الليبرالية - باعتبارها أيديولوجية تحكم نوع التنظيم الاجتماعي - لا تتعدى في حقيقتها صورة من صور العلمنة التي تتعارض مع الفكرة الدينية من أساسها ؛ إذ إن جوهر الدين الالتزامات والتكاليف ، وجوهر الليبرالية الاستقلال بالذات عن أي سلطة من خارجها ؛ فالليبرالية في صورتها الأولى لم تقم إلا لمواجهة الاستبداد السياسي، والتسلط الكنسي ، فليس على الفرد وصاية من سلطة اجتماعية تسيطر عليه ، إلا أن يكون شيئاً من ضميره يختاره الفرد لنفسه ، فقد تحرر من كل شيء إلا من ذاته ، فالليبرالي – بناء على هذا المفهوم – لا يعدو أن يكون إلهاً يعبد نفسه ، فلا يصلح أصلاً أن يكون نصرانياً فضلاً عن أن يكون مسلماً .
وهذا المفهوم المتطرف لليبرالية غير قابل للتطبيق الواقعي في المجتمع الذي نشأ فيه ، فضلاً عن أن يكون ممكن التطبيق في المجتمع المسلم ؛ إذ إن الحرية المطلقة من كل قيد وشرط لا تعدو أن تكون صورة من صور الردة عن الإسلام ؛ لكونها مناقضة لمقتضى العبودية لله تعالى ، التي تفيد بالضرورة الخضوع والتذلل والطاعة المطلقة للسلطة الإلهية، وهذه تستلزم قيوداً كثيرة لحرية المسلم .
بل إن العبودية تقتضي إيمان الفرد أن الله تعالى من خلال إرادتيه الشرعية والكونية يحكم كلاً من الزمان والمكان بأجمعهما ، فلا يشذ عن سلطانه شيء ، بل لو اعتقد مسلم أن لحظة من الزمان ، أو ذرة من المكان يسوغ أن تخرج عن سلطان الله تعالى وحكمه وشريعته فإنه يرتد عن دينه، فضلاً عن أن يعتقد أن الحياة الاجتماعية بأجمعها يصح أن تقوم في قالب ليبرالي علماني يرفض السلطة الإلهية من أساسها.
إن مفهوم الشمول في الدين الإسلامي قد يخفى على بعض الناس ، حين يظن بعضهم أن الإسلام مجرد مجموعة ثوابت معدودة ـ كما يظن الأستاذ /المحمود ـ في حين أن حكم الله تعالى ينتظم المسلم بكليته ، وأنشطة الحياة بأجمعها من خلال الأحكام الخمسة التكليفية : المباح ، والحرام ، والمكروه ، والواجب ، والمندوب ، بحيث لا يخرج عن هذه الأحكام الخمسة شيء من شؤون الحياة الإنسانية ، مهما كان صغيراً ، وذلك في كل عصر ، والسؤال الذي يطرح نفسه على الأستاذ / المحمود : أين تقع الليبرالية التي يدعو إليها ، ويجاهد من أجلها ، ويزعم أنها المخرج من أزمات الأمة الإسلامية ، وسبيلها الوحيد للنهضة : أين تقع الليبرالية من هذه الأحكام الخمسة ؟
إن الدين الذي يحكم المسلم في طريقة قضاء حاجته ، فيؤدبه أين يتّجه ، وكيف يجلس ، وأي يد يستخدم : كيف يسمح له - بعد ذلك - أن يلبس ثوباً فكرياً شاملاً للحياة من إنتاج علماني يرفض السلطة الربانية ، ويحصرها في الكنيسة ، أو يجعلها علاقة ثنائية باردة ، محدودة بين الإنسان وربه ؟
إن مما ينبغي أن يعرفه الأستاذ / المحمود ، ومن ينتهج نهجه إن هذه العبارات الغليظة ، والتصريحات المتطرفة ، التي تتعرض بصورة مباشرة للثوابت الدينية : تولد تطرفاً في الجهة المقابلة ، فما يشكو منه الأستاذ / المحمود ، ويشكوا منه المجتمع من مظاهر الغلو والتطرف كثيراً ما يكون دافعها مثل هذه التصريحات الجريئة من بعض الليبراليين، فماذا على الأستاذ / المحمود - ومن هم على طريقته - لو استتر بآرائه ، وحصرها - إن كان ولابد - في خواص ندمائه ، كما حصل من كثير من الناس في التاريخ الإسلامي ؛ إذ لا مصلحة لمثل هذه التصريحات في مجتمع يدين بالإسلام ، ولا يحبذ الفكرة الأجنبية - أياً كانت - إلا فيما يتعلق بالمنتجات التقنية النافعة .
وأما تلويح الأستاذ / محمود بالتحذير من التكفير ، بمعنى إلغاء حكم الردة ، وإسقاطه من الفقه الإسلامي فهذا بعيد المنال ، فحكم الردة موجود وقائم ، فكما أن الشهادتين يدخل بها الكافر الإسلام ، فكذلك إذا أتى المسلم بناقض من النواقض فإنه يخرج به من الإسلام ، كأن ينكر معلوماً من الدين بالضرورة ، أو يشتم أو يستهزئ بشعيرة دينية ، أو أن يعتنق مذهباً عقائدياً ضالاً ، أو أن يبدل دينه ونحو ذلك ، إلا أن إنزال حكم على الشخص المعين فهذا ليس لكل أحد ، فله شروطه وضوابطه الشرعية ، وأما استتابة المرتد ، وإقامة الحد عليه فهذه من المهمات الخاصة بالحاكم المسلم لحفظ الدين في المجتمع الإسلامي .
ومع كل ما تقدم – في هذا المقال وفي المقالين السابقين - فإني اتفق مع الأستاذ / المحمود وأقر معه ، ومعنا كل عقلاء المسلمين : أن الأمة الإسلامية تعيش في هذا العصر أسوأ فتراتها التاريخية ، قد حاصرها الفقر والجهل والمرض والتخلف ، وعمَّها الضعف والتخاذل والانحطاط ، وهذا وصف عام يشمل كل طبقات الأمة بنسب مختلفة ، إلا أن الذي اختلف فيه مع الأستاذ / المحمود هو سبب هذا الانحطاط العام ، وسبيل الخلاص منه ؛ إذ لاشك أن أزمة الأمة أزمة دينية بالدرجة الأولى ، تحتاج معها الأمة لخلاصها أن تراجع دينها وتأخذه بصدق وعلم وقوة ، في حين يرى الأستاذ / المحمود أن أزمة الأمة في نهجها السلفي التقليدي المتحجّر ، والحل في نظره : أن تكتفي الأمة بمجموع الثوابت الدينية المعروفة والمحدودة ، ثم تنطلق بعد ذلك لخلاصها نحو الليبرالية : العالم الواسع المفتوح .
إن الأمة الإسلامية بكل هوانها وذلها وتخلفها لا ينفك عنها ـ في الجملة ـ وصف الخيرية ، فإن الفرقة الناجية فيها ومنها ، ومع ذلك فإن من يحمل في قلبه كلمة التوحيد الخالصة الصادقة مع تقصيره ، فهو - قطعاً وبلا أدنى شك أو تردد ـ أفضل ممن لا يحملها مهما كانت إنجازاته الحضارية ؛ إذ إن التقدم المادي ـ مهما بلغ من التفوق ـ لا يغني عن التوحيد ، فقد ذمّ الله أمماً في التاريخ وأهلكهم بسبب الشرك ، رغم تقدمهم الحضاري ، في حين امتدح نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ووصفهم بالخيرية ، رغم التخلف المادي الذي كانوا يحيونه في ذلك الوقت ، حتى إن أحدهم يسجد فتنكشف عورته ، ليس عنده من الأكسية السابغة ما يستر به عورته من شدة الفقر ، ويسعى أحدهم فلا يجد خاتماً من حديد يقدمه مهراً لامرأة ، مع ذلك يزكيهم الله تعالى ويصفهم بالخيرية .
ولقد وجهنا صلى الله عليه وسلم في أواخر الزمان حيث تنحط الأمة ، وتصبح محطّاً للأطماع والاستخفاف أن نتمسك بالكتاب والسنة ، لا أن نتمسك بالليبرالية ونجاهد في سبيلها ، ولو كانت حقاً لأوضحه لنا صلى الله عليه وسلم ، فقد تركنا على المحجة البيضاء النقية التي لا شك فيها ولا ريب .
د/ عدنان حسن باحارث
جامعة أم القرى
www.bahareth.org
*تربيتنا
وهذا المفهوم المتطرف لليبرالية غير قابل للتطبيق الواقعي في المجتمع الذي نشأ فيه ، فضلاً عن أن يكون ممكن التطبيق في المجتمع المسلم ؛ إذ إن الحرية المطلقة من كل قيد وشرط لا تعدو أن تكون صورة من صور الردة عن الإسلام ؛ لكونها مناقضة لمقتضى العبودية لله تعالى ، التي تفيد بالضرورة الخضوع والتذلل والطاعة المطلقة للسلطة الإلهية، وهذه تستلزم قيوداً كثيرة لحرية المسلم .
بل إن العبودية تقتضي إيمان الفرد أن الله تعالى من خلال إرادتيه الشرعية والكونية يحكم كلاً من الزمان والمكان بأجمعهما ، فلا يشذ عن سلطانه شيء ، بل لو اعتقد مسلم أن لحظة من الزمان ، أو ذرة من المكان يسوغ أن تخرج عن سلطان الله تعالى وحكمه وشريعته فإنه يرتد عن دينه، فضلاً عن أن يعتقد أن الحياة الاجتماعية بأجمعها يصح أن تقوم في قالب ليبرالي علماني يرفض السلطة الإلهية من أساسها.
إن مفهوم الشمول في الدين الإسلامي قد يخفى على بعض الناس ، حين يظن بعضهم أن الإسلام مجرد مجموعة ثوابت معدودة ـ كما يظن الأستاذ /المحمود ـ في حين أن حكم الله تعالى ينتظم المسلم بكليته ، وأنشطة الحياة بأجمعها من خلال الأحكام الخمسة التكليفية : المباح ، والحرام ، والمكروه ، والواجب ، والمندوب ، بحيث لا يخرج عن هذه الأحكام الخمسة شيء من شؤون الحياة الإنسانية ، مهما كان صغيراً ، وذلك في كل عصر ، والسؤال الذي يطرح نفسه على الأستاذ / المحمود : أين تقع الليبرالية التي يدعو إليها ، ويجاهد من أجلها ، ويزعم أنها المخرج من أزمات الأمة الإسلامية ، وسبيلها الوحيد للنهضة : أين تقع الليبرالية من هذه الأحكام الخمسة ؟
إن الدين الذي يحكم المسلم في طريقة قضاء حاجته ، فيؤدبه أين يتّجه ، وكيف يجلس ، وأي يد يستخدم : كيف يسمح له - بعد ذلك - أن يلبس ثوباً فكرياً شاملاً للحياة من إنتاج علماني يرفض السلطة الربانية ، ويحصرها في الكنيسة ، أو يجعلها علاقة ثنائية باردة ، محدودة بين الإنسان وربه ؟
إن مما ينبغي أن يعرفه الأستاذ / المحمود ، ومن ينتهج نهجه إن هذه العبارات الغليظة ، والتصريحات المتطرفة ، التي تتعرض بصورة مباشرة للثوابت الدينية : تولد تطرفاً في الجهة المقابلة ، فما يشكو منه الأستاذ / المحمود ، ويشكوا منه المجتمع من مظاهر الغلو والتطرف كثيراً ما يكون دافعها مثل هذه التصريحات الجريئة من بعض الليبراليين، فماذا على الأستاذ / المحمود - ومن هم على طريقته - لو استتر بآرائه ، وحصرها - إن كان ولابد - في خواص ندمائه ، كما حصل من كثير من الناس في التاريخ الإسلامي ؛ إذ لا مصلحة لمثل هذه التصريحات في مجتمع يدين بالإسلام ، ولا يحبذ الفكرة الأجنبية - أياً كانت - إلا فيما يتعلق بالمنتجات التقنية النافعة .
وأما تلويح الأستاذ / محمود بالتحذير من التكفير ، بمعنى إلغاء حكم الردة ، وإسقاطه من الفقه الإسلامي فهذا بعيد المنال ، فحكم الردة موجود وقائم ، فكما أن الشهادتين يدخل بها الكافر الإسلام ، فكذلك إذا أتى المسلم بناقض من النواقض فإنه يخرج به من الإسلام ، كأن ينكر معلوماً من الدين بالضرورة ، أو يشتم أو يستهزئ بشعيرة دينية ، أو أن يعتنق مذهباً عقائدياً ضالاً ، أو أن يبدل دينه ونحو ذلك ، إلا أن إنزال حكم على الشخص المعين فهذا ليس لكل أحد ، فله شروطه وضوابطه الشرعية ، وأما استتابة المرتد ، وإقامة الحد عليه فهذه من المهمات الخاصة بالحاكم المسلم لحفظ الدين في المجتمع الإسلامي .
ومع كل ما تقدم – في هذا المقال وفي المقالين السابقين - فإني اتفق مع الأستاذ / المحمود وأقر معه ، ومعنا كل عقلاء المسلمين : أن الأمة الإسلامية تعيش في هذا العصر أسوأ فتراتها التاريخية ، قد حاصرها الفقر والجهل والمرض والتخلف ، وعمَّها الضعف والتخاذل والانحطاط ، وهذا وصف عام يشمل كل طبقات الأمة بنسب مختلفة ، إلا أن الذي اختلف فيه مع الأستاذ / المحمود هو سبب هذا الانحطاط العام ، وسبيل الخلاص منه ؛ إذ لاشك أن أزمة الأمة أزمة دينية بالدرجة الأولى ، تحتاج معها الأمة لخلاصها أن تراجع دينها وتأخذه بصدق وعلم وقوة ، في حين يرى الأستاذ / المحمود أن أزمة الأمة في نهجها السلفي التقليدي المتحجّر ، والحل في نظره : أن تكتفي الأمة بمجموع الثوابت الدينية المعروفة والمحدودة ، ثم تنطلق بعد ذلك لخلاصها نحو الليبرالية : العالم الواسع المفتوح .
إن الأمة الإسلامية بكل هوانها وذلها وتخلفها لا ينفك عنها ـ في الجملة ـ وصف الخيرية ، فإن الفرقة الناجية فيها ومنها ، ومع ذلك فإن من يحمل في قلبه كلمة التوحيد الخالصة الصادقة مع تقصيره ، فهو - قطعاً وبلا أدنى شك أو تردد ـ أفضل ممن لا يحملها مهما كانت إنجازاته الحضارية ؛ إذ إن التقدم المادي ـ مهما بلغ من التفوق ـ لا يغني عن التوحيد ، فقد ذمّ الله أمماً في التاريخ وأهلكهم بسبب الشرك ، رغم تقدمهم الحضاري ، في حين امتدح نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ووصفهم بالخيرية ، رغم التخلف المادي الذي كانوا يحيونه في ذلك الوقت ، حتى إن أحدهم يسجد فتنكشف عورته ، ليس عنده من الأكسية السابغة ما يستر به عورته من شدة الفقر ، ويسعى أحدهم فلا يجد خاتماً من حديد يقدمه مهراً لامرأة ، مع ذلك يزكيهم الله تعالى ويصفهم بالخيرية .
ولقد وجهنا صلى الله عليه وسلم في أواخر الزمان حيث تنحط الأمة ، وتصبح محطّاً للأطماع والاستخفاف أن نتمسك بالكتاب والسنة ، لا أن نتمسك بالليبرالية ونجاهد في سبيلها ، ولو كانت حقاً لأوضحه لنا صلى الله عليه وسلم ، فقد تركنا على المحجة البيضاء النقية التي لا شك فيها ولا ريب .
د/ عدنان حسن باحارث
جامعة أم القرى
www.bahareth.org
*تربيتنا