د.عدنان حسن باحارث
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد .. فقد كثر استخدام مصطلح ( الإسلام السياسي ) بصورة واسعة في العقود الثلاثة الأخيرة ، باعتباره علامة على كلِّ من يعتقد أن شريعة الإسلام تتضمَّن نظاماً سياسياً يجب على المسلمين العمل به ، ويُوسَم بوصف ( الأصولية ) إذا أضاف إلى معتقده هذا : الشروع في ممارسة العمل السياسي ، ويجمع مصطلح ( الإسلاميون ) الجميع ضمن الاتجاهات التي تتبنى الإسلام منهجاً للحياة ، وتعتبره مرجعاً لهم في كلِّ شؤونها ، بما في ذلك المسألة السياسية .
ورغم أن مصطلح ( الإسلام السياسي ) حديث التداول الإعلامي الأكاديمي والسياسي ، غير أنه من حيث الممارسة الواقعية يرجع إلى عقود مضت ، وبالتحديد في أواخر عهد الدولة العثمانية ، التي كانت – بكلِّ ما تحمله من نواقص وقصور – تعبِّر بصورة ما عن الإسلام ، بما في ذلك نظامه السياسي .
وبغياب سلطان الدولة العثمانية السياسي والديني ، سواء كان ذلك بسبب ضعفها في آخر أيامها ، أو بسبب سقوطها وتفكُّكها ، ومن ثمَّ تخلِّيها عن مقام الخلافة الإسلامية ؛ فقد قامت العديد من حركات البعث الإسلامي ، التي حاولت ملء الفراغ الديني وترميم بنيانه السياسي ، من خلال محاولة النهوض بالأمة من جديد ، فقد قامت العديد من الحركات الإسلامية للاضطلاع بهذا الدور الكبير ، وأولها الحركة الإصلاحية التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية ، وما أعقبها بعد ذلك من الحركات الأخرى - في القديم والحديث - التي قامت لسدِّ الهوة الكبيرة التي أحدثها ضعف الدولة العثمانية وغيابها ، إضافة إلى الجهود الفردية والجماعية الصغيرة ، التي قام بها علماء ذلك العصر ، ودوَّنوه مقيَّداً في سجلاتهم .
وعلى الرغم من الاستنكار الشديد ، الذي يعبِّر عنه المنضوون ضمن الاتجاهات الليبرالية والعلمانية ، على اختلاف توجُّهاتهم السياسية ، والتي قد تصل - في بعض تعبيراتهم - حدَّ التجريم ، في حقِّ من يصفونهم بجماعات الإسلام السياسي ؛ لكونهم يقحمون الدين في السياسة ، فيستغلُّون طبيعة العاطفة الدينية السائدة عند المسلمين في أغراض سياسية وحزبية ، لا علاقة لجوهر الدين بها حسب تصوُّرهم .
والعجيب أن هذه الاتجاهات – رغم إدِّعاءاتها هذه – تستخدم كلَّ ما يمكن أن يعِّزز مكانها ، بما في ذلك الدين ومؤسساته ، وما كانوا ليعرضوا عن سبيل – أياً كان – يدعم سلطانهم ، ويؤيِّد مكانهم ، حتى إن بعض الاشتراكيين - بتوجُّهاتهم اليسارية الحمراء – حاولوا تبنِّي شيئاً من الفكرة الإسلامية ، فألبسوها بعض آرائهم الاقتصادية ، حتى بدت أطروحاتهم الملفَّقة مضحكة ومخجلة .
ومن المفارقات العجيبة : إن نابليون بونابرت ، الزعيم الفرنسي الجبَّار ، حين غزا مصر ، لم يتورَّع – رغم كونه نصرانياً – عن استخدام الدين الإسلامي - آيات وأحاديث - في التمكين لاستعماره الباطل لبلاد المسلمين ، باعتباره ولي أمرهم الشرعي ! وقد سجَّل الجبرتي في تاريخه حجم الأثر الذي خلَّفه نابليون في بعض البسطاء والمغفَّلين ، حين خاطبهم بالقرآن والسنة ، فإذا ساغ لنابليون - الذي ينتمي إلى دولة تفرض العلمانية فرضاً - أن يستخدم الدين الإسلامي بهذه الوقاحة والفجاجة ، فأنى لعلماني أو ليبرالي أو قومي أو غيرهم - من المنتمين إلى عموم المسلمين - أن يعرض عن هذه الوسيلة الإنسانية المؤثرة ، بحجَّة الترفع بالدين عن معترك العمل السياسي ؟!
والحقيقة التي تبدو واضحة من سلوك رجالات الاتجاهات العلمانية والليبرالية عموماً : أنهم عاجزون وليسوا متورِّعين عن استخدام الوسيلة الدينية في الترويج لاتجاهاتهم الفكرية والسياسية ؛ وذلك للتنافر الكبير بين المضامين الإسلامية التي يمكن أن يخاطبوا بها الجماهير ، وبين والاتجاهات الفكرية الحادَّة التي يدعون إليها ، مما يستحيل معه الجمع بينهما في شخصية سياسية مقبولة اجتماعياً ، كما أن العداء التاريخي المستميت بين الاتجاهات العلمانية والفكرة الدينية برمَّتها ، هي الأخرى تلحُّ عليهم بضرورة تحجيم دور الدين في الحياة العامة ، فضلاً عن التفكير في تفعيله في الحياة السياسية ، ليبقى محدوداً ضمن التجربة الشخصية الخاصَّة ، ومؤسسات العبادة الرسمية .
وللوهلة الأولى يعرف المتأمل - واقعياً وتاريخياً - أن الفكرة العلمانية قامت في أصلها على أنقاض الدين : رافضة له ، أو عازلة له في بعض أحوالها ، وربما مستخدمة له في بعض الأحيان من خلال مؤسساته الموالية ، أو متفاهمة معه ، كما هو في حالة الدولة الإسرائيلية البغيضة ، فكيف يمكن أن يكون الدين – لا سيما الدين الإسلامي – أداة طيِّعة للترويج للفكرة العلمانية أو الليبرالية ؟
إذا تقرر هذا فلن يبقى حينئذٍ أمام العلمانيين من وسيلة لاستخدام الدين الإسلامي للترويج لاتجاهاتهم العلمانية إلا خيار التلبُّس بالدين ظاهراً على نهج النفاق ، فما عساهم يقولون في خطابهم الناس ؟ هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن الخطاب الإسلامي حزمة معارف وعلوم ومفاهيم ، لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال معالجة الدرس العلمي ، والتعرُّض بسعة وعمق للتراث الإسلامي ، وإلا خرج الخطاب هزيلاً ممجوجاً ، وهذا لا شكَّ مشوار طويل ، ومطلب عسير على علماني متعجِّل ، يمتطي صهوة القنوات الفضائية المفتوحة ، والمقالات الصحفية والإلكترونية .
ولئن كان بعضهم قد تزوَّد بشيء من الثقافة الإسلامية ضمن ظرف ما من حياته ، أو اطلع عليها حديثاً عبر ما تتيحه شبكات الإنترنت ، وما تسمح به الأقراص المدمجة ؛ فإن غالب خطابهم الديني الموجَّه للجمهور – إن لم يكن كلُّه - منحصر في إثارة الشبه الفكرية ، التي لا تبني شيئاً في الجماهير ، بقدر ما تثير الشكوك والريبة ، وهذا النوع من الخطاب لا يمكن استخدامه أداة دينية للترويج للاتجاهات العلمانية ، وإنما هو مجيَّر لإضعاف الفكرة الدينية .
ومع ذلك فأن الاتجاهات العلمانية والليبرالية المتلبِّسة بالخطاب الإسلامي – إن عزمت على هذا الخيار الغبي - تصبح في غاية الهزال والسخرية ، حينما تقف عاجزة تماماً عن التعبير عن الفكرة الإسلامية من خلال التجربة الشخصية للممارسة التعبُّدية والسلوكية ، التي تأتي ضرورة ملازمة لأي خطاب ديني مؤثر ؛ إذ يستحيل التعبير بمنطقية عن التجربة الدينية من خلال مجرَّد التوصيف الذهني ، دون التعرُّض الصادق للممارسة الدينية ، وخوض تجربتها الروحية ، ضمن مناهج تعبُّدية ، والتزامات خلقية وسلوكية ، لأن التديُّن تجربة ممارسة ، وليست فكرة للوصف ، ومثل هذه التجربة الدينية ، لو تعرَّض لها علماني شارد ، فخاض شيئاً من مناهجها التعبُّدية ، والتزاماتها السلوكية ، فقلَّ أن يخرج بلا أثر إيجابي ، ولا يبعد كثيراً أن يتحوَّلاً إسلامياً ، أو تقلُّ في حسِّه المعاداة للفكرة الإسلامية على أقلِّ تقدير ، وهذا قطعاً ما لا يريده الاتجاه العلماني بكلِّ أطيافه .
ومن أجل هذه الحيثيات في التعامل مع المسألة الدينية : أراد العلمانيون تحييد الدين خارج نطاق التنافس السياسي ، وذلك بتحريم قيام أحزاب سياسية على أساس ديني ، وتجريم من يخاطب به الجماهير ؛ لأنه يمثل أداة تفوُّق مؤثرة في الشارع العربي ، وهم في واقعهم عاجزون عن استخدامها بكفاءة ، وليسوا – في حقيقتهم - مترفِّعين بالدين عن المعترك السياسي كما يزعمون ؛ فإن التجارب الواقعية أثبتت أنهم لا يقدِّسون شيئاً .
إن من الحقائق الإسلامية الكبرى ، التي لابد أن تحضر في مخيِّلة المسلم ، ضمن صميم معتقده ، حين يتعاطى مع المسائل الدينية : أن الله تعالى هو خالق الكون ، وهو مالك الملك ، وهذا يقتضي بالضرورة أن يكون هو وحده - سبحانه - صاحب السلطان المطلق على كلِّ مخلوقاته ، فلا يعزب عن ذلك شيء ، بما في ذلك الإنسان ، فحرية الاختيار المحدودة التي منحها الله للإنسان : لا تخرج بحال من الأحوال عن إرادة الله الشرعية ، التي ضمنها شرائعه التي أنزلها على رسله الكرام ، وألزم المكلَّفين أن يدينوا بها ، وجعلها موضوع سؤاله يوم القيامة .
والإسلاميون – على اختلاف أطيافهم – يعتقدون هذه العقيدة ، فالله تعالى يحكم الزمان كلَّه ، ويحكم أيضاً المكان كلَّه ، فلا يعزب عن سلطانه شيء مهما دقَّ أو عظُم ، بما في ذلك : العقائد ، والعبادات ، والمعاملات ، وما يتفرَّع عنها من الأحكام التفصيلية ، التي أنزلها تشريعات ليعبِّد بها المكلَّفين ، فتكون محكَّات لصدق إيمانهم ، ومؤشرات واضحة لدرجة إذعانهم ، فقد هدَّدهم بقوله : (...وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) ، وقوله : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ) ، فالله تعالى له أحكام ملزمة للمكلَّفين جميعاً ، بما فيهم صاحب الرسالة الخاتمة : محمد صلى الله عليه وسلم : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا...) ، فالدين في المفهوم الإسلامي ليس مجرَّد انتماء صوري ، أو انتقاء شخصي ؛ وإنما هو طاعة ، وانقياد ، وذلٌّ ، وهو أيضاً حكم وسلطان ، فالدين انضواء تحت سلطان الله تعالى ، والعمل ظاهراً وباطناً بمراده الشرعي ، ضمن حدود الاستطاعة ، والقدرة المتاحة ، وهذا هو مقتضى الرضا بالله رباً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، وبالإسلام ديناً .
وبناء على ذلك : لا يسوغ بحال أن يحكم الله تعالى بشريعته المنزلة : مناهج العبادة ، كالصلاة والصيام والحج ، ويضبط العلاقة الزوجية ، ويوزِّع أنصبة الإرث ، ويسنُّ السنن السلوكية للباس ، والزينة ، وقضاء الحاجة ، ونحوها من المسائل الشرعية التي لا يختلف في مشروعيتها اثنان ، ثم بعد ذلك يترك للمكلَّفين مجال السياسة ليختاروا لأنفسهم ما شاءوا ! وكأنه تبعيض لسلطان الله تعالى ، وتجزئة لشريعته ؛ فيقبل حكمه في قضايا ، ويرفض في قضايا أخرى .
ولقد عبَّرت الشخصية النبوية الخاتمة بقوة عن التداخل المطلق ، والامتزاج الكامل ، بين ما هو ديني وما هو دنيوي ، بين ما هو عبادة ، وبين ما هو سياسة ، حتى غدت فكرة الفصل بين هذه المتغيِّرات مستحيلة في حقِّ الشخصية النبوية ، التي نصبها الله تعالى أنموذجاً للمكلَّفين ، وعلى هذا كان نهج الخلفاء الراشدين ، يمزجون بين الدين والسياسة ، ضمن ما يسمى بالسياسة الشرعية ، التي حفل بها التراث الإسلامي ، والمبنية على نصوص شرعية ، وتطبيقات نبوية .
وليس في حديث : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) مدخل لتسويغ الفكرة العلمانية ، بفصل الدين عن الدنيا ؛ وإنما صدر ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر على سبيل الرأي الشخصي في شأن تلقيح النخل ، وليس على سبيل التشريع كما فهم الصحابة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من بيئة تجارية قليلة الخبرة بالزراعة ، فالحديث ورد لإقرار الخبرات الإنسانية المتواترة ، والتفريق بين ما يقوله صلى الله عليه وسلم تشريعاً ، وبين ما يقوله رأياً ، ولم يرد الحديث لوضع فاصل ذهني بين ما هو ديني وما هو دنيوي ، وإلا فأين تصنَّف أبواب الفقه الكثيرة الخاصة بأحكام الزروع والثمار ، أهي من أمر الدين أم من أمر الدنيا ؟ ومع ذلك فإن المباح – الذي يريد أن يتوسَّع فيه المبطلون – هو أيضاً حكم شرعي ، فحكم الإباحة خاصيَّة إلهية ، تماماً كحكم التحريم ، ليست متروكة للناس ليتوسَّعوا فيها أو يضيِّقوا .
إن محاولة الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي في المفهوم الإسلامي : أشبه ما تكون بمحاولة رسم فاصل بين روح الإنسان وجسده ، وإلا فأين الفاصل بين الدين والدنيا حين يعتبر الشرع المداعبة بين الزوجين وجماعهما عبادة يؤجران عليها ؟ وأبعد من هذا وأبلغ هو اختفاء هذا الحدِّ الفاصل المزعوم تماماً ، وتلاشي تصوُّر وجوده بالكلية : حينما يسنُّ الشارع الحكيم ذكر لفظ الجلالة ( بسم الله ) عندما يأتي الرجل أهله ! فأين الفاصل بين الدين والدنيا في نقطة جمعت أعظم وأرفع ما في الدين ( ذكر الإله جلَّ وعلا ) مع أعمق وألصق ما في الدنيا (القضية الجنسية ) ؟ فالفكرة العلمانية برمَّتها تتعارض بصورة صارخة مع الفكرة الإسلامية ، ولا تتوافق معها بحال .
ولهذا فإن مطالبة الإسلاميين المعاصرين بدين لا سياسة فيه ، بحيث يُؤذن فيه لله تعالى بحكم حياة الإنسان الخاصة ، ويُمنع – سبحانه – من حكم الحياة الاجتماعية العامة ، فإنها دعوة تتضمن إنتاج إسلام علماني ؛ لأن الإسلام غير السياسي هو الإسلام العلماني في ألطف صوره .
إن نظام الإسلام السياسي لا يقتصر على تنظيم علاقات محدودة بين الراعي والرعية – كما يظن بعضهم – وإنما يشمل : القضاء ، وسنَّ النظم ، واختيار الحاكم ، وضبط الحقوق ، وإقامة الحدود ، وتنظيم الجيش ، وحفظ البلاد ، وإقامة العلاقات الدولية ، وغيرها من المصالح العامة المندرجة ضمن السياسة الشرعية المدوَّنة في الفقه الإسلامي ، فتعطيل هذه المصالح الشرعية بحجَّة أنه إسلام سياسي : هو تعطيل لجزء مهم من مصالح المسلمين الحيوية ، التي يدينون لله تعالى بها .
وأما الزعم بأن الأنظمة السياسية الوضعية تقوم بهذه المصالح المشار إليها ، دون الحاجة إلى الرجوع إلى تشريعات دينية ، هو في الحقيقة لا يعدو أن يكون تسوية ظالمة بين ما أنزله الله من التشريعات لعبيده ، وبين ما وضعه المشرِّعون من التشريعات لشعوبهم ، بل هي في حقيقتها تسوية باطلة بين الخالق والمخلوق ، فعلى الرغم من تشابه العناوين بين التشريعين - المنزَّل والوضعي - فأنى لهما أن يتطابقا ، فضلاً عن أن يتماثلا : ( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .
إن هذه المعاني البديهية عند الإسلاميين يصعب إيصالها إلى أذهان الشاردين من العلمانيين والليبراليين ، فضلاً عن أن يفهموها على صورتها الحقيقية ، وأبعد من ذلك أن يصلوا إلى درجة ما من القناعة بها ، ففي خضم هذه المفارقات بين الفريقين المتنافرين : يريد العلمانيون – بما أوتوه من وسائل التمكين - أن يحاصروا نشاط الإسلاميين ضمن نطاق محدود من التشريعات الدينية ، بما لا يتجاوز الأحوال الشخصية والتعبُّدية ، والشأن الفردي الخاص ، بحيث تترك الحياة العامة – بما فيها النشاط السياسي – للإدارة العلمانية ، وعندها فقط يصبح الإسلاميون معتدلين !! فمن تراه من الإسلاميين يجرؤ على إسعاد العلمانيين بالموافقة على هذه التجزئة الدينية ، ومن تراه منهم مخوَّل بمثل هذا ، والله تعالى يوجِّه نبيه صلى الله عليه وسلم ويحذره بقوله : (... وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ...) ؟
ولا يُفهم من هذا أن تعاطي الإسلاميين مع جميع القضايا السياسية وممارساتهم لها : هي عين السياسة الشرعية التي أرادها الله تعالى ؛ بمعنى أن اختياراتهم السياسية هي شرع الله الذي لا يجوز العدول عنه ؛ ذلك لأن إصابة مراد الله تعالى في المسائل الاجتهادية غيب يستحيل التكهُّن به ، وإنما يكون الجزم بذلك في مسائل الإجماع ، حينما تجتمع الأمة على رأي ما ؛ فإنه الحق قطعاً ، وهو الذي لا يجوز العدول عنه باعتقاد أو عمل ، ومع ذلك تبقى للاختيارات الاجتهادية – التي لم يسبق فيها إجماع - صبغتها الشرعية ، ويبقى لها اعتبارها واحترامها ، ما دام أنها مستنبطة من نصوص الشرع ، قد أفرغ المجتهد وسعه في إصابة الحق وفق الأصول الشرعية ، وإنما يفقد الاختيار الاجتهادي اعتباره إذا لم يكن له نصيب من نصوص الشرع ، ولم يكن له حظٌ من النظر .
وليس في هذا الإقرار بحقِّ الاجتهاد السياسي فيما لا إجماع فيه : مدخل للمبطلين ، ممن لا يرون للشرع دخل في المسألة السياسة أصلاً ، فهم وإن اجتهدوا في اختياراتهم السياسية فصادفوا الحق : فقد أثموا ، في حين يؤجر المجتهد - بكلِّ حال - أصاب أو أخطأ ، ما دام أنه من الشرع الحنيف ينطلق ، ورضا الله بإصابة الحق يبتغي .
*لجينيات
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد .. فقد كثر استخدام مصطلح ( الإسلام السياسي ) بصورة واسعة في العقود الثلاثة الأخيرة ، باعتباره علامة على كلِّ من يعتقد أن شريعة الإسلام تتضمَّن نظاماً سياسياً يجب على المسلمين العمل به ، ويُوسَم بوصف ( الأصولية ) إذا أضاف إلى معتقده هذا : الشروع في ممارسة العمل السياسي ، ويجمع مصطلح ( الإسلاميون ) الجميع ضمن الاتجاهات التي تتبنى الإسلام منهجاً للحياة ، وتعتبره مرجعاً لهم في كلِّ شؤونها ، بما في ذلك المسألة السياسية .
ورغم أن مصطلح ( الإسلام السياسي ) حديث التداول الإعلامي الأكاديمي والسياسي ، غير أنه من حيث الممارسة الواقعية يرجع إلى عقود مضت ، وبالتحديد في أواخر عهد الدولة العثمانية ، التي كانت – بكلِّ ما تحمله من نواقص وقصور – تعبِّر بصورة ما عن الإسلام ، بما في ذلك نظامه السياسي .
وبغياب سلطان الدولة العثمانية السياسي والديني ، سواء كان ذلك بسبب ضعفها في آخر أيامها ، أو بسبب سقوطها وتفكُّكها ، ومن ثمَّ تخلِّيها عن مقام الخلافة الإسلامية ؛ فقد قامت العديد من حركات البعث الإسلامي ، التي حاولت ملء الفراغ الديني وترميم بنيانه السياسي ، من خلال محاولة النهوض بالأمة من جديد ، فقد قامت العديد من الحركات الإسلامية للاضطلاع بهذا الدور الكبير ، وأولها الحركة الإصلاحية التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية ، وما أعقبها بعد ذلك من الحركات الأخرى - في القديم والحديث - التي قامت لسدِّ الهوة الكبيرة التي أحدثها ضعف الدولة العثمانية وغيابها ، إضافة إلى الجهود الفردية والجماعية الصغيرة ، التي قام بها علماء ذلك العصر ، ودوَّنوه مقيَّداً في سجلاتهم .
وعلى الرغم من الاستنكار الشديد ، الذي يعبِّر عنه المنضوون ضمن الاتجاهات الليبرالية والعلمانية ، على اختلاف توجُّهاتهم السياسية ، والتي قد تصل - في بعض تعبيراتهم - حدَّ التجريم ، في حقِّ من يصفونهم بجماعات الإسلام السياسي ؛ لكونهم يقحمون الدين في السياسة ، فيستغلُّون طبيعة العاطفة الدينية السائدة عند المسلمين في أغراض سياسية وحزبية ، لا علاقة لجوهر الدين بها حسب تصوُّرهم .
والعجيب أن هذه الاتجاهات – رغم إدِّعاءاتها هذه – تستخدم كلَّ ما يمكن أن يعِّزز مكانها ، بما في ذلك الدين ومؤسساته ، وما كانوا ليعرضوا عن سبيل – أياً كان – يدعم سلطانهم ، ويؤيِّد مكانهم ، حتى إن بعض الاشتراكيين - بتوجُّهاتهم اليسارية الحمراء – حاولوا تبنِّي شيئاً من الفكرة الإسلامية ، فألبسوها بعض آرائهم الاقتصادية ، حتى بدت أطروحاتهم الملفَّقة مضحكة ومخجلة .
ومن المفارقات العجيبة : إن نابليون بونابرت ، الزعيم الفرنسي الجبَّار ، حين غزا مصر ، لم يتورَّع – رغم كونه نصرانياً – عن استخدام الدين الإسلامي - آيات وأحاديث - في التمكين لاستعماره الباطل لبلاد المسلمين ، باعتباره ولي أمرهم الشرعي ! وقد سجَّل الجبرتي في تاريخه حجم الأثر الذي خلَّفه نابليون في بعض البسطاء والمغفَّلين ، حين خاطبهم بالقرآن والسنة ، فإذا ساغ لنابليون - الذي ينتمي إلى دولة تفرض العلمانية فرضاً - أن يستخدم الدين الإسلامي بهذه الوقاحة والفجاجة ، فأنى لعلماني أو ليبرالي أو قومي أو غيرهم - من المنتمين إلى عموم المسلمين - أن يعرض عن هذه الوسيلة الإنسانية المؤثرة ، بحجَّة الترفع بالدين عن معترك العمل السياسي ؟!
والحقيقة التي تبدو واضحة من سلوك رجالات الاتجاهات العلمانية والليبرالية عموماً : أنهم عاجزون وليسوا متورِّعين عن استخدام الوسيلة الدينية في الترويج لاتجاهاتهم الفكرية والسياسية ؛ وذلك للتنافر الكبير بين المضامين الإسلامية التي يمكن أن يخاطبوا بها الجماهير ، وبين والاتجاهات الفكرية الحادَّة التي يدعون إليها ، مما يستحيل معه الجمع بينهما في شخصية سياسية مقبولة اجتماعياً ، كما أن العداء التاريخي المستميت بين الاتجاهات العلمانية والفكرة الدينية برمَّتها ، هي الأخرى تلحُّ عليهم بضرورة تحجيم دور الدين في الحياة العامة ، فضلاً عن التفكير في تفعيله في الحياة السياسية ، ليبقى محدوداً ضمن التجربة الشخصية الخاصَّة ، ومؤسسات العبادة الرسمية .
وللوهلة الأولى يعرف المتأمل - واقعياً وتاريخياً - أن الفكرة العلمانية قامت في أصلها على أنقاض الدين : رافضة له ، أو عازلة له في بعض أحوالها ، وربما مستخدمة له في بعض الأحيان من خلال مؤسساته الموالية ، أو متفاهمة معه ، كما هو في حالة الدولة الإسرائيلية البغيضة ، فكيف يمكن أن يكون الدين – لا سيما الدين الإسلامي – أداة طيِّعة للترويج للفكرة العلمانية أو الليبرالية ؟
إذا تقرر هذا فلن يبقى حينئذٍ أمام العلمانيين من وسيلة لاستخدام الدين الإسلامي للترويج لاتجاهاتهم العلمانية إلا خيار التلبُّس بالدين ظاهراً على نهج النفاق ، فما عساهم يقولون في خطابهم الناس ؟ هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن الخطاب الإسلامي حزمة معارف وعلوم ومفاهيم ، لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال معالجة الدرس العلمي ، والتعرُّض بسعة وعمق للتراث الإسلامي ، وإلا خرج الخطاب هزيلاً ممجوجاً ، وهذا لا شكَّ مشوار طويل ، ومطلب عسير على علماني متعجِّل ، يمتطي صهوة القنوات الفضائية المفتوحة ، والمقالات الصحفية والإلكترونية .
ولئن كان بعضهم قد تزوَّد بشيء من الثقافة الإسلامية ضمن ظرف ما من حياته ، أو اطلع عليها حديثاً عبر ما تتيحه شبكات الإنترنت ، وما تسمح به الأقراص المدمجة ؛ فإن غالب خطابهم الديني الموجَّه للجمهور – إن لم يكن كلُّه - منحصر في إثارة الشبه الفكرية ، التي لا تبني شيئاً في الجماهير ، بقدر ما تثير الشكوك والريبة ، وهذا النوع من الخطاب لا يمكن استخدامه أداة دينية للترويج للاتجاهات العلمانية ، وإنما هو مجيَّر لإضعاف الفكرة الدينية .
ومع ذلك فأن الاتجاهات العلمانية والليبرالية المتلبِّسة بالخطاب الإسلامي – إن عزمت على هذا الخيار الغبي - تصبح في غاية الهزال والسخرية ، حينما تقف عاجزة تماماً عن التعبير عن الفكرة الإسلامية من خلال التجربة الشخصية للممارسة التعبُّدية والسلوكية ، التي تأتي ضرورة ملازمة لأي خطاب ديني مؤثر ؛ إذ يستحيل التعبير بمنطقية عن التجربة الدينية من خلال مجرَّد التوصيف الذهني ، دون التعرُّض الصادق للممارسة الدينية ، وخوض تجربتها الروحية ، ضمن مناهج تعبُّدية ، والتزامات خلقية وسلوكية ، لأن التديُّن تجربة ممارسة ، وليست فكرة للوصف ، ومثل هذه التجربة الدينية ، لو تعرَّض لها علماني شارد ، فخاض شيئاً من مناهجها التعبُّدية ، والتزاماتها السلوكية ، فقلَّ أن يخرج بلا أثر إيجابي ، ولا يبعد كثيراً أن يتحوَّلاً إسلامياً ، أو تقلُّ في حسِّه المعاداة للفكرة الإسلامية على أقلِّ تقدير ، وهذا قطعاً ما لا يريده الاتجاه العلماني بكلِّ أطيافه .
ومن أجل هذه الحيثيات في التعامل مع المسألة الدينية : أراد العلمانيون تحييد الدين خارج نطاق التنافس السياسي ، وذلك بتحريم قيام أحزاب سياسية على أساس ديني ، وتجريم من يخاطب به الجماهير ؛ لأنه يمثل أداة تفوُّق مؤثرة في الشارع العربي ، وهم في واقعهم عاجزون عن استخدامها بكفاءة ، وليسوا – في حقيقتهم - مترفِّعين بالدين عن المعترك السياسي كما يزعمون ؛ فإن التجارب الواقعية أثبتت أنهم لا يقدِّسون شيئاً .
إن من الحقائق الإسلامية الكبرى ، التي لابد أن تحضر في مخيِّلة المسلم ، ضمن صميم معتقده ، حين يتعاطى مع المسائل الدينية : أن الله تعالى هو خالق الكون ، وهو مالك الملك ، وهذا يقتضي بالضرورة أن يكون هو وحده - سبحانه - صاحب السلطان المطلق على كلِّ مخلوقاته ، فلا يعزب عن ذلك شيء ، بما في ذلك الإنسان ، فحرية الاختيار المحدودة التي منحها الله للإنسان : لا تخرج بحال من الأحوال عن إرادة الله الشرعية ، التي ضمنها شرائعه التي أنزلها على رسله الكرام ، وألزم المكلَّفين أن يدينوا بها ، وجعلها موضوع سؤاله يوم القيامة .
والإسلاميون – على اختلاف أطيافهم – يعتقدون هذه العقيدة ، فالله تعالى يحكم الزمان كلَّه ، ويحكم أيضاً المكان كلَّه ، فلا يعزب عن سلطانه شيء مهما دقَّ أو عظُم ، بما في ذلك : العقائد ، والعبادات ، والمعاملات ، وما يتفرَّع عنها من الأحكام التفصيلية ، التي أنزلها تشريعات ليعبِّد بها المكلَّفين ، فتكون محكَّات لصدق إيمانهم ، ومؤشرات واضحة لدرجة إذعانهم ، فقد هدَّدهم بقوله : (...وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) ، وقوله : (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ) ، فالله تعالى له أحكام ملزمة للمكلَّفين جميعاً ، بما فيهم صاحب الرسالة الخاتمة : محمد صلى الله عليه وسلم : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا...) ، فالدين في المفهوم الإسلامي ليس مجرَّد انتماء صوري ، أو انتقاء شخصي ؛ وإنما هو طاعة ، وانقياد ، وذلٌّ ، وهو أيضاً حكم وسلطان ، فالدين انضواء تحت سلطان الله تعالى ، والعمل ظاهراً وباطناً بمراده الشرعي ، ضمن حدود الاستطاعة ، والقدرة المتاحة ، وهذا هو مقتضى الرضا بالله رباً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، وبالإسلام ديناً .
وبناء على ذلك : لا يسوغ بحال أن يحكم الله تعالى بشريعته المنزلة : مناهج العبادة ، كالصلاة والصيام والحج ، ويضبط العلاقة الزوجية ، ويوزِّع أنصبة الإرث ، ويسنُّ السنن السلوكية للباس ، والزينة ، وقضاء الحاجة ، ونحوها من المسائل الشرعية التي لا يختلف في مشروعيتها اثنان ، ثم بعد ذلك يترك للمكلَّفين مجال السياسة ليختاروا لأنفسهم ما شاءوا ! وكأنه تبعيض لسلطان الله تعالى ، وتجزئة لشريعته ؛ فيقبل حكمه في قضايا ، ويرفض في قضايا أخرى .
ولقد عبَّرت الشخصية النبوية الخاتمة بقوة عن التداخل المطلق ، والامتزاج الكامل ، بين ما هو ديني وما هو دنيوي ، بين ما هو عبادة ، وبين ما هو سياسة ، حتى غدت فكرة الفصل بين هذه المتغيِّرات مستحيلة في حقِّ الشخصية النبوية ، التي نصبها الله تعالى أنموذجاً للمكلَّفين ، وعلى هذا كان نهج الخلفاء الراشدين ، يمزجون بين الدين والسياسة ، ضمن ما يسمى بالسياسة الشرعية ، التي حفل بها التراث الإسلامي ، والمبنية على نصوص شرعية ، وتطبيقات نبوية .
وليس في حديث : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) مدخل لتسويغ الفكرة العلمانية ، بفصل الدين عن الدنيا ؛ وإنما صدر ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر على سبيل الرأي الشخصي في شأن تلقيح النخل ، وليس على سبيل التشريع كما فهم الصحابة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من بيئة تجارية قليلة الخبرة بالزراعة ، فالحديث ورد لإقرار الخبرات الإنسانية المتواترة ، والتفريق بين ما يقوله صلى الله عليه وسلم تشريعاً ، وبين ما يقوله رأياً ، ولم يرد الحديث لوضع فاصل ذهني بين ما هو ديني وما هو دنيوي ، وإلا فأين تصنَّف أبواب الفقه الكثيرة الخاصة بأحكام الزروع والثمار ، أهي من أمر الدين أم من أمر الدنيا ؟ ومع ذلك فإن المباح – الذي يريد أن يتوسَّع فيه المبطلون – هو أيضاً حكم شرعي ، فحكم الإباحة خاصيَّة إلهية ، تماماً كحكم التحريم ، ليست متروكة للناس ليتوسَّعوا فيها أو يضيِّقوا .
إن محاولة الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي في المفهوم الإسلامي : أشبه ما تكون بمحاولة رسم فاصل بين روح الإنسان وجسده ، وإلا فأين الفاصل بين الدين والدنيا حين يعتبر الشرع المداعبة بين الزوجين وجماعهما عبادة يؤجران عليها ؟ وأبعد من هذا وأبلغ هو اختفاء هذا الحدِّ الفاصل المزعوم تماماً ، وتلاشي تصوُّر وجوده بالكلية : حينما يسنُّ الشارع الحكيم ذكر لفظ الجلالة ( بسم الله ) عندما يأتي الرجل أهله ! فأين الفاصل بين الدين والدنيا في نقطة جمعت أعظم وأرفع ما في الدين ( ذكر الإله جلَّ وعلا ) مع أعمق وألصق ما في الدنيا (القضية الجنسية ) ؟ فالفكرة العلمانية برمَّتها تتعارض بصورة صارخة مع الفكرة الإسلامية ، ولا تتوافق معها بحال .
ولهذا فإن مطالبة الإسلاميين المعاصرين بدين لا سياسة فيه ، بحيث يُؤذن فيه لله تعالى بحكم حياة الإنسان الخاصة ، ويُمنع – سبحانه – من حكم الحياة الاجتماعية العامة ، فإنها دعوة تتضمن إنتاج إسلام علماني ؛ لأن الإسلام غير السياسي هو الإسلام العلماني في ألطف صوره .
إن نظام الإسلام السياسي لا يقتصر على تنظيم علاقات محدودة بين الراعي والرعية – كما يظن بعضهم – وإنما يشمل : القضاء ، وسنَّ النظم ، واختيار الحاكم ، وضبط الحقوق ، وإقامة الحدود ، وتنظيم الجيش ، وحفظ البلاد ، وإقامة العلاقات الدولية ، وغيرها من المصالح العامة المندرجة ضمن السياسة الشرعية المدوَّنة في الفقه الإسلامي ، فتعطيل هذه المصالح الشرعية بحجَّة أنه إسلام سياسي : هو تعطيل لجزء مهم من مصالح المسلمين الحيوية ، التي يدينون لله تعالى بها .
وأما الزعم بأن الأنظمة السياسية الوضعية تقوم بهذه المصالح المشار إليها ، دون الحاجة إلى الرجوع إلى تشريعات دينية ، هو في الحقيقة لا يعدو أن يكون تسوية ظالمة بين ما أنزله الله من التشريعات لعبيده ، وبين ما وضعه المشرِّعون من التشريعات لشعوبهم ، بل هي في حقيقتها تسوية باطلة بين الخالق والمخلوق ، فعلى الرغم من تشابه العناوين بين التشريعين - المنزَّل والوضعي - فأنى لهما أن يتطابقا ، فضلاً عن أن يتماثلا : ( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .
إن هذه المعاني البديهية عند الإسلاميين يصعب إيصالها إلى أذهان الشاردين من العلمانيين والليبراليين ، فضلاً عن أن يفهموها على صورتها الحقيقية ، وأبعد من ذلك أن يصلوا إلى درجة ما من القناعة بها ، ففي خضم هذه المفارقات بين الفريقين المتنافرين : يريد العلمانيون – بما أوتوه من وسائل التمكين - أن يحاصروا نشاط الإسلاميين ضمن نطاق محدود من التشريعات الدينية ، بما لا يتجاوز الأحوال الشخصية والتعبُّدية ، والشأن الفردي الخاص ، بحيث تترك الحياة العامة – بما فيها النشاط السياسي – للإدارة العلمانية ، وعندها فقط يصبح الإسلاميون معتدلين !! فمن تراه من الإسلاميين يجرؤ على إسعاد العلمانيين بالموافقة على هذه التجزئة الدينية ، ومن تراه منهم مخوَّل بمثل هذا ، والله تعالى يوجِّه نبيه صلى الله عليه وسلم ويحذره بقوله : (... وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ...) ؟
ولا يُفهم من هذا أن تعاطي الإسلاميين مع جميع القضايا السياسية وممارساتهم لها : هي عين السياسة الشرعية التي أرادها الله تعالى ؛ بمعنى أن اختياراتهم السياسية هي شرع الله الذي لا يجوز العدول عنه ؛ ذلك لأن إصابة مراد الله تعالى في المسائل الاجتهادية غيب يستحيل التكهُّن به ، وإنما يكون الجزم بذلك في مسائل الإجماع ، حينما تجتمع الأمة على رأي ما ؛ فإنه الحق قطعاً ، وهو الذي لا يجوز العدول عنه باعتقاد أو عمل ، ومع ذلك تبقى للاختيارات الاجتهادية – التي لم يسبق فيها إجماع - صبغتها الشرعية ، ويبقى لها اعتبارها واحترامها ، ما دام أنها مستنبطة من نصوص الشرع ، قد أفرغ المجتهد وسعه في إصابة الحق وفق الأصول الشرعية ، وإنما يفقد الاختيار الاجتهادي اعتباره إذا لم يكن له نصيب من نصوص الشرع ، ولم يكن له حظٌ من النظر .
وليس في هذا الإقرار بحقِّ الاجتهاد السياسي فيما لا إجماع فيه : مدخل للمبطلين ، ممن لا يرون للشرع دخل في المسألة السياسة أصلاً ، فهم وإن اجتهدوا في اختياراتهم السياسية فصادفوا الحق : فقد أثموا ، في حين يؤجر المجتهد - بكلِّ حال - أصاب أو أخطأ ، ما دام أنه من الشرع الحنيف ينطلق ، ورضا الله بإصابة الحق يبتغي .
*لجينيات