مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
أولوية المشروع الإسلامي حيال 'المناطقية والمذهبية'
أولوية المشروع الإسلامي حيال ’المناطقية والمذهبية’
من المستغرب أن يطالب بعض مفكرينا وخيارنا بمحاولة ’’فهم’’ و’’احتواء’’ المد الصفوي ’’الشيعي’’، بوصفهم جيران وأهل قبلة من جهة، وبداعي ’’المصير المشترك’’ من جهة أخرى إزاء الهجمة الاستعمارية الغربية، ويعتبرون أي نقد لهذا الخطر الصفوي ـ مهما كانت شواهده حاضرة في لبنان واليمن والخليج ـ يصب لصالح قوى الاستعمار والاستبداد، وفي الوقت نفسه، يعتبرون مشاكله ومرافقة الهجمة الليبرالية لمؤسسات شرعية كالقضاء والإفتاء والحسبة وهيئة كبار العلماء ضرباً من الاستقلالية الفكرية، ولوناً من ألوان الإصلاح الشرعي والإداري. وهذا لا يعني بأي حال إعلان ’’حالة الطوارئ’’ في الوسط الإسلامي ومنع نقد المؤسسات الشرعية والرموز العلمية، بحجة تربص خصوم الإسلاميين

ينطلق الإسلاميون في مشروعهم الدعوي والإصلاحي من قواعد شرعية راسخة، تُمليها محكمات القرآن الكريم وسنة النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، وثراء فقهي وفكري عظيم، وفي هذه القواعد ـ الراسخة بقدسيتها وبراهينها ونورها ـ الشفاء لكل أسقام هذه المجتمعات البشرية وأمراضها، إذ إن خالقها ومنشئها هو أعلم بطرق علاجها وسبيل نهضتها من كبوتها ورقُيها وتقدمها (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).

’’العصبية القبلية’’ و’’العصبية المناطقية’’ و’’التعصب المذهبي’’ وغيرها من الأمراض الاجتماعية والفكرية، والتي تشكلت وتبلورت في صور حياتنا العامة، وأصبح لهذه الأسقام أثرها حتى على المفكرين والمشايخ والمثقفين وحملة الشهادات العليا، إذ إن غياب مبدأ ’’تكافؤ الفرص’’ في الحياة العامة نتيجة لفساد متجذر منذ عقود، ومجتمعات بدائية دلفت لشكل الدولة الحديثة على غير ميعاد، محمّلة بإرث طويل من الاحتراب القبلي والمناطقي في أماكن، وارستقراطية طبقية في أماكن أخرى، حال دون ترجمة المبادئ الشرعية والإنسانية التي يؤمن بها المثقفون والفقهاء إلى واقع معاش، وفي تقديري أن هذا هو ’’ جذر المعضلة’’، وإن كان ثمة مسوغات ومبررات قد يسوقها المدافعون عن تجليات هذه الأسقام والأمراض في مجتمعاتنا.

جمهور الإسلاميين لا تخفى عليهم مثل هذه الأمراض وإشكالاتها، وبروز بعض تجلياتها لدى بعض الإسلاميين بصورة استثنائية أمر وارد، فهذا لم يسلم منه خير القرون كما في قصة أبي ذر (إنك امرؤ فيك جاهلية)، وهذه الخصلة الطارئة على سلوك أبي ذر رضوان الله عليه لم تمنع من ذكر مناقبه وفضائله (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر)، وقد قدمت بعض التيارات الإسلامية أنموذجاً عملياً رائعاً في استبعاد هذه الأسقام عبر مؤسساتها ومشاريعها الدعوية والإغاثية، إلا أن هذه الصورة الجميلة لم يمكن تطبيعها في المجتمع، بما في ذلك المؤسسات الشرعية الرسمية لغياب الإرادة السياسية وغياب ثقافة مبدأ تكافؤ الفرص.

مما يُميز النابهين من الإسلاميين تجاه هذه العلل والأسقام، أنهم وإن أقروا بوجودها وتطلعوا لإصلاحها وتقليص آثارها السيئة، إلا أن ’’مشروعهم الإسلامي’’ يُعد ’’قطب الرحى’’ فيما يقدمون عليه وفيما يذرون، وذلك وفق معيار شرعي دقيق حول المصالح والمفاسد من أي موقف تجاه الأحداث الساخنة التي تظهر للإعلام وللناس، ويثيرها الليبراليون لتمرير مشاريعهم التغريبية.

فالتيار الليبرالي، الذي ينطلق في مشروعه التغريبي من أسس ومنطلقات لا علاقة لها بالشريعة، يدرك جيداً عدم قدرته على إحداث التغيير المأمول إلا عبر اللعب على تباينات وأوراق شرعية واجتماعية،


(ومنها) ’’ورقة الخلاف الفقهي’’ مثلاً، فنفاجأ خلال فترة زمنية أن المفكرين والصحفيين الذين امتلأ نتاجهم الأدبي والصحفي بقصص المومسات، وشرب الخمور، والتجديف في أصول الإسلام، بل تجاوزوا هذا كله إلى التنظير في ’’حتمية تنحية الإسلام بمفهومه الشمولي’’، كشرط مهم لأي نهضة حضارية نفاجأ بهؤلاء (يذرفون دموع التماسيح) على غياب التنوع العلمي والفقهي في فتاوى العلماء، والتطلع لمدارس فقهية متنوعة.


وهذه الدعوى قد تجد ’’ آذاناً صاغية’’ عند بعض المدارس الشرعية التي لديها مواقف مسبقة تجاه ’’التيار الشرعي السائد’’، وهنا تختلف المواقف داخل تلك المدارس بين أطراف تدرك الأجندة الحقيقية لهذه الهجمة، فربما طالبت بإيجاد هذا الثراء والتنوع، ولكنها تبادر بمواقف واضحة تجاه الأجندة الليبرالية ومشاريعها المنحرفة، و(هم) قلة، وبين أطراف أخرى تعتبرها فرصة ثمينة للتواجد، وفي الغالب يتم استغلالها من الليبراليين لفترة زمنية ثم يُعاد تهميشها بعد تمرير مشروعهم، سيما إن غاب عن أدبيات تلك المدارس ’’الحس الاحتسابي في الشأن العام’’، والانكفاء على موروثاتها الفكرية والشرعية.


ومن ذلك أيضاً،عندما يسعى أصحاب المشروع التغريبي مثلاً للضرب على الوتر المناطقي أو القبلي، رغبة في استثارة المثقفين والمشايخ والعامة الذين يُشكل البُعد المناطقي والقبلي ناقوساً مؤثراً في دواخلهم، فسيكون من الخطأ الانسياق خلف هذه الدعاوى بحجة الإصلاح، فغلبة النبرة المناطقية أو القبلية ـ مع كونها ليست من أخلاق العقلاء والمصلحين ـ توصل حتما إلى محصلة مريرة تتمثل في تساوق مثل هذه الأطروحات مع تجييش المجتمع ضد مؤسسات شرعية بدعوى مناوءة الاستبداد المناطقي والقبلي.


من المستغرب أن يطالب بعض مفكرينا وخيارنا بمحاولة ’’فهم’’ و’’احتواء’’ المد الصفوي ’’الشيعي’’، بوصفهم جيران وأهل قبلة من جهة، وبداعي ’’المصير المشترك’’ من جهة أخرى إزاء الهجمة الاستعمارية الغربية، ويعتبرون أي نقد لهذا الخطر الصفوي ـ مهما كانت شواهده حاضرة في لبنان واليمن والخليج ـ يصب لصالح قوى الاستعمار والاستبداد، وفي الوقت نفسه، يعتبرون مشاكله ومرافقة الهجمة الليبرالية لمؤسسات شرعية كالقضاء والإفتاء والحسبة وهيئة كبار العلماء ضرباً من الاستقلالية الفكرية، ولوناً من ألوان الإصلاح الشرعي والإداري.


وهذا لا يعني بأي حال إعلان ’’حالة الطوارئ’’ في الوسط الإسلامي ومنع نقد المؤسسات الشرعية والرموز العلمية، بحجة تربص خصوم الإسلاميين، فالنقد البناء منهج قرآني ونبوي خلده الله في كتابه، كقول الله تعالى عقب هزيمة المسلمين في غزوة أحد (( قل هو من عند أنفسكم))، وكبراءة النبي صلى الله عليه وسلم من فعل خالد بن الوليد رضي الله عنه في خبر بني جذيمة، عندما قالوا: صبأنا ولم يحسنوا قول: أسلمنا، فقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد))، ولكن هذا النقد ينبغي أن يكون بناء، يهدف إلى تقويم الخطأ وإصلاح المسيرة على هدي من أدلة الشرع، كتاباً وسنة، وبمعزل عن ’’رقصة الموت’’ الموهومة التي يتولى كبرها متطرفو الليبرالية المتأمركة، حول منابع التدين والمؤسسات الشرعية في بلاد المسلمين.


لو أردت أن أضرب مثالين رائعين في هذا المجال، لكان نقد الشيخ عوض القرني لكتاب الدرر السنية قبل سنوات مثالاً يحتذى به في هذا الجانب، فقد عجز الليبراليون وأمثالهم عن استثمار هذا النقد في تلك الحملات المستعرة ضد الدعوة الإصلاحية السلفية في السعودية، وذلك بسبب وضوح موقف الشيخ تجاه مشاريعهم، بالإضافة إلى عدم وقوف الشيخ طويلاً عند هذه النقطة لإدراكه لمغزى هذه الهجمة على كتب علماء الدعوة السلفية، التي تستهدف كل مظاهر التدين في البلاد، بعيداً عن أي خلافات فكرية أو علمية بين العلماء وطلبة العلم، ومثله موقف الشيخ سفر الحوالي في رده على مطالب الشيعة: (الأقلية حين تتحكم في الأكثرية)، عندما ذكر حقيقة تركز المناصب العليا لدى أقاليم محددة جواباً عن مطالبة الشيعة للسلطة بمناصب كبرى للطائفة الشيعية، ولكن الشيخ مع تأكيده لواقعية هذا التشخيص، إلا أنه وضح أن ثمة مناطق تفوق المناطق الشيعية عدداً ومساحة لم تحصل على شيء مما حصل عليه الشيعة، وقد ساق هذا تدليلاً على بطلان مطالبهم ولم يشاكلهم ويسترسل في ذكر تجليات هذه المعضلة في الواقع لإدراكه حقيقة مغزى المطالبات الشيعية، ولأولوية ’’المشروع الإسلامي’’ في روعه وفكره قبل أي أجندة إصلاحية ثانوية.


يبقى أن يقال: إن حل معضلة التعصب القبلي أو المناطقي في المجتمع، وإشاعة مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع الناس، يحتاج لإرادة سياسية قوية، ووعي مجتمعي شامل لفئات المجتمع، ولكن افتقار الواقع لبعض هذه العوامل لا يعني عدم السعي في تقليل أضرارها والعمل على معالجة آثارها، وذلك بمعالجة أصل مبدأ التعصب المناطقي والقبلي من منظور إسلامي، الذي لا يفرق بين الناس وفق معايير الإقليم والبلد والقبيلة، مع عدم التركيز والضرب على وتر بعض تجليات هذه المعضلة في هذا البلد أو ذاك، رغبة في حشد المواقف للإصلاح لا إنكاراً لأصل وجودها في المجتمع، ثم تعزيز هذا الخطاب بأنموذج عملي كهيئات أو مؤسسات تدفع بمعيار الكفاءة في سقف مواصفات عامليها ورجالاتها.


وأحسب أن ساحتنا الدعوية تحوي بعض النماذج الجيدة في هذا المضمار، وأحسب كذلك أن نتاج المثقف العلمي والفكري، سيتم إخضاعه من قبل عموم الناس لنفس المعيار، للتأكد من خلو نتاجه من أدواء التعصب الأعمى للقبيلة والمنطقة والإقليم.
أضافة تعليق