آفاق تربوية (17 )
خواطر في الذكرى ال44بعد الألف للهجرة النبوية
ذكرى الهجرة النبوية تؤكد لنا أن المحن كمنعطفات لا تستمر طويلا وأنه لابد من تجاوزها ولكن بعد المخاطرة وربط الجأش. وتجسد لنا هذه الذكرى نماذج عملية للتضحية بالمال والنفس والنفيس في سبيل الغاية العليا وهي مرضاة الرب سبحانه وتعالى.
كما أنها تؤكد لنا نهاية مرحلة صعبة حلت بالمؤمنين طوال ثلاثة عشر عاما من المحن والاستبداد وغطرسة الطاغوت ، ولكن مهما طال أمد المحنة لابد من الوصول إلى النهاية.
وتؤكد لنا ذكرى الهجرة عمق الجراح الذي حل بالمؤمنين (خير القرون) وبينهم خير الخلق أجمعين وكيف قابلوا ذلك بصبر وصمود وهم حديثو عهد بالإيمان ، ورسمت لنا طريق الهدى وأكدت أنه ليس طريقا معبَّدا وإنما محفوف بالأشواك والمخاوف والابتلاءات ..الأمثل فالأمثل.
كانت الهجرة النبوية محطة تحوُّل بين مرحلة الاضطهاد ومرحلة التأسيس لمجتمع جديد دفع فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه من الموالي خاصة ثمن أمنهم وأمان عقيدتهم واستقرارهم بل وحياتهم، ثم عمّ الأذى كل من أعلن إسلامه حتى وصل الإيذاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأثخنت قريش وشدت إصرها عليهم أجمعين فصادرت الأموال واعتقلت وسجنت و عذَّبتْ ..، والجماعة المسلمة حينها تعجز أن تدافع عن أتباعها وحملة فكرها، فكان النبي صلى الله عليهم لا يملك أكثر من التوجيه التربوي الإيماني والوصية بالصبر كما كان يقول لآل ياسر (ياسر وسمية وابنهما عمار, وأخوه عبد الله بن ياسر) رضي الله عنهم أجمعين. فغضب عليهم ملؤهم بنو مخزوم غضبًا شديدًا، وصبوا عليهم العذاب صبًّا، قال ابن هشام في السيرة النبوية: " وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر، وبأبيه وأمه ـ وكانوا أهل بيت إسلام ـ إذا حميت الظهيرة، عذبوهم برمضاء مكة ، فيمر بهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول:( صبراً آل ياسر، فإنَّ موعدَكم الجنة )،فأم عمار رضي الله عنها قتلت وهي تأبى إلا الإسلام ،ومات ياسر رضي الله عنه من شدة العذاب، وأغلظت امرأته سميّة رضي الله عنها القول لأبي جهل فطعنها في قُبلها بحربة في يديه فماتت، فنالت وسام أول شهيدة في الإسلام .
وشددوا العذاب على عمار ـ رضي الله عنه ـ بالحرِّ تارة، وبوضع الصخر على صدره أخرى، وبتعذيبه بالماء حتى يفقد وعيه.
وهكذا كانوا يتعرضون لألوان العذاب ويتفنن الظلمة بتعذيبهم وهي ضريبة يدفعها المصلحون في كل زمان ومكان، ففي حديث خباب رضي الله عنه : (إن من كان قبلكم كان ينشر أحدهم بالمنشار، ثم لا يصده ذلك عن دينه) رواه البخاري [3612] فهذا التثبيت كان هو الوحيد متاح لقائد الجماعة المسلمة صلى الله عليه وسلم فكان صلى الله عليه وسلم يذكر لهم صورا توضح طبيعة هذا الطريق وانهم ليسوا بأول من يناله العذاب في سبيل الحق.
كما أن القرآن المكي كان يثبت الصحابة ويذكرهم بالوعد المنتظر لمن ضحى في سبيل الدين وما أعد الله لعباده الموحدين، وتغذي فيهم المبدأ العقدي الذي من خلاله تكونت العقيدة الصلبة للجيل الأول من المسلمين وغيرت قناعاتهم واتجاهاتهم وأفكارهم ونمط حياتهم، فخالطت بشاشة قلوبهم وربطت بها مصيرهم فقدموا التضحيات المعنوية والجسدية والمعنوية والمالية.
ختاما: هكذا يجب على المواطن اليمني في المهجر أن يحرص على أن تكون هجرته هجرة تضحية في نشر القيم امتدادا لجهد اجداده الذين شاركوا في نشر الإسلام في كل ربوع الدنيا وأصقاعها بأخلاقهم وحسن شمائلهم ولين كلامهم وتسامحهم وكرمهم.