ليست الأحكام الشرعية على مرتبة واحدة بل هي مراتب كما ورد في القرآن والسنة وكما بيّن الأصوليون والفقهاء، فهناك الأهم والمهم والأقلية أهمية، وليس قول "لا إله إلا الله" كإزالة الذى من الطريق، فبينهما شُعب ومراتب، فلا يعطي المسلم الذي يفهم عن الله ورسوله لأي مسألة شرعية إلا "التسعيرة" التي أعطاها لها الشرع، وكلما عمل المسلمون بفقه الأولويات كان سعيهم أقرب إلى السداد فإذا حادوا عن ذلك أصابه الخلل بل يوشك أن يُفسده العطب، لذلك قال الله تعالى " أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ سورة التوبة - 19، فالقيام بشؤون الحج والعمرة فعل جليل لكنه أقل أهمية من الجهاد في سبيل الله بعد الإيمان...وهذا هو بيت القصيد في مقالنا: هل نعرف حقا مرتبة الجهاد ومقتضياته على المسلمين كل المسلمين على اختلاف أماكن تواجدهم ومستوياتهم وإمكاناتهم؟ ألسنا نرى كيف وقع خلل كبير في مراتب الأحكام ولم يواكب تدينُنا الأحداث بل جمد في الغالب على الأداء الفردي والجانب التعبدي البحت وأهمل إلى حد بعيد الواجبات المتعلقة بقضايا الأمة رغم وضوحها وإلحاحها؟ حال المسلمين في غزة لا يخفى على أحد وحاجتهم إلى الدعم المادي القوي صارخة ومع ذلك نجد تقاعسا كبيرا لدى المسلمين في الإسناد واكتفى أكثرهم بالدعاء رغم أن إمكانية الدعم المادي متاحة عندنا في الجزائر والجمعيات العاملة في الميدان مؤتمنة وذات مصداقية توصل العطايا إلى غزة بشهادة أهل القطاع أنفسهم...ولئن كان هناك مسلمون يفقهون الأولويات ويُقبلون على الجهاد بالمال بعد أن تعيّن ولا يقدمون عليه غيره من الأعمال فإن الأغلبية غارقة في التديّن الفردي العاطفي كما يشهد الإقبال الكبير على أداء العمرة وتكرار الحج...ما هذا؟ تعاطف نظري قلبي مع غزة وبذل سخي على السفر إلى البقاع المقدسة؟ أين فقه الأولويات؟ من المفروض أن الجميع يعلمون أن الجهاد إذا تعيّن يُؤخر كل هذا، وبذل المال لغزة ليس تبرعا بل هو جهاد وعبارة "جاهدوا بأموالكم " تكررت في القرآن الكريم، بل ذكر العلماء من قديم أن الجهاد يُسقط حقوق العباد كطاعة الوالدين وحتى حقوق الله كحج الفريضة، لكن المسلمين اليوم مقبلون بحماس كبير بأموالهم على النافلة على حساب الفريضة والأمر لا يتجاوز في الغالب حظوظ النفس مهما أحسنا الظن بالناس والواقع خير دليل...لِمَ كل هذا؟ مسلمون يموتون بالقصف والجوع والعطش والمرض هنا وأموال طائلة تُنفق هناك على النوافل؟ يجب أن نعترف بكل مرارة بإسهام كثير من علماء الدين في تفشي الظاهرة بتركيزهم الدائم على الجانب التعبدي الفردي وعدم تعليم الناس وإرشادهم بالدليل والتفصيل إلى الجهاد بالمال، فلا ليتهم اقتدوا بفحول العلماء الذين صرحوا تصريحا وأصّلوا وبينوا المسألة مثل الشيخ القرضاوي رحمه الله ومفتي ليبيا الصادق الغرياني بارك الله في عمره ومعهما لفيف من العلماء العاملين هنا وهناك، لو اهتمت المنابر والدروس بالمسألة وأوضحت الأولويات وبصّرت الناس بواجباتهم لذهبت أموال طائلة إلى أرض الرباط والجهاد بدل أن تذهب إلى حيث ستنتهي في خزائن أمريكا لا قدر الله كان يؤكد بعض المتابعين للشأن السياسي الدولي...هذه بعض آثار سوء فهم الإسلام، سوء فهم يخرج من كليات ومعاهد دينية ومساجد غابت عنها مقاصد الشريعة ومراتب الأحكام على يد حملة دكتوراه لا علاقة لهم بالتنزيل على الواقع بل بالواقع أصلا، هكذا ضاع الجهاد وتم التخلي عن المجاهدين وأهليهم بأدوات معرفية صدئة من داخلنا وتعطّل الفهم والحركة باسم السلف تارة وخوفا من إغضاب السلطة تارة أخرى، فكاد يضيع الإسلام الحي والمسلم الحاضر القوي المتفاعل مع أفراد الأمة وجماعتها ودولها وأقطارها، أي استسلم لمخطط سيكس – بيكو استسلاما كاملا من جهة واكتفى بالتديّن العاطفي – وهو غير بعيد عن التديّن المغشوش – من الجهة الأخرى وبهذا يبقى في الهوامش يجرّ الأمة شيئا فشيئا إلى المتحف وهي مبتهجة بتلاوات القرآن ومسابقاته وكتيبات الأذكار والإكثار من أسفار العمرة غير بعيد عن الحفلات الماجنة التي تدنّس البقاع المقدسة.
إن طوفان الأقصى جاء ليغيّر الرؤية ويصحح المسار ويحيي فقه الأولويات ويعيد ترتيب الفكر الإسلامي لنعود إلى مفهوم الأمة الواحدة والأمة الفاعلة الشاهدة ونعيد الاعتبار للجهاد بالنفس والمال، وكلامي هذا لا ينكر وجود نماذج رفيعة وحالات راقية في المجتمع، فكم من رجل دفع المال الذي ادّخره للعمرة إلى غزة وكم من امرأة تبرعت بحليّها لغزة وأحجمت عن تكرار الحج وكان ينبغي أن يكون هذا هو الأصل، ويقع على علماء الدين أن يحييوا هذه المعاني في دروسهم ويبينوها بوضوح وقوة إبراء للذمة ودعما للمجاهدين في غزة.
إن طوفان الأقصى جاء ليغيّر الرؤية ويصحح المسار ويحيي فقه الأولويات ويعيد ترتيب الفكر الإسلامي لنعود إلى مفهوم الأمة الواحدة والأمة الفاعلة الشاهدة ونعيد الاعتبار للجهاد بالنفس والمال، وكلامي هذا لا ينكر وجود نماذج رفيعة وحالات راقية في المجتمع، فكم من رجل دفع المال الذي ادّخره للعمرة إلى غزة وكم من امرأة تبرعت بحليّها لغزة وأحجمت عن تكرار الحج وكان ينبغي أن يكون هذا هو الأصل، ويقع على علماء الدين أن يحييوا هذه المعاني في دروسهم ويبينوها بوضوح وقوة إبراء للذمة ودعما للمجاهدين في غزة.