من تجليات الأزمة:ثنائية الوحي والعقل
عبد العزيز كحيل
من أهم أسباب تعثر النهضة الإسلامية رغم مرور قرنين من الزمان على بدايتها عدم حسمها لمعادلات أساسية تضبط الفكر والحركة وفي مقدمتها ثنائية العقل والنقل إلى درجة أن دوائر علمية ودعوية مازالت إلى اليوم يتقاذفها الانتماء لهذا الاتّجاه والتبرؤ من الثاني والعكس لاستصحابها للمعارك التاريخية والعجز عن تجاوز العداء المفتعل وإحداث التوازن المطلوب والمتماشي مع سنن الله في النفس والمجتمع والكون، ومن فضل الله على هذه الأمة أن تمحص المستنيرون من علمائها ودعاتها في العقود الأخيرة لتجلية المعادلة وكشف مساحة الزيف وبيان المنهج الأصيل المستلهم من الكتاب والسنة والذي كان عليه السلف الصالح وتؤيده تجارب القرون، والمسألة في حاجة إلى مزيد من الاستجلاء وتعميم المعرفة الهادفة البصيرة لرأب الصدع بين مدرستين متدابرتين فسح نزاعهما المجال لفتنة فكرية كرست الاغتراب الزماني والتبعية الفكرية في آن واحد.
مدرستان متخاصمتان... إلى متى؟
يرى الاتجاه النصوصي الحرفي أن نصوص الوحي تستوعب كل الأحداث والوقائع والأحوال عبر الزمان والمكان ويجب أن تقتصر مهمة المسلم على الفهم الظاهري والتطبيق الفوري، فهو لا يبالي كثيرا بالعقل بل يرى فيه خصما للوحي ،وإذا كان التيار امتدادا لمدرسة الحديث أو الأثر فقد التحق به في بواكير الصحوة المباركة جمع من كبار المفكرين أمثال سيد ومحمد قطب كرد فعل على الهجمة العقلانية الطاغية التي كانت _ وما زالت _ تتبجح بالعقل لتزاحم الوحي وتحل محله النزعة الوضعية الوافدة من الغرب، ولا شك أن لمدرسة النقل مزايا وإيجابيات أوّلها المحافظة على قداسة نصوص الشريعة من التمييع والإقصاء غير أن غلوها كاد يذهب بجمال الأصالة فاتهامها للعقل مبالغ فيه فكأنّما لا تقيم له وزنا رغم أنه مناط التكليف ووسيلة التقدم المعرفي والحضاري ، وزاد الطين بلة أن أنصار التمذهب الفقهي _ وهم أتباع هذه المدرسة بالضرورة _ يظنون من فرط احتفائهم بالنقل أن عقول القرن الهجري الأول وما يليه قد حلّت مشاكل جميع الأزمان وكفتنا مؤنة النظر في القرآن والسنة ! فهذا جمود قاتل امتد شرره إلى المجالات الحياتية البحتة إذ لا يتورع البعض عن تبديع المخترعات التكنولوجية وأساليب العيش الحديثة.
بالمقابل يبالغ ’’العقلانيون’’ في توسيع مجالات عمل العقل وكأنّه هو الأصل حتّى في الأمور الدينية والتصورية وما الوحي إلاّ ملحق أو مساند ثانوي، وهذه نزعة اعتزالية واضحة غذتها في زماننا العلمانية العربية المتأثرة مباشرة بالهجمة اللادينية المتسترة بالدراسات الاستشراقية ويتولى كبرها جمع من الكتاب الذين يتحدثون باسم الإسلام أمثال محمد أحمد خلف الله، ومحمد سعيد العشماوي، ومحمد أركون وحسين أحمد أمين وهم يتذرعون بالحداثة ويدعون إلى ’’عصرنة’’ الإسلام بإعطاء العقل السيادة المطلقة في شؤون الإنسان والمجتمع فيؤخرون ولو ضمنيا مرتبة الوحي أو يقفزون عليه بغير حرج فينتهون حتما إلى ’’علمنة’’ الإسلام أي إلى تهميشه وتحييده بدعوى تقديسه وتمجيده وتجديده وهي الدعوى التي ألهمت العلمانيين في العالم الإسلامي المعاصر.
وبين تصلب المدرستين كاد المسلمون يضيعون، والحقيقة أن لكل منهما إيجابياته، فالأولى حافظت على قدسية النصوص والثانية بعثت الحياة في العقل المسلم بعد تحجر طويل لكن الغلو فعل فعله بالنسبة لهما معاً ، فالنصوصيون أقرب إلى معاداة العقل جملة وتفصلاً والعقلانيون أقرب إلى تأليه العقل واتخاذ النصوص عجينة طيعة يسوغون بها مذاهبهم الوضعية، في هذا الجو دخلت الحركة الإسلامية الحديثة المعترك العلمي التجديدي وبدأت السعي إلى حل المعادلة.
مجالات عمل العقل:
كيف يجوز الحط من شأن العقل وهو الدليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة الرسالة وبه كان الإنسان مكلّفاً؟ ولكن كيف يجوز إحلاله محل الوحي وهو محدود بطبعه ويحتاج إلى هداية الوحي وضوابطه كي لا يصبح وبالاً على الإنسان؟ إن للعقل مجالات يعمل فيها ليس كند للوحي أو خصم له وإنما كعنصر ملازم ضروري، ويمكن إجمالها في خمسة مجالات:
1. فهم الوحي:
نصوص الشريعة من قرآن وسنة فيها المحكم والمتشابه والواضح والمعضل والعام والخاص والمنطوق والمفهوم والمدلول والعبارة والإشارة... وكل هذا يحتاج إلى إعمال العقل باستمرار وبتعمق لتفادي الظاهرية والحرفية التي إن أحسنت في جانب فإنها تقع في طامات مريعة مثل القول بعدم زكاة عروض التجارة بل وفي الأوراق النقدية، والمسارعة إلى التكفير بمجرد الشبهة في قول أو فعل.
2. فهم الواقع:
وجود القرآن والسنة وحده لا يغنينا كثيرا إذا لم نحسن فهم الواقع لإتقان التنزيل والإسقاط، فالمدارس النصية تحسن العيش في الماضي أو مع النصوص مجردة وتفهم الحاضر بمقياس الزمن الماضي لأنها لا تحسن فهم الواقع بسبب اتهامها للعقل الّذي هو أداتها الفعالة لهذه المهمة، وقد انجرّ عن تهميشه خبش كبير في تناول واقع متداخل القضايا متسارع الأحداث مما جعلنا متخلفين عن القيم وعن العصر معاً.
3. تنزيل النصوص على الواقع:
لا يمكن ممارسة الاجتهاد بشقيه الانتقائي والتطبيقي إلاّ بالاعتماد على فهم صحيح للواقع وللوحي لإحداث التناغم المطلوب بينهما ولإثبات أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان وهنا يكون للعقل حضوره الضروري وسيادته فإذا أقصي جاء الاجتهاد _ من غير أهله _ مشوها وجرّ على الأمة من الويلات ما تعيش بعضها الآن ،كما أن إصلاح الواقع من منظور إسلامي مرهون بالإسقاط السليم لقيم الدين وأحكامه على الحياة بكل جوانبها وإشكالاتها وحيثياتها ، وهذا يحتاج إلى بصيرة وذكاء أي إلى العقل الحصيف، وواضح أن الإلمام بالوحي لا يجدي في التغيير ما لم يصحبه تحكم في معطيات الواقع كما أن محاولة إصلاح الأوضاع بالاعتماد على العقل وحده تؤدي إلى حلول مشوهة كالتي تعانيها الحضارة الغربية.
4. الاجتهاد الاستنباطي:
بالعقل يستنبط الإنسان الأحكام والسنن وأصول العلوم من القرآن والسنة وهذه وظيفة تبقى قائمة مادام في الكون إنسان وإسلام ، وليس صحيحاً كما يقال بأن الأوائل قد حسموا الأمر ولم يتركوا لغيرهم مجالاً للاستنباط، ومن المضحك إسناد حل محدثات الأمور إلى من ماتوا قروناً قبل حدوثها، كما أن الاستنباط لا يقتصر على الأحكام وإنما يجب أن يمتد إلى كثير من العلوم التي نحن عالة فيها على الغرب كعلوم التربية والنفس والاجتماع والتاريخ... فلابد من عقول جبارة لهذه المهمة الجليلة غير المنقطعة.
5. شؤون الحياة الدنيا:
الرسل بعثوا هداة مبشرين ومنذرين ولم يبعثوا مهندسين أو أطباء أو صناعيين لذلك تركت للإنسان حرية البحث والإبداع في المجالات الحياتية في إطار أصول الهداية اعتمادا على الحديث النبوي ’’أنتم أعلم بأمور دنياكم’’ – رواه مسلم - أي بما هو أدنى للفنيات أو التقنيات في الإدارة والاقتصاد والتجارة ونحوها، فإذا غاب العقل هنا _ وهذا ميدانه الأول _ كان التخلف والاستقالة من منصب الخلافة والعمارة والتبعية الحتمية والذليلة للأمم النشطة المبدعة.
نهاية أزمة العقل:
يتبين مما سبق أنه لا يمكن تجسيد قيم الوحي في غياب العقل لذلك تسعى الحركة الإسلامية الرشيدة إلى إقامة الأصالة المعاصرة على العقيدة البناءة والتفوق الفكري الفعال أي الوحي والعقل وهذا يقتضي إعادة تشكيل العقل المسلم من خلال بناء منظومة فكرية إسلامية بديلة توفر العقل القادر على استلهام الأصالة وهضم الحداثة وهي مهمة عظيمة ينوء بحملها علماء مستنيرون ومؤسسات جدية تسعى إلى معالجة أزمتنا الأولى _ الأزمة الفكرية _ بدءًا بالحسم في ثنائية الوحي والعقل حسما شرعيا علميا نهائيا أساسه أن الوحي مصدر الهداية والتوجيه للإنسان والمجتمع والحياة، والعقل أداة الفهم وحسن التلقي ودراسة الطبائع والوقائع لتوليد الحلول والأحكام والسياسات وحسن تنزيلها ، فالرسالة هي الغاية والعقل هو الوسيلة وإذا ضاعت الوسيلة أو فسدت ضاعت الغاية وغاب المقصد...وما أغرب تصوير العقل نقيضا للوحي !!!ذلك أن نقيضه هو الجنون !
إن حل المعادلة بين الوحي والعقل مقدمة _ مع مسائل جوهرية وثنائيات أخرى _ على أي إنجازات يراد منها البعث الحضاري لأن تعامل العقل المسلم مع الكتاب والسنة من خلال أزمته لا يؤدي حتما إلاّ إلى تكريس الأزمة.
*موقع الشهاب
عبد العزيز كحيل
من أهم أسباب تعثر النهضة الإسلامية رغم مرور قرنين من الزمان على بدايتها عدم حسمها لمعادلات أساسية تضبط الفكر والحركة وفي مقدمتها ثنائية العقل والنقل إلى درجة أن دوائر علمية ودعوية مازالت إلى اليوم يتقاذفها الانتماء لهذا الاتّجاه والتبرؤ من الثاني والعكس لاستصحابها للمعارك التاريخية والعجز عن تجاوز العداء المفتعل وإحداث التوازن المطلوب والمتماشي مع سنن الله في النفس والمجتمع والكون، ومن فضل الله على هذه الأمة أن تمحص المستنيرون من علمائها ودعاتها في العقود الأخيرة لتجلية المعادلة وكشف مساحة الزيف وبيان المنهج الأصيل المستلهم من الكتاب والسنة والذي كان عليه السلف الصالح وتؤيده تجارب القرون، والمسألة في حاجة إلى مزيد من الاستجلاء وتعميم المعرفة الهادفة البصيرة لرأب الصدع بين مدرستين متدابرتين فسح نزاعهما المجال لفتنة فكرية كرست الاغتراب الزماني والتبعية الفكرية في آن واحد.
مدرستان متخاصمتان... إلى متى؟
يرى الاتجاه النصوصي الحرفي أن نصوص الوحي تستوعب كل الأحداث والوقائع والأحوال عبر الزمان والمكان ويجب أن تقتصر مهمة المسلم على الفهم الظاهري والتطبيق الفوري، فهو لا يبالي كثيرا بالعقل بل يرى فيه خصما للوحي ،وإذا كان التيار امتدادا لمدرسة الحديث أو الأثر فقد التحق به في بواكير الصحوة المباركة جمع من كبار المفكرين أمثال سيد ومحمد قطب كرد فعل على الهجمة العقلانية الطاغية التي كانت _ وما زالت _ تتبجح بالعقل لتزاحم الوحي وتحل محله النزعة الوضعية الوافدة من الغرب، ولا شك أن لمدرسة النقل مزايا وإيجابيات أوّلها المحافظة على قداسة نصوص الشريعة من التمييع والإقصاء غير أن غلوها كاد يذهب بجمال الأصالة فاتهامها للعقل مبالغ فيه فكأنّما لا تقيم له وزنا رغم أنه مناط التكليف ووسيلة التقدم المعرفي والحضاري ، وزاد الطين بلة أن أنصار التمذهب الفقهي _ وهم أتباع هذه المدرسة بالضرورة _ يظنون من فرط احتفائهم بالنقل أن عقول القرن الهجري الأول وما يليه قد حلّت مشاكل جميع الأزمان وكفتنا مؤنة النظر في القرآن والسنة ! فهذا جمود قاتل امتد شرره إلى المجالات الحياتية البحتة إذ لا يتورع البعض عن تبديع المخترعات التكنولوجية وأساليب العيش الحديثة.
بالمقابل يبالغ ’’العقلانيون’’ في توسيع مجالات عمل العقل وكأنّه هو الأصل حتّى في الأمور الدينية والتصورية وما الوحي إلاّ ملحق أو مساند ثانوي، وهذه نزعة اعتزالية واضحة غذتها في زماننا العلمانية العربية المتأثرة مباشرة بالهجمة اللادينية المتسترة بالدراسات الاستشراقية ويتولى كبرها جمع من الكتاب الذين يتحدثون باسم الإسلام أمثال محمد أحمد خلف الله، ومحمد سعيد العشماوي، ومحمد أركون وحسين أحمد أمين وهم يتذرعون بالحداثة ويدعون إلى ’’عصرنة’’ الإسلام بإعطاء العقل السيادة المطلقة في شؤون الإنسان والمجتمع فيؤخرون ولو ضمنيا مرتبة الوحي أو يقفزون عليه بغير حرج فينتهون حتما إلى ’’علمنة’’ الإسلام أي إلى تهميشه وتحييده بدعوى تقديسه وتمجيده وتجديده وهي الدعوى التي ألهمت العلمانيين في العالم الإسلامي المعاصر.
وبين تصلب المدرستين كاد المسلمون يضيعون، والحقيقة أن لكل منهما إيجابياته، فالأولى حافظت على قدسية النصوص والثانية بعثت الحياة في العقل المسلم بعد تحجر طويل لكن الغلو فعل فعله بالنسبة لهما معاً ، فالنصوصيون أقرب إلى معاداة العقل جملة وتفصلاً والعقلانيون أقرب إلى تأليه العقل واتخاذ النصوص عجينة طيعة يسوغون بها مذاهبهم الوضعية، في هذا الجو دخلت الحركة الإسلامية الحديثة المعترك العلمي التجديدي وبدأت السعي إلى حل المعادلة.
مجالات عمل العقل:
كيف يجوز الحط من شأن العقل وهو الدليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة الرسالة وبه كان الإنسان مكلّفاً؟ ولكن كيف يجوز إحلاله محل الوحي وهو محدود بطبعه ويحتاج إلى هداية الوحي وضوابطه كي لا يصبح وبالاً على الإنسان؟ إن للعقل مجالات يعمل فيها ليس كند للوحي أو خصم له وإنما كعنصر ملازم ضروري، ويمكن إجمالها في خمسة مجالات:
1. فهم الوحي:
نصوص الشريعة من قرآن وسنة فيها المحكم والمتشابه والواضح والمعضل والعام والخاص والمنطوق والمفهوم والمدلول والعبارة والإشارة... وكل هذا يحتاج إلى إعمال العقل باستمرار وبتعمق لتفادي الظاهرية والحرفية التي إن أحسنت في جانب فإنها تقع في طامات مريعة مثل القول بعدم زكاة عروض التجارة بل وفي الأوراق النقدية، والمسارعة إلى التكفير بمجرد الشبهة في قول أو فعل.
2. فهم الواقع:
وجود القرآن والسنة وحده لا يغنينا كثيرا إذا لم نحسن فهم الواقع لإتقان التنزيل والإسقاط، فالمدارس النصية تحسن العيش في الماضي أو مع النصوص مجردة وتفهم الحاضر بمقياس الزمن الماضي لأنها لا تحسن فهم الواقع بسبب اتهامها للعقل الّذي هو أداتها الفعالة لهذه المهمة، وقد انجرّ عن تهميشه خبش كبير في تناول واقع متداخل القضايا متسارع الأحداث مما جعلنا متخلفين عن القيم وعن العصر معاً.
3. تنزيل النصوص على الواقع:
لا يمكن ممارسة الاجتهاد بشقيه الانتقائي والتطبيقي إلاّ بالاعتماد على فهم صحيح للواقع وللوحي لإحداث التناغم المطلوب بينهما ولإثبات أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان وهنا يكون للعقل حضوره الضروري وسيادته فإذا أقصي جاء الاجتهاد _ من غير أهله _ مشوها وجرّ على الأمة من الويلات ما تعيش بعضها الآن ،كما أن إصلاح الواقع من منظور إسلامي مرهون بالإسقاط السليم لقيم الدين وأحكامه على الحياة بكل جوانبها وإشكالاتها وحيثياتها ، وهذا يحتاج إلى بصيرة وذكاء أي إلى العقل الحصيف، وواضح أن الإلمام بالوحي لا يجدي في التغيير ما لم يصحبه تحكم في معطيات الواقع كما أن محاولة إصلاح الأوضاع بالاعتماد على العقل وحده تؤدي إلى حلول مشوهة كالتي تعانيها الحضارة الغربية.
4. الاجتهاد الاستنباطي:
بالعقل يستنبط الإنسان الأحكام والسنن وأصول العلوم من القرآن والسنة وهذه وظيفة تبقى قائمة مادام في الكون إنسان وإسلام ، وليس صحيحاً كما يقال بأن الأوائل قد حسموا الأمر ولم يتركوا لغيرهم مجالاً للاستنباط، ومن المضحك إسناد حل محدثات الأمور إلى من ماتوا قروناً قبل حدوثها، كما أن الاستنباط لا يقتصر على الأحكام وإنما يجب أن يمتد إلى كثير من العلوم التي نحن عالة فيها على الغرب كعلوم التربية والنفس والاجتماع والتاريخ... فلابد من عقول جبارة لهذه المهمة الجليلة غير المنقطعة.
5. شؤون الحياة الدنيا:
الرسل بعثوا هداة مبشرين ومنذرين ولم يبعثوا مهندسين أو أطباء أو صناعيين لذلك تركت للإنسان حرية البحث والإبداع في المجالات الحياتية في إطار أصول الهداية اعتمادا على الحديث النبوي ’’أنتم أعلم بأمور دنياكم’’ – رواه مسلم - أي بما هو أدنى للفنيات أو التقنيات في الإدارة والاقتصاد والتجارة ونحوها، فإذا غاب العقل هنا _ وهذا ميدانه الأول _ كان التخلف والاستقالة من منصب الخلافة والعمارة والتبعية الحتمية والذليلة للأمم النشطة المبدعة.
نهاية أزمة العقل:
يتبين مما سبق أنه لا يمكن تجسيد قيم الوحي في غياب العقل لذلك تسعى الحركة الإسلامية الرشيدة إلى إقامة الأصالة المعاصرة على العقيدة البناءة والتفوق الفكري الفعال أي الوحي والعقل وهذا يقتضي إعادة تشكيل العقل المسلم من خلال بناء منظومة فكرية إسلامية بديلة توفر العقل القادر على استلهام الأصالة وهضم الحداثة وهي مهمة عظيمة ينوء بحملها علماء مستنيرون ومؤسسات جدية تسعى إلى معالجة أزمتنا الأولى _ الأزمة الفكرية _ بدءًا بالحسم في ثنائية الوحي والعقل حسما شرعيا علميا نهائيا أساسه أن الوحي مصدر الهداية والتوجيه للإنسان والمجتمع والحياة، والعقل أداة الفهم وحسن التلقي ودراسة الطبائع والوقائع لتوليد الحلول والأحكام والسياسات وحسن تنزيلها ، فالرسالة هي الغاية والعقل هو الوسيلة وإذا ضاعت الوسيلة أو فسدت ضاعت الغاية وغاب المقصد...وما أغرب تصوير العقل نقيضا للوحي !!!ذلك أن نقيضه هو الجنون !
إن حل المعادلة بين الوحي والعقل مقدمة _ مع مسائل جوهرية وثنائيات أخرى _ على أي إنجازات يراد منها البعث الحضاري لأن تعامل العقل المسلم مع الكتاب والسنة من خلال أزمته لا يؤدي حتما إلاّ إلى تكريس الأزمة.
*موقع الشهاب