د.فؤاد بن عبده محمد الصوفي
يعيش المسلم اليوم خاضعا لواقعه المليء بالمؤثَّرات السلبية التي تجعله قليل التأثر بالأعمال الصالحة وضعيف الانسجام مع روح العبادة ومن ثم ندرة التغيير السلوكي الذي هو ثمرةٌ من ثمار تلك الأعمال قال تعالى:﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾(العنكبوت:45).
وأضحت حاجة المسلم إلى أجواءٍ حاضنةٍ له لفترة أطول تُثَبِّت إيمانَه وتُديم استقامتَه وترتقي به إلى السمو النفسي وتنقذه من مستنقعات السماوة وبالتالي التغيير في سلوكه الفردي والجماعي .
وبغياب البيئة الوجدانية الروحية في ظل الفتن المتلاطمة يواجه المسلم تحديًا شديداً ويمر بصعود وهبوط مستمرَّين كلما زادت أعماله بزغت شمس إيمانه وكلما قلت أعماله وألهته الملهيات أضعفت بريقَه وسموَّه وبات بحاجة مُلحّةٍ إلى أجواء العبادات إلى أمدٍ أطول.
ومن نعم الله على العباد أن نوَّع لهم العبادات ليتقلبوا بين العبادات من صلاة وذكر وصدقات وزكوات وحج ونحو ذلك.
وكل هذه العبادات وأشباهها عباداتٌ محدودةٌ من حيث الزمن ومن حيث العدد فيعيش المسلم في الصلاة مثلاً لدقائق معدودات فيبقى في روحانية العبادة لفترة مؤقتة ثم ينتهي منها ويتوجه إلى عمله ﴿فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله..﴾ فينغمس فيه، فيكون العمل التعبدي محدودا والعيش في أجوائه كذلك؛ وبالتالي فالأثر محدود أيضا.
ويبقى السائر إلى الله بحاجة إلى ترقَُّبِ نوعاً أطول من العبادات بحيث ينعم في أجوائها ويعيش في رحابها لفترة طويلة حتى يألفها فتصير جزءا أساسيا من حياته. يقول ابن القيم رحمه الله:"..ولايزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه برحمته عليه الملائكة تأزه اليها أزًا وتحرضه عليها وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها"الجواب الكافي (ص: 37).وذلك لأنه ألفها وتعود على أجوائها وأحس بلذتها ولامس أثرها.
و بمجيء شهر رمضان تتوفر تلك الحضانة التربوية للمسلم لتميز عبادة الصيام في شهر رمضان عن غيرها من العبادات بأنها توفر للمسلم هذه الحضانة التربوية طويلة المدى ومتنوعة الأعمال وتتلاقح آثار تلك الأعمال التعبدية وتتابع وتتبادل أدوار التأثير فينتقل المسلم من الصيام إلى التراويح إلى التلاوة إلى التهجد إلى الصدقات وصلة الأرحام إلى الإعتكاف إلى زكاة الفطر ..
وهذا الكم الكبير من الأعمال التي يُشرع للعبد القيام بأكثرها في رمضان. فرمضان فعلا بيئة حاضنة تهيئ الطريق نحو السير إلى الله تعالى وتساعد على الجو في حضانته لمدة تسعة وعشرين إلى ثلاثين يوما يصوم نهاره ويقيم ليله فيساعده على الثبات والاستمرار.
فالصوم وسيلة لتزكية النَّفس وتطهيرها من براثن المعاصي، والصائم يترك مالذَّ له من الطعام والشراب وغير ذلك من أجل الله تعالى، فالله وحده يعلم مقصده ومقدار تجرُّده في ترك الحلال لأجل الله تعالى، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: « كل عمل اين آدم له إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي»رواه مسلم (1151).
ومن هنا يتبين أن الصائم يعيش في أجواء رقابة الله تعالى وإحساسه بها بصورة مستمرة، وهذا بحد ذاته يورث الشعور بالخوف منه سبحانه وتعالى في السِّرِّ فضلًا على العلانيَّة؛ لأنَّ الصَّائم لا يطَّلع عليه أحدٌ إلَّا الله، و يترك ذلك خشيةً من الله تعالى.
وممايساعد على الأجواء الحاضنة لروحانية الصائم ووجدانه معرفته أنَّ الصَّوم يحفظ صاحبه من الوقوع في الحرام،ويرغبه ويعينه على تربية النَّفس على حسن الخلق والحلم والأناة، ويعوِّدها على كَظْمِ الغيظ ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:« الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين » رواه البخاري (1795)، ومسلم (1762).
فبقاء الصائم في هذه الأجواء الروحانية تقيه من الرَّفَثُ وهو الفُحش والخَنَا، والجهل هو السَّفَهُ.
كما يساعد هذا الجو عالى معالجة الشُّحِّ والبُخل، ويربِّي النفس على الجود والكرم، كما قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺأَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»رواه البخاري (1803)، ومسلم (2308).
إذاً فنحن بحاجة إلى خلق بيئة حاضنة لاستمرار إحساسنا بالعبادة واستمرارنا طويلا في تلك الأجواء حتى نتعود على تلك الأعمال ونستلذ تلك الأجواء ومن ثم تتغير أحوالنا وسلوكياتنا.
ورمضان هو الفرصة السنوية التي أنعم الله بها علينا كحاضنة تربوية توفر لنا البيئة المنشِّطة والمنعشة لفترة طويلة حتى نعتادها. وهي أعمال تعبدية مكثفة منها ماهو خاص برمضان ومنها ماهو ليس كذلك، ولكن الشارع رغب بالإزدياد منها في رمضان ليضمن هذه الحاضنة الطويلة فيألف المسلم العبادة ويتحقق فيه السمو النفسي من خلال ديمومة العمل وديمومة الأثر ولذا فإن هذه العبادة الطويلة تحقق صفة عظيمة من الصفات المطلوب تحقيقها في المسلم وهي تقوى الله تعالى، قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾[البقرة:183]. اللهم حققنا بالتقوى والاستقامة وأعذنا من موجبات الندامة في الحال والمآل إنك سميع الدعاء.