ما من إنسان مهما كان موقعه وأيا كان وصفه إلا ويحتاج إلى رفقاء وجلساء وبطانة تهديه وترشده وتصوب نشاطه، وأكثر من يحتاج لذلك هم قادتنا في العالم العربي، فهم بحاجة ماسة لمخلصين ومحبين صادقين يخلصون لهم الحب ويكنون لهم الود، ولكن اختيارهم لأصدقاء مخلصين لهم ولأوطانهم للأسف لم يكن من اهتماماتهم وأولوياتهم، لأن مثل هؤلاء الأصدقاء لن يسمحوا لهم بالعبث وسيظلون ينغِّصون صفوهم بالنصح والعظة، وبالتالي فاختيارهم لرفقاء سوء يساعدهم في تحقيق مصالحهم الخاصة، ومن السهولة إغرائهم حتى يصمتوا؛ وبهذا تصبح الممتلكات العامة ثروة تقسم بين أطراف معيّنة وللقادة الحظ الأوفر ثم بعد ذلك كلٌّ يسخِّر منصبه كيف شاء .
هذا هو الواقع الذي نعيشه في عالمنا اليوم، أصدقاء ذوو مصالح خاصة يلوون أفكارهم حيث دارت مصالحهم، فكل من مدح وجامل فهو المقرب الذي يسمع له، فليس هناك مكان للصادقين في محيط قياداتنا، وإذا وقع أحد النزيهين في شباكهم سُلِبت حركته وحيويته وضعف نشاطه ووطنيته فيصير إلى أحد أمرين:- إما أن يؤثّر عليه من خلال المجالسة والإغراء فيقع في مصيدة المصالح ويصير أشد شراهة من غيره؛ وإما يكيد عليه النفعيُّون الذين لم يكن لصالحهم بقاء أناس شرفاء قرب هؤلاء يقدمون لهم الرأي الرشيد ويشيرون لهم بالفكر السديد، فيحافظون على خلقهم وتوجهاتهم ما يؤدي إلى حفظ مكتسبات البلاد ومقدراتها وثوابتها وخصوصياتها. فالمفسدون لا يصلح- برأيهم- أن يكون معهم وبالقرب منهم أمثال هؤلاء فكلما وجِدَ شخص مخلص وفي مكان هام يخدم مصلحة الوطن ويحرص على نفع الأمة؛ كلما نظر النفعيون إلى موقعه فيضيقون عليه حتى يتبوءوا تلك المواقع فينهبون دون تورّع ولا مهابة.
وهناك نماذج كثيرة في وطننا العربي إذا تتبعت بطانتهم لن تجد إلا القليل من بطانة الخير، وإن وجدت، فتصبح ملمِّعة لوجه الحاكم لا أقل ولا أكثر، فلا قيمة لها ولا أثر لوجودها، حتى إذا جاء وقت الحاجة إليها دعيت لوجبة طعام واسترقت منها مواقف وتصريحات وانتهى دورها هنا.
وقد أوضحت لنا تعاليم ديننا الحنيف ضرورة اصطحاب البطانة الصالحة والتحذير من البطانة السيئة كما جاء في قوله تعالى : قال تعالى : [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] ( آل عمران: 3/118) وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى البطانتين اللتين تلازمان الملوك والخلفاء وذلك كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه. فالمعصوم من عصم الله تعالى». [ صحيح البخاري، 6611 و7198 ]. وفي رواية أخرى لهذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من والٍ إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا ، فمن وُقي شرها فقد وُقي، وهو من التي تغلب عليه منهما. [ صحيح / صحيح سنن النسائي للألباني، 4212 ].
ونسى هؤلاء أن من كان قبلهم كان ملكهم أكبر وسلطانهم أوسع ومع ذلك كان ينادي أحدهم من يجلس معه من العلماء والمربين والوعاظ ليذكروهم بأيام لله ووعده ووعيده ، فهذا هارون الرشيد طلب يوما ماء ليشرب، ثم قال لابن السماك : عِظني. فقال له: بالله يا أمير المؤمنين لو مُنعت هذه الشربة بكم تشتريها؟ قال بنصف ملكي، قال: لو مُنعت خروجَها بكم كنت تشتريه؟ قال بنصف ملكي الآخر، فقال إن مُلكا قيمته شربة ماء لجدير أن لا ينافس فيه، فبكى هارون. ويذكر أيضا أن الفضيل: قال: قال لي هارون: عِظني. فقلت: يا حسن الوجه حِساب الخَلق كلهم عليك، فجعل يبكي ويشهق فرددت عليه وهو يبكي ، فهل يعي قادتنا ضرورة أن يكون لهم بطانة خير؟أم أصبح لا مكان ولا مكانة للشرفاء في بطانة زعاماتنا؟
.مفكرة الإسلام
فؤاد الصوفي
مدير موقع الوفاق الإنمائي للدراسات والبحوث