا، ليس لك من الأمر شيء.

أكثر كتاباتهم إعادة صياغة الخطاب المهيمن نفسه، خطاب الرفض والحقيقة المطلقة والاستعلاء الإيماني والتفوق الشرعي والمصادرة والفرقة الناجية والطائفة المنصورة.

ويظل المفكر الحر المطارد محتارا: ما الذي بالإمكان فعله خارج هذا النظام، أو بالأحرى للنجاة من هذا الوأد المعاصر؟ أو كيف يمكن التعامل مع هذه المنظومة الفكرية المغلقة؟ وصل كثير من المطاردين إلى قناعة: ليس ثمة خيارات تلوح في الأفق، والصبر على الأذية الفكرية والمطاردة المعنوية، شرف ونبل يُعتز به، لكن لن نهادن ولن ننحني لمطاردة ولا لمداهم ولا لمشكك ولا لمتهم، ولا لضيق الأفق ضيق الصدر، ولا لمستعل مغرور.

ليست هذه استماتة ورغبة جامحة في الحفاظ على ’’الخصوصية’’ الفكرية، وإنما هي محاولة الانتقال إلى مستويات أعمق في التفكير والتأثير والتوجيه، بعيدا عن أجواء التنويم والخداع والتواطؤ والتقية والتدليس والتضليل.

أن تواجه حملات التشكيك والمطاردة، أشرف وأنبل وأرحم من الخضوع لمنطق المربعات المغلقة، وأصعب من هذا أن تقاوم وترفض الإذعان والانضمام إلى الصف، وتكسر الجمود وتفكر وتؤثر خارج البرمجة الفكرية المفروضة.

وأسوأ ما في الأمر أن هذه المطاردة للأفكار الحرة توظف لتمديد عصور الانحطاط والطغيان.

ويهوى المطاردون أداء مهمة الشرطي، يعطون إشارات المرور للكتاب والمثقفين والمفكرين، في تضخم مشوه للمجتمع.

بعد زمن، أدرك الكثيرون منا أن للحرية عدوين شرسين: المحتكر للسلطة والمحتكر للحقيقة. وكلاهما يستعمل الأداة نفسها لبسط سلطانه ونفوذه وقمعه: الهيمنة، ومن يمانع ويقاوم يطارد.

عندما تنظر إلى القضايا والأحداث من زاوية مغايرة عما ألفه الناس واعتادوه وحفظوه من جيل البرمجة الفكرية، فأنت متهم، ويجتمع على مطاردتك محتكرو السلطة والحقيقة، كل بأسلوبه.

أرفض التعامل مع قضايا الحرية والتأثير خارج البرمجة الفكرية المرفوضة بشكل خافت باهت موغل في الإغراق والتقديرات والحسابات، هو أقرب إلى الهمس والنجوى، وإنما هي قضية الأحرار في كل زمان ومكان، ولن تتحول قضية الحرية إلى فضفضة أو مسألة فلسفية يكثر فيها السؤال والنظر والتأمل إلا إذا تعاملنا مع تفاعلاتها وحقائقها بمنطق تجريدي بارد وأعزل، ولا مجال للحديث عن مجتمع حي ومثقفين ورأي عام، والجميع مقصى ومكمم ومغلق عليه، كفانا تدليسا وإيهاما.
*العصر
أضافة تعليق