يشتاق المرء ويتمنى أن يرى نفسه مطمئنة وقلبه هادئاً وسكينته عميقةً ونفسه ساكنةً وهو يضع جبهته ليرقى سُلّم الاهتداء، مؤمِّلاً أن يلحق ركب المهتدين الذين ذاقوا عذْب الهداية بعد أن ذاقوا عناء الطريق إليها؛ ويكون أسعد لو كان يقدم شيئاً من الجهد والبذل والتضحية في سبيل ما يؤمن به ويستيقن صدقه ويُعْظِم قدره، فبقدر ما يزيد البذل بقدر ما يزيد القدر، وبقدر ما يزيد القدر بقدر ما يرتفع معدل التضحية؛وكلما ارتفع معدل التضحية كلما عظم في النفس من يُضحَّى لأجله.
هكذا نجد العلاقة بين الشعور والممارسات والقناعات ، فرضى النفس عن النفس متوقف على هذا الشعور؛ هذا الشعور الذي يفضي على روح الإنسان قدراً كبيراً من الحب الصادق الذي لا يعصف به الإغواء كما لا يزحزحه الإغراء، حبٌّ يزيد عمقه في الضراء كما يزيد في السراء، وهو في الشدة أعلى مما هو في الرخاء، وفي السر أشد مما هو في العلانية.
وحين نتأمل عبارات القرآن الكريم التي أشارت إلى المهتدين سنلحَظ أن منْح الهداية والحصول عليها - مرتبط ارتباطا متينا بالبذل الكبير سواء كان جهدا حسِّيًّا أو عطاء معنويا.
فنجد أن الله تبارك وتعالى عندما تحدث عن منْحه سبحانه وتعالى الهداية؛ بيَّن أن تلك المَنْقَبة والمنـزلة لا تُمنَح إلا لمن بذل جهدا ملموسا بيِّنا في سبيل إرضاء خالقه ومولاه، وتحمَّل في سبيل ذلك المشقة والعناء، وروَّض نفسه على المجاهدة وقارعها بالمضاددة؛ وانحنى طويلاً تعظيماً لربه، وعفَّر جبهته بالتراب تذلُّلا بين يديه سبحانه، حينها قد يُمْنَح منـزلة الهداية التي بها يذوق حلاوة العبادة ويلمس طلاوتها، يقول الله تبارك وتعالى: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ﴾ ([1])
يعبِّر الإمام الغزالي رحمه الله -عند حديثه عن هذه الآية- عن تلك الهداية التي يهبها الله تعالى كثَمَرة لذلك البذل والجهد بقوله رحمه الله :’’...وإن أراد أن يكون من سالكي طريق الآخرة وساعده التوفيق حتى اشتغل بالعمل ولازم التقوى ونهى النفس عن الهوى وأشغل نفسه بالرياضة والمجاهدة؛ انفتحت له أبواب من الهداية بسبب المجاهدة تحقيقاً لوعده عز وجل المذكور في الآية وهو الجوهر النفيس الذي هو غاية إيمان الصِّدِّيقين والمقرّبين’’ ([2])
فالهداية لا تكون بالإدعاء والزعم، والحصول على كنهها لا يكون بالتمني والأحلام، بل ذلك مقام عظيم مَهْما ادعيناه رغبة منا في شرف الحصول عليه إلا أنه صعب المنال ويحتاج إلى ثمن غير بخس ، وجهدٍ يؤهلنا لاستحقاقه.
يقول الله تبارك وتعالى مبيناً لهذه الحقيقة : ﴿والَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ ([3]) فلما بذلوا الجهد في سبيل الحصول على الهداية منَّ الله عليهم بها ومنحهم إياها .
يقول سيد قطب رحمه الله في ظلاله حول هذه الآية:’’ فالذين اهتدوا بدؤوا هم بالاهتداء ، فكافأهم الله بزيادة الهدى ، وكافأهم بما هو أعمق وأكمل : ﴿وآتاهم تقواهم ﴾’’([4])([5]) ويقول سبحانه في قصة أهل الكهف: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً﴾ ([6])ويعلق الشيخ محمد المختار الشنقيطي رحمه الله على هذه الآية فيقول :’’ويفهم من هذه الآية الكريمة: أن من آمن بربه وأطاعه زاده ربُّه هدى. لأن الطاعة سبب للمزيد من الهدى والإيمان’’([7]).
بيْد أن قلة الوعي وضعف التوعية وندرة التدقيق في الأعمال القلبية جعلت فئاماً من الناس يفهمون ظاهراً من أمر الهداية دون التدقيق في متعلقاتها ودون توجِّهٍ للحرص عليها وصار الإنسان لمجرد محافظته على بعض الطاعات البسيطة ظن بذلك أنه قد نال المقام ووصل إلى المرام ، لذلك ترى أعماله التعبدية لا تزيد قيد شعرة عن كونها أعمال ظاهرة غائبة المعنى فاقدة الروح وبالتالي معدومة الأثر .
هذا الإحساس ينتج عنه ضعف في حرص المسلم على الاهتداء والازدياد من الطاعات ، لظنه أن الله قد منَّ عليه بالهداية والتوفيق الكاملَين ، وبالتالي فإن هذه المرتبة من الهداية التي وصل إليه تصيبها الشيخوخة فتبلى وتخلَق وتضعف قواها من فترة لأخرى كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم )([8])ولم يبق معه سوى الشكل والعياذ بالله .
فالمجاهدة على القيام بالطاعات والإكثار منها والمحافظة على روحها ورونقها هو اللسلم المتين والسلوك المعين للارتقاء إلى سبيل المهتدين، والحصول على منْحة الهداية من رب العالمين.
لاسيما في هذا الزمن الذي باتت عبادة العاملين فيه ضربا من العادة ، في ظل غياب التكافؤ بين المطلوب من العمق الإيماني والإعداد التربوي وبين الأمواج المتلاطمة من الفتن...
هذا والحمد لله رب العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
------------------
([1]) سورة العنكبوت [الآية :69]
([2])إحياء علوم الدين بتصرف [ج 1 / ص 99]
([3]) سورة محمد [الآية 17 ]
([4]) سورة محمد [الآية 17 ]
([5]) في ظلال القرآن – [6 / 448]
([6]) سورة الكهف [الآية :13]
([7]) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن بتصرف يسير[3/213]
([8]) رواه الحاكم والطبراني في ’’ الكبير ’’ وصححه الألباني في صحيح الجامع [حديث رقم :1590]