أوراق سلفية إصلاحية (5) حتمية الائتلاف الدعوي
27-7-2009
إذا كان الإسلاميون يمنّون أنفسهم بالإصلاح، فلا نهوض ولا قيام لأي عملية إصلاحية بجهود فردية عشوائية، هذا واضح بيّن لكل من قرأ سير المصلحين على مر التاريخ، وحالة ’’النكسة المنهجية’’ لدى رجيع الصحوة، ونبز المخلصين لثوابت الحركة الإسلامية بالشعاراتية والخطابية، ينبغي ألا تهز يقينهم بسنن الله في التغيير والإصلاح، فنحن نرى هذا الرجيع في كل عام ’’يتخبطون’’ مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون.
عندما يتأمل المسلم في الكتاب والسنة، يجد أن كثيراً من النصوص الشرعية الآمرة بالتغيير والإصلاح، أخبرت بوجود ’’طائفة’’ أو ’’أمة’’ أو’’ فرقة’’، تضطلع بهذه المهمة العظيمة، كقول الله تعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، وكقوله تعالى (فولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، وكذلك جاء الخبر النبوي ببقاء الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)، وإذا تأملنا العالم من حولنا وجدنا أن الدول المتقدمة، فضلاً عن الأفراد، آمنت بأهمية العمل الجماعي، فشرعت منذ عقود في وضع لبنات مشاريع ومؤسسات ذات أبعاد سياسية واقتصادية وعسكرية كما فعلت الدول الأوربية عبر الاتحاد الأوربي أو الولايات المتحدة عبر إحياء حلف الناتو بعد تواري دوره بُعيد سقوط المعسكر الشرقي.
وفي ’’جنة الديمقراطية’’ الموعودة التي يبشر بها عامة المثقفين والساسة والإعلام العربي والغربي، لا يمكن أن تكتب السيادة أو الانتشار لفكرة أو مشروع إلا بعمل جماعي منظم، وتخطيء بعض نخبنا المثقفة والدعوية في التنفير من أي عمل إسلامي جماعي منظم، بحجة أنها هذا يؤدي لانعزال التيار عن المجتمع فكرياً واجتماعياً، أو مستدلين ومستنسخين لبعض الأفكار والرؤى القادمة من الغرب لتنزيلها على واقعنا، مع غفلتهم عن الفروق الجوهرية بين واقعنا وواقعهم.
إن الفرق الجوهري بين الصورتين، أن تلك المجتمعات الغربية، كشعوب ومثقفين وساسة، قد قطعوا أمرهم منذ عقود طويلة، واتفقوا على عقد اجتماعي آمنت به جميع الأطراف، والجميع يرى نفسه أميناً على هذا العقد وحارساً له، فالعدل والحريات والتنمية، إن لم تسهم في تحقيقها الدوافع الأخلاقية والمحركات الفكرية، فإن مصلحة النخب الخاصة لا تتحقق إجمالاً إلا بتحقيق هذه الحقوق والحريات، ولو باستغفال الشعوب وتخديرها وتحريكها عبر الإعلام دون قهرها وغصبها حقوقها.
وأما في العالم العربي والإسلامي، فثمة طبقة سميكة من النافذين ورجال الأعمال والشيوخ والدوائر الاجتماعية والإقليمية، والمرتبطة جينياً بإبقاء الوضع على ما هو عليه، للحفاظ على مكتسباتها ورفاهيتها وميزاتها، وهذه الطبقة المخملية لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد هموم الأغلبية المطحونة إلا بما يكفل بقاءها وتقلبها في هذا النعيم الدنيوي، وهي لا تقدم أثماناً تستحق الإشادة إلا كلما شعرت بالخطر على ميزاتها ووضعها الاستثنائي، ويخطئ الإسلاميون وعامة المثقفين والعقلاء في العالم العربي إذا ظنوا أن تلك الطبقة سوف تتخلى عن امتيازاتها طوعاً واختياراً. كما أن الخطيئة تكون أكبر إذا ظنوا أن التغيير يكون عبر أعمال عنف طائشة تفتت المجتمع وتدمر مقدراته وتعبث بأمنه،
والذي أريد أن أخلص إليه في هذه النقطة، أن بعض المثقفين والدعاة يستنسخون خطاباً غربياً رومانسياً جميلاً عن العمل والإنتاج والترقي الحضاري والتنموي والوئام الفكري، ولكنهم ينزلونه على واقع مختلف تماماً، قصارى منجزاته تخدير بعض الناس وتدجين آخرين وتحقيق مكاسب شخصية لبعض الأفراد، لتحسين معيشتهم ووضعهم الاجتماعي، ولذا فهذا الخطاب يحوز يوماً بعد يوم على أوسمة الثناء ونياشين الشكر من أفراد تلك الطبقة.
قبل سنوات، استمعت لنقد الدكتور أيمن الظواهري لحركة الإخوان المسلمين في مصر، وكيف أن الحركة لم تحقق منجزاً يُذكر فيما يخص تطبيق الشريعة طوال نصف قرن من العمل السياسي والدعوي، فقلت في نفسي: إذا كان الظواهري يعيب على جماعة الإخوان عدم تحقيقهم لإعادة حاكمية الشريعة في بلدهم، فإن للمخالف أن يرد نفس السؤال على جماعة الجهاد، التي تزعمها الظواهري زماناً، والتي أصبحت اليوم في الواقع المصري أثراً بعد عين، بينما بقيت تلك الجماعة المنتَقدة متغلغلة في شرايين الحياة العامة، مستعصية على الهراوة الأمنية المسلطة على رأسها طوال ربع قرن من العمل بقانون الطوارئ، ومشكّلة التحدي الأكبر للاستبداد باتفاق المراقبين.
وما كان لهذه المنجزات أن يُكتب لها البقاء، لو سلكت جماعة الإخوان منهج جماعة الجهاد في قتل السياح والتفجير والتدمير، وما كان لهذه المنجزات أن تبقى كذلك لو سلكت طريقة الاكتفاء بالوعظ المباشر، ورفع المقولة الشهيرة ’’من السياسة ترك السياسة’’، أو الاكتفاء برفع عرائض التوسل والتسول للإصلاح، هذه كلمة حق ينبغي أن تقال ولا تستجر البعض غلواء الخصومة الحركية والفكرية لنفيها أو التعامي عنها.
إن العمل الدعوي والإصلاحي المنظم يشكل مصلاً ضد التشرذم والتشظي لدى الحركة الإصلاحية، وإذا قربنا عدسة الرصد في واقعنا المحلي، نجد أن تعامل تلك التيارات التي تُعلي من قيمة الاجتماع ووحدة العمل الدعوي مع المنحرفين عن منهجها داخل أروقتها، كان يعمد إلى الاحتواء والتفهم والنقد الهادئ والتطاوع والحوار المباشر، وذلك لوجود أرضية قوية للاجتماع ونبذ الافتراق، وفي الجهة الأخرى، كانت التيارات الأخرى تصبّح الناس وتمسيهم بسلخ رمز من رموزها أو كادر من كوادرها، دون أن يطرف لها جفن!! ودون أن يُتاح لكافة الأطراف الاجتماع والتشاور وفهم وجهة نظر المخالف، إذ إن الارتجالية والفوضوية التي نشأت عليها، جعلت نظرتها قاصرة عند الأخطاء القريبة المشاهدة دون مراعاة للأهداف الإستراتيجية للحركة الدعوية والإصلاحية.
إن تبعات الارتجال والفوضوية لا تقف عند هذا الحد، بل تقفز إلى بُنية الحركة الإسلامية بالتخلخل والاضطراب، إذ يسهل على القوى النافذة توظيف بعض رموزها وكوادرها لأهدافها الخاصة، وفي العمل الجماعي والتشاوري، تكون أسوأ الحالات في التعامل مع تلك القوى، هو إجراء عملية مقايضة يقررها أهل الرأي والعلم في الحركة الدعوية، وهذا من حيث الأصل لا حرج فيه شرعاً وعقلاً وواقعاً.
إذا كان الإسلاميون يمنّون أنفسهم بالإصلاح، فلا نهوض ولا قيام لأي عملية إصلاحية بجهود فردية عشوائية، هذا واضح بيّن لكل من قرأ سير المصلحين على مر التاريخ، وحالة ’’النكسة المنهجية’’ لدى رجيع الصحوة، ونبز المخلصين لثوابت الحركة الإسلامية بالشعاراتية والخطابية، ينبغي ألا تهز يقينهم بسنن الله في التغيير والإصلاح، فنحن نرى هذا الرجيع في كل عام ’’يتخبطون’’ مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون.
.العصر
27-7-2009
إذا كان الإسلاميون يمنّون أنفسهم بالإصلاح، فلا نهوض ولا قيام لأي عملية إصلاحية بجهود فردية عشوائية، هذا واضح بيّن لكل من قرأ سير المصلحين على مر التاريخ، وحالة ’’النكسة المنهجية’’ لدى رجيع الصحوة، ونبز المخلصين لثوابت الحركة الإسلامية بالشعاراتية والخطابية، ينبغي ألا تهز يقينهم بسنن الله في التغيير والإصلاح، فنحن نرى هذا الرجيع في كل عام ’’يتخبطون’’ مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون.
عندما يتأمل المسلم في الكتاب والسنة، يجد أن كثيراً من النصوص الشرعية الآمرة بالتغيير والإصلاح، أخبرت بوجود ’’طائفة’’ أو ’’أمة’’ أو’’ فرقة’’، تضطلع بهذه المهمة العظيمة، كقول الله تعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، وكقوله تعالى (فولا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، وكذلك جاء الخبر النبوي ببقاء الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)، وإذا تأملنا العالم من حولنا وجدنا أن الدول المتقدمة، فضلاً عن الأفراد، آمنت بأهمية العمل الجماعي، فشرعت منذ عقود في وضع لبنات مشاريع ومؤسسات ذات أبعاد سياسية واقتصادية وعسكرية كما فعلت الدول الأوربية عبر الاتحاد الأوربي أو الولايات المتحدة عبر إحياء حلف الناتو بعد تواري دوره بُعيد سقوط المعسكر الشرقي.
وفي ’’جنة الديمقراطية’’ الموعودة التي يبشر بها عامة المثقفين والساسة والإعلام العربي والغربي، لا يمكن أن تكتب السيادة أو الانتشار لفكرة أو مشروع إلا بعمل جماعي منظم، وتخطيء بعض نخبنا المثقفة والدعوية في التنفير من أي عمل إسلامي جماعي منظم، بحجة أنها هذا يؤدي لانعزال التيار عن المجتمع فكرياً واجتماعياً، أو مستدلين ومستنسخين لبعض الأفكار والرؤى القادمة من الغرب لتنزيلها على واقعنا، مع غفلتهم عن الفروق الجوهرية بين واقعنا وواقعهم.
إن الفرق الجوهري بين الصورتين، أن تلك المجتمعات الغربية، كشعوب ومثقفين وساسة، قد قطعوا أمرهم منذ عقود طويلة، واتفقوا على عقد اجتماعي آمنت به جميع الأطراف، والجميع يرى نفسه أميناً على هذا العقد وحارساً له، فالعدل والحريات والتنمية، إن لم تسهم في تحقيقها الدوافع الأخلاقية والمحركات الفكرية، فإن مصلحة النخب الخاصة لا تتحقق إجمالاً إلا بتحقيق هذه الحقوق والحريات، ولو باستغفال الشعوب وتخديرها وتحريكها عبر الإعلام دون قهرها وغصبها حقوقها.
وأما في العالم العربي والإسلامي، فثمة طبقة سميكة من النافذين ورجال الأعمال والشيوخ والدوائر الاجتماعية والإقليمية، والمرتبطة جينياً بإبقاء الوضع على ما هو عليه، للحفاظ على مكتسباتها ورفاهيتها وميزاتها، وهذه الطبقة المخملية لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد هموم الأغلبية المطحونة إلا بما يكفل بقاءها وتقلبها في هذا النعيم الدنيوي، وهي لا تقدم أثماناً تستحق الإشادة إلا كلما شعرت بالخطر على ميزاتها ووضعها الاستثنائي، ويخطئ الإسلاميون وعامة المثقفين والعقلاء في العالم العربي إذا ظنوا أن تلك الطبقة سوف تتخلى عن امتيازاتها طوعاً واختياراً. كما أن الخطيئة تكون أكبر إذا ظنوا أن التغيير يكون عبر أعمال عنف طائشة تفتت المجتمع وتدمر مقدراته وتعبث بأمنه،
والذي أريد أن أخلص إليه في هذه النقطة، أن بعض المثقفين والدعاة يستنسخون خطاباً غربياً رومانسياً جميلاً عن العمل والإنتاج والترقي الحضاري والتنموي والوئام الفكري، ولكنهم ينزلونه على واقع مختلف تماماً، قصارى منجزاته تخدير بعض الناس وتدجين آخرين وتحقيق مكاسب شخصية لبعض الأفراد، لتحسين معيشتهم ووضعهم الاجتماعي، ولذا فهذا الخطاب يحوز يوماً بعد يوم على أوسمة الثناء ونياشين الشكر من أفراد تلك الطبقة.
قبل سنوات، استمعت لنقد الدكتور أيمن الظواهري لحركة الإخوان المسلمين في مصر، وكيف أن الحركة لم تحقق منجزاً يُذكر فيما يخص تطبيق الشريعة طوال نصف قرن من العمل السياسي والدعوي، فقلت في نفسي: إذا كان الظواهري يعيب على جماعة الإخوان عدم تحقيقهم لإعادة حاكمية الشريعة في بلدهم، فإن للمخالف أن يرد نفس السؤال على جماعة الجهاد، التي تزعمها الظواهري زماناً، والتي أصبحت اليوم في الواقع المصري أثراً بعد عين، بينما بقيت تلك الجماعة المنتَقدة متغلغلة في شرايين الحياة العامة، مستعصية على الهراوة الأمنية المسلطة على رأسها طوال ربع قرن من العمل بقانون الطوارئ، ومشكّلة التحدي الأكبر للاستبداد باتفاق المراقبين.
وما كان لهذه المنجزات أن يُكتب لها البقاء، لو سلكت جماعة الإخوان منهج جماعة الجهاد في قتل السياح والتفجير والتدمير، وما كان لهذه المنجزات أن تبقى كذلك لو سلكت طريقة الاكتفاء بالوعظ المباشر، ورفع المقولة الشهيرة ’’من السياسة ترك السياسة’’، أو الاكتفاء برفع عرائض التوسل والتسول للإصلاح، هذه كلمة حق ينبغي أن تقال ولا تستجر البعض غلواء الخصومة الحركية والفكرية لنفيها أو التعامي عنها.
إن العمل الدعوي والإصلاحي المنظم يشكل مصلاً ضد التشرذم والتشظي لدى الحركة الإصلاحية، وإذا قربنا عدسة الرصد في واقعنا المحلي، نجد أن تعامل تلك التيارات التي تُعلي من قيمة الاجتماع ووحدة العمل الدعوي مع المنحرفين عن منهجها داخل أروقتها، كان يعمد إلى الاحتواء والتفهم والنقد الهادئ والتطاوع والحوار المباشر، وذلك لوجود أرضية قوية للاجتماع ونبذ الافتراق، وفي الجهة الأخرى، كانت التيارات الأخرى تصبّح الناس وتمسيهم بسلخ رمز من رموزها أو كادر من كوادرها، دون أن يطرف لها جفن!! ودون أن يُتاح لكافة الأطراف الاجتماع والتشاور وفهم وجهة نظر المخالف، إذ إن الارتجالية والفوضوية التي نشأت عليها، جعلت نظرتها قاصرة عند الأخطاء القريبة المشاهدة دون مراعاة للأهداف الإستراتيجية للحركة الدعوية والإصلاحية.
إن تبعات الارتجال والفوضوية لا تقف عند هذا الحد، بل تقفز إلى بُنية الحركة الإسلامية بالتخلخل والاضطراب، إذ يسهل على القوى النافذة توظيف بعض رموزها وكوادرها لأهدافها الخاصة، وفي العمل الجماعي والتشاوري، تكون أسوأ الحالات في التعامل مع تلك القوى، هو إجراء عملية مقايضة يقررها أهل الرأي والعلم في الحركة الدعوية، وهذا من حيث الأصل لا حرج فيه شرعاً وعقلاً وواقعاً.
إذا كان الإسلاميون يمنّون أنفسهم بالإصلاح، فلا نهوض ولا قيام لأي عملية إصلاحية بجهود فردية عشوائية، هذا واضح بيّن لكل من قرأ سير المصلحين على مر التاريخ، وحالة ’’النكسة المنهجية’’ لدى رجيع الصحوة، ونبز المخلصين لثوابت الحركة الإسلامية بالشعاراتية والخطابية، ينبغي ألا تهز يقينهم بسنن الله في التغيير والإصلاح، فنحن نرى هذا الرجيع في كل عام ’’يتخبطون’’ مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون.
.العصر