.. بقلم / د. عدنان باحارث
الحمد لله الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على إمام المربين ، وسيد المعلمين ، رسول الله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
يختلط مفهوم التربية بمفهوم التعليم ، فيقوم كل واحد منهما مكان الآخر في تعبيرات التربويين ، ولكن تأتي إشكالية التفريق بينهما حين يُذكران سويا ؛ إذ لا بد حينئذٍ من التفريق بينهما في معنى ، وإلا أصبح لغوا وتكرارا لا معنى له 0
وابتداء فإن مفهوم التعليم يُعني بالناحية العقلية عند الإنسان دون باقي جوانب شخصيته ، وأما التربية فإنها تشمل في مفهومها كل جوانب الشخصية الإنسانية ، بما فيها الجانب العقلي ، فهي - بهذا المفهوم – تشمل التعليم ، وتستوعب مفهومه .
إن العملية التعليمية لا تتجاوز في أدائها قدر جهد إيصال المعلومة العلمية إلى ذهن المتلقي بصورة صحيحة وناجحة ؛ بحيث يفهمها المتلقي فهما صحيحا ، ويتمكّن من استرجعها والتعبير عنها بنجاح ، وإلى هذا الحد من الأداء بين المرسل والمتلقي : تنتهي مهمة وزارات التربية والتعليم في عالمنا الإسلامي ؛ فإن المعلم لا يطالب بأكثر من ذلك مع التلاميذ.
وأما تطبيق التلميذ لهذه المعلومة ، والتزامه بها في واقع حياته ، وتقيده بها في سلوكه العام ، فهذا خارج مسؤولية المعلمين ، وخارج نطاق صلاحية وزارات التربية والتعليم ؛ إذ إن مهمتها تنحصر في جودة الإرسال عند المعلمين ، وسلامة الاستقبال عند الطلاب، ثم تُختم العملية التعليمية بخاتم النجاح على أوراق الاختبارات .
ولتوضيح هذه الفكرة بصورة عملية لنـتساءل : هل سبق لجهة تعليمية أن حرمت طالبا ناجحا من شهادته ؛ لكونه لم يطبق في واقع حياته العامة معلومة واجبة تلقاها في المؤسسة التعليمية ؟
لقد تورط كثير من طلابنا في كبائر سلوكية وخلقية وفكرية ، ومع ذلك نجحوا في أدائهم التعليمي ،ووقفت المؤسسات التعليمية التي ينتمون إليها عاجزة عن تقديم شيء ذي بال في إصلاح سلوكهم الخلقي ، أو تعديل فكرهم المنحرف ، مكتفية بحشو أذهانهم بمعلومات بلا واقع ولا تطبيق ، ثم تزويدهم في نهاية العام الدراسي بشهادات التخرج .
إن هذه ليست دعوة تحريضية لمجرد وضع أنظمة عقابية أو تفعيل ما هو موجود منها ؛ فإن العقوبات تأتي كالكي في آخر وسائل العلاج ، وإنما هي دعوة للتأمل بين مفهومي التربية والتعليم ، حين اقتصر مفهوم التعليم عند حد إيصال المعلومة العلمية إلى أذهان التلاميذ ، في حين يتجاوز مفهوم التربية هذا الحد القاصر ليربي التلاميذ على هذه المعلومة في واقع حياتهم العملية ؛ بحيث تتخطى التربية حد المعرفة إلى مستوى التطبيق الواقعي ، وتصبح المؤسسة التعليمية مسؤولة عن التطبيق بقدر مسؤوليتها عن التعليم ، وهذا ما لم تصل إليه بعد مؤسساتنا التعليمية في عالمنا العربي والإسلامي ، إلا أن تكون نوادر مشرقة يسيرة في واقع تربوي كبير يعج بالقصور والآلام .
إن الجهاز المسؤول عن السلوك التطبيقي عند الإنسان هو القلب وليس الدماغ ؛ فإن القلب هو المضغة التي بها صلاح الإنسان وبها فساده ، فهو بالنسبة لجوارح الإنسان كالملك للرعية ، الكل تحت إمرته وسطوته ، لا يتحركون إلا ، وفق إرادته ، وأما الدماغ فهو جهاز استقبال المعلومات ، وفهمها ، وتخزينها ، واسترجاعها ، وأما الانقياد لهذه المعلومة ، والعمل بمضمونها فهي مهنة القلب ملك الأعضاء ، فكم من أناس في هذا العالم حصلوا على معلومات علمية صحيحة وكثيرة ، ففهموها تماما ، ومع ذلك لم يعملوا بها ، لكونها بقية معلومات ذهنية لم تنزل بعد إلى القلب للتطبيق والممارسة ، وما أدل على ذلك من حال أكثر المستشرقين ، الذين لم تنقصهم المعلومة الصحيحة ، وإنما نقصهم تطبيق المعلومة والعمل بها ، فبقية العلوم الإسلامية عندهم مجرد معارف ذهنية ، لا تتجاوز حد المتعة العقلية .
إن المسافة بين القلب والدماغ قريبة جدا بالمقاييس الحسابية اليدوية ، ولكنها في الحقيقة الواقعية أطول مسافة في الدنيا ، وهي عين المسافة الشاسعة بين التربية والتعليم ، فما أبعد المسافة بين المعرفة العقلية المجردة ، وبين اليقين بها ، والعمل بموجبها .
إن المهمة التربوية في تحويل المعلومات العلمية إلى سلوكيات عملية واقعية : مهمة عسيرة وشاقة ، إلا أنها ليست مستحيلة ، فقد تكفّلت بها وسائل التربية الإسلامية ، فالقدوة مثلا ، حين تتجسد بصدق في واقع المربين ، فإنها تفعل فعلها في نفوس المتعلمين ، وتحول المعلومة في عقولهم من كونها مجرد معرفة ذهنية هشة إلى معرفة قلبية يقينية ، ينطبع بها السلوك واقعا عمليا حيا ، في حين لو تخلفت القدوة عن القيام بدورها التربوي : أصبحت عملية التربية مهمة عسيرة للغاية ، وربما أصبحت مستحيلة إذا تخلّفت باقي وسائل التربية الإسلامية ، وأعسر من ذلك وأصعب حين تتخلف باقي مؤسسات المجتمع عن القيام بواجباتها التربوية ، فعندها قد يُعذر النشء على قبيح سلوكهم .
د/ عدنان باحارث
جامعة أم القرى
*تربيتنا
الحمد لله الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على إمام المربين ، وسيد المعلمين ، رسول الله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
يختلط مفهوم التربية بمفهوم التعليم ، فيقوم كل واحد منهما مكان الآخر في تعبيرات التربويين ، ولكن تأتي إشكالية التفريق بينهما حين يُذكران سويا ؛ إذ لا بد حينئذٍ من التفريق بينهما في معنى ، وإلا أصبح لغوا وتكرارا لا معنى له 0
وابتداء فإن مفهوم التعليم يُعني بالناحية العقلية عند الإنسان دون باقي جوانب شخصيته ، وأما التربية فإنها تشمل في مفهومها كل جوانب الشخصية الإنسانية ، بما فيها الجانب العقلي ، فهي - بهذا المفهوم – تشمل التعليم ، وتستوعب مفهومه .
إن العملية التعليمية لا تتجاوز في أدائها قدر جهد إيصال المعلومة العلمية إلى ذهن المتلقي بصورة صحيحة وناجحة ؛ بحيث يفهمها المتلقي فهما صحيحا ، ويتمكّن من استرجعها والتعبير عنها بنجاح ، وإلى هذا الحد من الأداء بين المرسل والمتلقي : تنتهي مهمة وزارات التربية والتعليم في عالمنا الإسلامي ؛ فإن المعلم لا يطالب بأكثر من ذلك مع التلاميذ.
وأما تطبيق التلميذ لهذه المعلومة ، والتزامه بها في واقع حياته ، وتقيده بها في سلوكه العام ، فهذا خارج مسؤولية المعلمين ، وخارج نطاق صلاحية وزارات التربية والتعليم ؛ إذ إن مهمتها تنحصر في جودة الإرسال عند المعلمين ، وسلامة الاستقبال عند الطلاب، ثم تُختم العملية التعليمية بخاتم النجاح على أوراق الاختبارات .
ولتوضيح هذه الفكرة بصورة عملية لنـتساءل : هل سبق لجهة تعليمية أن حرمت طالبا ناجحا من شهادته ؛ لكونه لم يطبق في واقع حياته العامة معلومة واجبة تلقاها في المؤسسة التعليمية ؟
لقد تورط كثير من طلابنا في كبائر سلوكية وخلقية وفكرية ، ومع ذلك نجحوا في أدائهم التعليمي ،ووقفت المؤسسات التعليمية التي ينتمون إليها عاجزة عن تقديم شيء ذي بال في إصلاح سلوكهم الخلقي ، أو تعديل فكرهم المنحرف ، مكتفية بحشو أذهانهم بمعلومات بلا واقع ولا تطبيق ، ثم تزويدهم في نهاية العام الدراسي بشهادات التخرج .
إن هذه ليست دعوة تحريضية لمجرد وضع أنظمة عقابية أو تفعيل ما هو موجود منها ؛ فإن العقوبات تأتي كالكي في آخر وسائل العلاج ، وإنما هي دعوة للتأمل بين مفهومي التربية والتعليم ، حين اقتصر مفهوم التعليم عند حد إيصال المعلومة العلمية إلى أذهان التلاميذ ، في حين يتجاوز مفهوم التربية هذا الحد القاصر ليربي التلاميذ على هذه المعلومة في واقع حياتهم العملية ؛ بحيث تتخطى التربية حد المعرفة إلى مستوى التطبيق الواقعي ، وتصبح المؤسسة التعليمية مسؤولة عن التطبيق بقدر مسؤوليتها عن التعليم ، وهذا ما لم تصل إليه بعد مؤسساتنا التعليمية في عالمنا العربي والإسلامي ، إلا أن تكون نوادر مشرقة يسيرة في واقع تربوي كبير يعج بالقصور والآلام .
إن الجهاز المسؤول عن السلوك التطبيقي عند الإنسان هو القلب وليس الدماغ ؛ فإن القلب هو المضغة التي بها صلاح الإنسان وبها فساده ، فهو بالنسبة لجوارح الإنسان كالملك للرعية ، الكل تحت إمرته وسطوته ، لا يتحركون إلا ، وفق إرادته ، وأما الدماغ فهو جهاز استقبال المعلومات ، وفهمها ، وتخزينها ، واسترجاعها ، وأما الانقياد لهذه المعلومة ، والعمل بمضمونها فهي مهنة القلب ملك الأعضاء ، فكم من أناس في هذا العالم حصلوا على معلومات علمية صحيحة وكثيرة ، ففهموها تماما ، ومع ذلك لم يعملوا بها ، لكونها بقية معلومات ذهنية لم تنزل بعد إلى القلب للتطبيق والممارسة ، وما أدل على ذلك من حال أكثر المستشرقين ، الذين لم تنقصهم المعلومة الصحيحة ، وإنما نقصهم تطبيق المعلومة والعمل بها ، فبقية العلوم الإسلامية عندهم مجرد معارف ذهنية ، لا تتجاوز حد المتعة العقلية .
إن المسافة بين القلب والدماغ قريبة جدا بالمقاييس الحسابية اليدوية ، ولكنها في الحقيقة الواقعية أطول مسافة في الدنيا ، وهي عين المسافة الشاسعة بين التربية والتعليم ، فما أبعد المسافة بين المعرفة العقلية المجردة ، وبين اليقين بها ، والعمل بموجبها .
إن المهمة التربوية في تحويل المعلومات العلمية إلى سلوكيات عملية واقعية : مهمة عسيرة وشاقة ، إلا أنها ليست مستحيلة ، فقد تكفّلت بها وسائل التربية الإسلامية ، فالقدوة مثلا ، حين تتجسد بصدق في واقع المربين ، فإنها تفعل فعلها في نفوس المتعلمين ، وتحول المعلومة في عقولهم من كونها مجرد معرفة ذهنية هشة إلى معرفة قلبية يقينية ، ينطبع بها السلوك واقعا عمليا حيا ، في حين لو تخلفت القدوة عن القيام بدورها التربوي : أصبحت عملية التربية مهمة عسيرة للغاية ، وربما أصبحت مستحيلة إذا تخلّفت باقي وسائل التربية الإسلامية ، وأعسر من ذلك وأصعب حين تتخلف باقي مؤسسات المجتمع عن القيام بواجباتها التربوية ، فعندها قد يُعذر النشء على قبيح سلوكهم .
د/ عدنان باحارث
جامعة أم القرى
*تربيتنا