د.علي الصلابي
قال تعالى: “يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ”.
خرجت علينا الأبواق الإعلامية المأجورة وبعض المنتسبين لأهل العلم ممن تبنوا أساليب الطعن والتشويه ونشر الادعاءات الكاذبة حول تاريخ الدولة الإسلامية العثمانية وسلاطينها العظام، وروجوا لتلك الادعاءات بطريقة لا موضوعية ومليئة بالاتهامات والافتراء، وادعوا بأن مرحلة حكم الدولة العثمانية للبلاد العربية كانت مرحلة مظلمة تسوها المظالم والبطش والتنكيل والطغيان، وعملهم هذا وظف خدمةً للثورات المضادة وأعداء الإنسانية والحرية والسلام والأجهزة الاستخباراتية التي تحارب إرادة الشعوب، وهو الشيء نفسه رأيناه في مسلسل “ممالك النار”، ومن تلك الشبهات والافتراءات المنتشرة:
الادعاء بأن السلطان العثماني سليم الأول قام بقتل آلاف المصريين وأحرق القاهرة عندما دخلها عام 1517م.
العثمانيون ارتكبوا جرائم بشعة حين دخلوا العراق عام 1534م.
قام القائد العثماني فخري باشا بمهاجمة المدينة المنورة ومكة المكرمة وسرق الحجر الأسود ونقله إلى إستانبول.
ارتكب ولاة الدولة العثمانية مجزرة دامية في قبيلة الجوازي الليبية، وقمعوا انتفاضة أهل تاجوراء التي قامت ضد ارتفاع الضرائب وسوء الأحوال المعيشية.
وحرصاً مني على تبيان الحقيقية التاريخية والمحافظة على تاريخ الأمة الإسلامية العظيمة وحضارتها ودور العثمانيين فيها ولحرصي على هداية هؤلاء الناس، ومحاولة إخراجهم مما هم فيه خدمة لمشاريع سياسية تهدم المجتمعات وتسيء لماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، لذلك عدت إلى المصادر التاريخية من منابعها، وأردت التحقق من كل ما ورد من تشويه بعيداً عن الافتراء والكذب واستغباء الآخرين، وذلك لله ثم للتاريخ ولأبناء الأمة.
التشويه الأول: ما قيل حول دخول سليم الأول إلى القاهرة وقتله آلاف المصريين الأبرياء!
ادعوا كذباً بأن السلطان العثماني سليم الأول عندما دخل إلى القاهرة قتل عشرين ألف مواطن مصريٍ بريءٍ، وأحرق البلاد، وبأن السلطان أرسل العلماء والحرفيين إلى إستانبول، وعاشت البلاد المصرية سنوات من الظلم والجوع والفقر والحرمان. فهل هذا الادعاء صحيح!؟
استشهد أهل التشويه والتزوير بالمؤرخ المصري ابن إياس، وشهادة هذا المؤرخ مجروحة في كل ما يتعلق بالعثمانيين، إذ أن محمد بن أحمد بن بركات بن اياس نفسه من المماليك وقد اتصل أبوه مع البلاط المملوكي، فهو ذو أصول شركسية، ومعروف بعدائه وبغضه للعثمانيين وللسلطان سليم تحديداً، وذلك لأنهم قضوا على دولة أجداده.
غالباً ما يُقصد عندما يذكر أن سليم قام بمجزرة في القاهرة، بأنه قتل كل من له صلة بالحكام المماليك السابقين، ولكننا إذا نظرنا إلى وصف المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي وهو يصف دخول سليم إلى مصر فيقول: “ولما خلص له أيّ السلطان سليم أمر مصر عفا عن من بقي من الجراكسة وأبنائهم، ولم يتعرض لأوقاف السلاطين المصرية، بل قرر مرتبات الأوقاف والخيرات والعلوفات، وغلال الحرمين والأنبار، ورتب للأيتام والمشايخ والمتقاعدين، ومصارف القلاع والمرابطين، وأبطل المظالم والمكوس والمغارم، ثم رجع إلى بلاده، وأخذ معه الخليفة العباسي، وانقطعت الخلافة والمبايعة، وأخذ معه ما انتقاه من أرباب الصنايع التي لم توجد في بلاده، بحيث إنه فقد من مصر نيف وخمسون صنعة”[1].
وأضاف في الثناء على العثمانيين، قائلاً: “وكان العثمانيون في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة بعد الخلفاء المهديين، وأشد من ذب عن الدين، وأعظم من جاهد المشركين، فلذلك اتسعت ممالكهم بما فتح الله على أيديهم، وأيدي نوابهم، وملكوا أحسن المعمور من الأرض، ودانت لهم الممالك في الطول والعرض، هذا مع عدم إغفالهم الأمور، وحفظ النواحي والثغور، وإقامة الشعائر الإسلامية والسنن المحمدية، وتعظيم العلماء وأهل الدين، وخدمة الحرمين الشريفين، والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع، فتحصنت دولتهم، وطالت مدتهم، وهابتهم الملوك، وانقاد لهم المالك والمملوك”[2].
ذكر رائد التاريخ الاجتماعي المصري الدكتور محمد أنيس في كتابه (الدولة العثمانية والشرق العربي): “ومن أعمال سليم وهو في القاهرة عفوه عن البقية الباقية من المماليك، فأصدر أمراً بعدم التعرض لهم ولممتلكاتهم وباستمرار صرف مرتباتهم كما جرت العادة، ليحتفظ بهم كعنصر هام في إدارة البلاد”[3]. وهذه الروايات التاريخية لمؤرخين مصريين مشهود لهم بصدقيتهم كفيلة بإثبات زيف ما قيل عن دخول العثمانيين إلى مصر بعد إنهاء الحكم المملوكي لها، ويمكننا الاستناد عليها في حديثنا عن بدايات الدخول العثماني لمصر، ونحن لم نستعرض جميع الروايات التي تناولت الحدث؛ لأن الموضوع يحتاج منا لعشرات الصفحات التي تثبت الأساليب السلمية والعسكرية للعثمانيين، وطريقة تعاملهم مع سكان البلاد التي دخلوها.
التشويه الثاني: ما قيل عن دخول العثمانيين إلى بغداد وقتلهم لعشرين ألف عراقي بريءٍ ونهب خزائن العراق وإرسالها إلى إستانبول!
ادعى المشوهون بأن السلطان العثماني سليمان القانوني عندما دخل إلى بغداد، وطرد الصفويين منها، قام بقتل أكثر من عشرين ألف عراقي وقام بنهب ثروات بلاد الرافدين وإرسالها إلى عاصمة بلاده، فما صحة هذا القول!؟
في الحقيقة، وإن كانت هذه الأبواق قد وجدت ضالتها في تاريخ ابن اياس فاستشهدوا به في الادعاء الأول، فإن الادعاء الثاني يفتقر إلى الدليل أو المصدر التاريخي، وذلك لأنه في حقيقة الأمر لم يجدوا مصدراً يدعم قولهم والأباطيل التي ساقوها، فليس هناك مصدر تاريخي يذكر هذه الرواية التي تم اختلاقها. وسنلقي الضوء على بعض المرويات في المراجع التاريخية لنرى ماذا فعل السلطان سليمان بعد دخوله بغداد:
يذكر المؤرخ محمد فريد بك هذا الحدث التي كان في عهد السلطان سليمان القانوني في كتابه (تاريخ الدولة العلية العثمانية)، بالقول: “وقصد مدينة بغداد لفتحها، فلما اقترب منها تقدم إبراهيم باشا الصدر الأعظم وسر عسكر الجيوش العثمانية لاحتلالها قبل قدوم السلطان فدخلها في 31 ديسمبر/ كانون الأول عام 1534، ووجدها خاوية من الجنود إذ تركها حاكمها بكل جنوده هرباً من الوقوع في قبضة الجنود العثمانية فيذيقونه الحمام. وبعد أن أقام السلطان في مدينة بغداد مدة أربعة أشهر رتب الإدارة الداخلية في خلالها، وزار قبور الأئمة العظام وقبر الإمام علي رابع الخلفاء الراشدين (رضي الله عنه) في مدينة النجف وقبر ابنه الحسين في كربلاء، وأرسل الخطابات إلى البندقية وويانه إعلاناً بانتصاره على الشاه طهماسب وافتتاحه مدائن تبريز وبغداد”.
ذكر الدكتور محمد أنيس بأن تدخل الدولة العثمانية في العراق جاء بناء على طلب من سنّة العراق التي كانت تتضرع إلى السلطان سليمان لإنقاذها من الحكم الشيعي (الصفوي). وأن السلطان سليمان بعد دخوله إلى بغداد حرص على عدم الإساءة على مشاعر الشيعة باعتباره سلطاناً سنياً. فزار الكثير من أضرحة الشيعة بالإضافة إلى أضرحة الأئمة السنة، كما أنه أوقف مقاطعات مغلة للمقاصد الدينية للشيعة والسنة على السواء، وأعاد السلطان سليمان بناءَ ضريح الإمام أبي حنيفة بعد أن هدمه الإيرانيون الشيعة، ودنسوا رفاته[4].
ومما سبق ذكره نجد بأنه لم تحدث مثل هذه المجزرة إطلاقاً، حيث أن بغداد قد سُلمت تسليماً للسلطان العثماني بعد أن فرت حاميتها الصفوية، وعليه فلم يحدث اشتباك أو معركة، وفتحت بغداد بدون إراقة دماء، وحتى بعد دخول السلطان سليمان إلى بغداد لم يصطدم مع أهاليها حتى الشيعة منهم، بل سعى إلى الإصلاح وإلى كسب ود الأهالي وانتهج سياسة عادلة بين الطوائف عززت السلم الداخلي في البلاد، على عكس السياسة الطائفية الدموية التي اتبعتها الدولة الصفوية.
التشويه الثالث: ما قيل عن قيام القائد العثماني فخري باشا بقتل وتهجير أهل المدينة المنورة، وقام بنقل الحجر الأسود وميزاب الكعبة إلى إستنابول!
من المعلوم أن السلطنة العثمانية ومسيرة الجهاد والإصلاح الدستوري والسياسي والعسكري العثماني انتهت فعلياً بعزل السلطان عبد الحميد الثاني ووصول حزب الاتحاد والترقي إلى حكم الدولة العثمانية عام 1909، ومع ذلك وجدت بعض الشخصيات التي استمرت في الدفاع عن الأراضي الإسلامية وصون مقدساتها، ومن هؤلاء القائد العثماني فخري باشا والذي كلف بحماية المدينة من هجمات الإنكليز والقوات الموالية لهم والتابعة للشريف حسين في فترة الحرب العالمية الأولى. وهنا نؤكد بأنه لا صحة ولا أصل للادعاء المذكور، وذلك لأن فخري باشا لم تطأ قدماه مكة المكرمة، وكانت حكومة الاتحاد والترقي قد أمرته بالتوجه إلى المدينة المنورة في تاريخ 28 مايو/ أيار عام 1916م، فوصلها في 31 مايو/ أيار من العام نفسه، وفور وصوله قام بإخبار جمال باشا بأن الشريف حسين سيعلن انفصاله عن الباب العالي خلال بضعة أيام[5]. وبالفعل فقد أعلن الشريف حسين خروجه ضد الدولة العثمانية تحت مسمى “الثورة العربية” في 10 يونيو/ حزيران عام 1916م[6].
وهذا يثبت أن فخري باشا لم يذهب إلى مكة أصلاً، لأنه سرعان ما سقطت مكة والمناطق المحيطة بها بيد قوات الشريف حسين (المتعاون مع الإنكليز)، فهو ضرب الحصار على المدينة إلا أن حاميتها بقيت صامدة بقيادة فخري باشا لمدة عامين وسبعة أشهر، بفضل الإجراءات العسكرية الناجحة التي اتخذها فخري باشا.
إذن، بعد الإعلان عن قيام الثورة العربية، قام الأمير فيصل بمحاولات لقطع الإمدادات عن المدينة، وهاجم هو وأنصاره الخط الحديدي الحجازي، ودمروا بعض محطاته. فأضحى فخري باشا محاصراً تماماً دون إمداد من الأستانة وجمال باشا في الشام، الذين أعلموه بعدم استطاعتهم إرسال تعزيزات بسبب الأوضاع السيئة التي تعيشها الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى ووجه أمر له بإخلاء الحجاز وتسليمه.
فكيف لفخري باشا أن يجلب التركمان إلى المدينة المنورة بدلاً من العرب الذين هجرهم!؟ وما مصلحته في ذلك، وخصوصاً وأن المدينة على وشك السقوط، وقد سلمت بالفعل في نهاية الأمر باتفاق بين فخري باشا وبين المحاصِرين من قوات الشريف حسين!؟
يجدر بالذكر أننا وجدنا في أحد المصادر أن فخري باشا تمكن من إخلاء المدينة من بعض السكان والعسكر أيضاً من المدينة واستهدف أشراف المدينة فأخرجهم منها، وذلك في شهر ديسمبر/ كانون الأول عام 1916، ولكن تعليل ذلك جاء على عكس ما قصده المشوهون؛ فبعد اشتداد الحصار ونقص المؤن والطعام والزاد، خشي فخري على أهالي المدينة، فقام بإخراج بعضهم مع بعض الكتائب العسكرية التي لم يكن لها حاجة وضرورة أثناء الحصار، وذلك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وسعياً لإطالة مدة الحصار من خلال توفير المؤن انتظاراً لتعزيزات قد تصل، لكنها لم تصل أبداً. كما أن بعض من أخرجهم فخري باشا كانوا ممن ثبت تعاملهم مع قوات الشريف حسين[7]. وبالتالي، نحن نتحدث عن فترة حكم الاتحاد والترقي التي لم تكن تمثل التاريخ الجهادي للسلاطين العثمانيين ودورهم ومكانتهم في نفوس جميع أبناء الأمة، وما قيل حول فخري باشا هو تشويه للحقيقة التاريخية، ومحاولة وسم التاريخ الإسلامي العثماني وعهود سلاطينه العظام، بما فعله الاتحاديون في مرحلة سيطرتهم على السلطة في العقدين الأخيرين من تاريخها (1909 – 1924م).
التشويه الرابع: الادعاء بأن مجزرة قبيلة الجوازي الليبية ارتكبت تحت عين الدولة العثمانية
إن الحديث عن مجزرة قبيلة الجوازي، ومحاولة لإلصاق تلك الجريمة بالدولة العثمانية رسمياً، إنه ادعاء باطل وفيه خلط تاريخي في تناول تلك الحادثة دون الأخذ بالاعتبار الحوادث التاريخية الجادة.
وفي هذا الصدد يمكن القول، بأن المجزرة قد حدثت بسبب ظروف سياسية مرتبطة بصراع القرمانليين على الحكم والإقطاعات بين يوسف باشا وأبنائه في طرابلس التي تحولت إلى دولة مستقلة، أضف لذلك، بأن الأسرة القرمانلية لم تكن خاضعة للدولة العثمانية في تلك الفترة إلا إسمياً. فالدولة القرمانلية كانت منفصلة عن العثمانيين تماماً في سياساتها الداخلية والخارجية؛ فكيف يتم نسب هذه الحادثة للدولة العثمانية، والحكم القرمانلي يومها عمره قرابة المائة عام، منذ أن خلع أحمد القرمانلي آخر الباشوات العثمانيين (في عهدهم الأول) وذلك عام 1711![8]؟
حيث ذكر محمود ناجي في كتابه (تاريخ طرابلس الغرب) عن الحالة في ليبيا تلك الفترة، قائلاً: “إن طرابلس في عهد هذه الأسرة الحاكمة التي تأسست بأحمد بك أخذت شكل بلاد مستقلة أكثر منها إيالة وجعل القرمانليون نفوذ الدولة العثمانية التي تعد متبوعهم كأن لم يكن، وبذلك أصبحوا دون استئذان يحاربون الدول الأوروبية ويعقدون معها المصالحات والمعاهدات، واتخذوا لأنفسهم بين الأهالي وبدون حياء لقب أمير المؤمنين السامي…”[9].
وذكر نيكولاي بروشين بأن أحمد القرمانلي بعد أنه اكتسب شرعية أمام الليبيين بالحصول على ألقاب بيلرباي وباشا من السلطان العثماني عام 1722، انتقل إلى خطوة تالية وهي تحقيق الانفصال عن الباب العالي وترسيخ سلطته المطلقة على الولاية وانتهى في واقع الحال إلى تأسيس دولة إقطاعية مستقلة لا تعترف إلا شكلياً بالسلطة العليا للسلطان التركي، وقسم البلاد إلى مناطق عين على كل واحدة منها قائداً من الموالين له[10]. ويعزز ذلك أن أحمد القرمانلي مؤسس هذه الدولة، عندما وصل للحكم أقام مجزرة شبيهة لمجزرة الجوازي بقادة الإنكشارية وكبار جندهم، وجعل من قبيلة المحاميد العربية سلاحه وشوكته. وحافظ المحاميد على ولائهم للأسرة القرمانلية، وكانت من رسائل غومة المحمودي للباب العالي، عندما رفع عصا الطاعة في ثورته على العثمانيين في عهدهم الثاني، هو تسليم الحكم لحفيد القرمانلي، حيث بجَّل حكمهم، وعظَّم عهدهم، وكانت من وصية أحمد باشا القرمانلي لابنه محمد الذي استخلفه على الحكم أن يحفظ وده وعهده للمحاميد الذين ساعدوه في حكم طرابلس. ثم كيف حاربت سفن طرابلس لوحدها الحملات الأميركية إذا كانت تُحكم من الباب العالي؟ ولماذا أرسلت أوروبا أساطيلها البريطانية والفرنسية إلى يوسف القرمانلي وتهديدها له عندما ضاقت ذرعا بمهاجمته لسفنها، بدلاً من أن تراسل وتهدد السلطان في الأستانة؟
وما يؤكد ذلك، أنه في عام 1793م، وبينما كان الصراع دائراً بين علي باشا القرمانلي وأخيه يوسف باشا نزل أسطول علي بن آدم الجزائرلي مدعوماً من السلطان العثماني لاستعادة سلطة الدولة العثمانية في طرابلس، وكان الأسطول يحمل الأعلام التركية ومعه فرمان سلطاني وتسع سفن سلطانية، واستولى على العاصمة طرابلس، وزار الجزائرلي إستانبول وحصل على دعم السلطان العثماني سليم الثالث، وكان السلطان راغباً بتصفية الاستقلالية الكبرى لطرابلس الغرب وإلغاء وراثية الأسرة القرمانلية، ورغم ضعف السلطنة آنذاك جعلها مستعدة لتأييد أي مغامر يخدم السلطنة بحق وصدق. ولكن لكثرة استبداد الجزائرلي دعم الباب العالي عودة القرمانليين لحكم طرابلس بدعم من حمودة باي والي العثمانيين في تونس عام 1795م[11]، وتم تعيين أحمد القرمانلي باشا على طرابلس ونائبه يوسف باشا[12].
وما يدلنا على استقلالية القرمانليين عن الباب العالي والتبعية الاسمية لا أكثر، أنه في عهد يوسف باشا أراد السلطان العثماني محمود الثاني إعادة تنظيم الجيش العثماني وإيجاد قوات رديفة بجانب الإنكشارية، ولكن إنكشارية طرابلس رفضت الانصياع للنظام الجديد ووقفت بكل قواتها ضد الباب العالي. وعلى الرغم من أوامر محمود الثاني الصارمة إلى يوسف باشا بتطبيق النظام الجديد في الجيش بهدف التخلص من سلطة الإنكشارية، لكن بقيت دون تطبيق، واستعان يوسف باشا بفرق نظامية خاصة اسمها “الشاويشية” لحفظ دولته[13].
يمكن القول إن القبائل الليبية في تلك الفترة كانت منقسمة بين موالٍ ليوسف باشا وأخرى حصلت على دعم أخيه أحمد القرمانلي وابنه محمد فيما بعد، حيث شنَّت قبيلة الجوازي حروباً على قبائل العواقير والمغاربة في بنغازي وحاصرتهم لمدة خمسة أشهر فيما عُرف هذا الحصار بـ “عقل خريبيش” عام 1811م.
وتفيد بعض الروايات التاريخية أن الذي شجَّع قبيلة الجوازي للتسلط على بقية القبائل حتى قبائل خليج سرت وغزوهم ونهبهم هو تحالفهم مع أحمد القرمانلي، أخ يوسف القرمانلي، الذي عينه يوسف القرمانلي والياً على درنة عام 1809، رغم ما بدر منه قبل ذلك، عبر وساطات بريطانية. فقد دعم أحمد قبائل الجوازي الذين كانت تربطه بهم علاقات نسب. وهذا المبرر المنطقي الذي دفعه للهرب إلى مصر بعد أن وصل جيش ابن أخيه محمد باي، كما هربت قبائل الجوازي إلى غرب مصر أيضا.
لاحقاً، بعد عودة محمد باي القرمانلي مَزهواً بإنهاء خروج القبيلة عن سلطة القرمانليين في المنطقة الشرقية، اغترّ بنفسه للدرجة التي تمادى فيها وحاول طعن والده في إحدى لحظات غضبه، مما دفع والده إلى إبعاده للمنطقة الشرقية. ويبدو أن والده كان يحبه جداً حتى يجعله حاكماً على المنطقة الشرقية، بدل معاقبته على تعرضه له بخنجر مما أدى لقتل خادمة للباشا رمت نفسها أمام الخنجر دفاعاً عنه.
وبين عامي 1815 – 1816م 1816، وصل محمد الباي لبرقة والياً لأبيه ولكنه أقام تمرداً بين على سلطة والده من خلال قبائل الجوازي نفسها. وحينها قرر يوسف القرمانلي وضع حد نهائي لابنه البكر وأرسل له جيشاً بقيادة أصغر أبنائه يومها أحمد القرمانلي، الذي استطاع أن يهزم أخاه الذي فرّ هارباً لمصر، بينما قامت قبيلة الجوازي بمحاولة استرضاء يوسف القرمانلي بإرسال 22 فرداً من أبناء القبيلة ليبقوا رهائن في طرابلس، لتأكيد نيتها هذه المرة بعدم الخروج على حكمه مرة أخرى، لكن القرمانلي ما كان ليثق بهم مرة أخرى، لذلك عمل ابنه أحمد على تقريب مشائخهم لجواره، ليطمئنوا له ويَبقوا قُرب عينيه، خصوصاً وأن الأنباء التي كانت قادمة من مصر تقول عن عزم أخيه الأكبر للعودة إلى برقة بدعم من والي مصر، وربما سوف يسعى في حربه من خلال هذه القبيلة الخارجة على سلطان الدولة القرمانلية، والتي فقدت امتيازاتها السابقة.
من هذا السياق التاريخي، قرَّر أحمد القرمانلي العزم على قطع شوكة قبيلة الجوازي نهائيا، فبعد أن قرَّبهم لمجلسه وأحاطهم برعايته، دعا مشائخ وأفراد القبيلة من خلال «جاويش» من أبناء قبيلة الجوازي حتى يطمئنوا لنوايا الدعوةـ والذي كان ملتحقاً بخدمة الباي في طرابلس، حاملاً رسالة لهم تُفيد بتشريفهم إلى بنغازي لحضور حفل يقيمه الباي أحمد لتوزيع البرانيس الحمر على مشائخهم عرفانا من يوسف القرمانلي لولائهم له والدخول في طاعته.
وفي اليوم الخامس من سبتمبر، جاء مشائخ قبيلة الجوازي لمدينة بنغازي، إذ حضر 45 شيخاً لقصر الباي، حيث استقبلهم بترحاب كبير وشرب معهم القهوة، قبل أن تفتح الأبواب من الحجرات المجاورة ويخرج منها مماليك الباي وقتلوا البعض منهم، واعتقلوا البقية ليكملوا عليهم الواحد تلو الآخر. ثم هاجم جنود الباي مضارب ونجوع القبيلة التي غادرها الكثير من أبنائها نتيجة وصول أخبار مقتل مشائخهم، وأمَّا الأبناء الرهائن فقد تم قتلهم كلهم.[14]
إذن، فحادثة الجوازي كانت نتيجة صراع على السلطة بين أفراد الأسرة القرمانلية، وإن أية محاولة لإلصاق هذه الحوادث بالدولة العثمانية لا تغدو أن تكون محاولات بائسة، وادعاءات مغرضة لا تستند إلى منطق تاريخي أو حقائق علمية ذكرتها مصادر التاريخ الليبي أو الإسلامي العثماني.
ولا يمكن أن نسيان أو غض الطرف عن مجزرة قبيلة الجوازي التي ارتكبها الحاكم القرمانلي، وهو الذي يتحمل المسؤولية التاريخية، وجزاءه عند الله، لأنها جريمة لا يمكن قبولها أو تبريرها، وتخالف الفطرة الإنسانية السليمة. ولكن طالما أن الوالي العثماني محمد علي باشا هو من استقبل الجوازي في مصر وساندهم في انتفاضتهم ضد الحاكم القرمانلي، وبالتالي: لم ذلك التحريف التاريخي للحقائق؟ ولم لا نقول بأن الباب العالي زمن السلطان محمود الثاني أعطى أوامره لمحمد علي باشا والي مصر بمساعدة الجوازي ضد الحاكم القرمانلي واستقبالهم في مصر؟
ونختم ما ذهبنا إليه بما جاء في كتاب محمود ناجي (تاريخ طرابلس الغرب): “هاي هي ذي الدولة العلية العثمانية في هذا الوقت تعقد العزم على إنهاء صحائف القرمانليين الملوثة بالدماء فتتكرم بحصر نواياها الجميلة في أن يشمل الإيالة عهد من السعادة والاطمئنان وتتفضل بتحقيق ذلك بالقوة 1251” وأضاف: “في سنة 1251ه المباركة أرسلت الدولة العلية أسطولاً متألفاً من اثنتين وعشرين سفينة حربية تحمل ستة آلاف من العساكر النظاميين بقيادة الفريق مصطفى نجيب باشا فاحتلت إيالة طرابلس وامتلكتها من غير حرب…”[15].
التشويه الخامس: الافتراء بالقول بأن الأتراك حاصروا لبنان ومنعوا دخول الماء لها ومات مائتي ألف لبناني جوعاً وذلك عام 1919م:
لا يوجد في المصادر التاريخية ما يثبت أن العثمانيين حاصروا بيروت عام 1919، بل إن هناك مجاعة اجتاحت بلاد الشام، وذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتحديداً في بداية عام 1916.
تجدر الإشارة أنه في التاريخ الإنساني كله، في زمن الحروب والصراعات غالباً ما تحدث المجاعات وتنتشر الأوبئة وقد حدث هذا في مناطق عدة من العالم سواء خلال الحرب العالمية الأولى أو الثانية. وفي بلاد الشام وبالأخص في ما صار يعرف حديثاً بلبنان، حدثت بالفعل مجاعة عام 1916، وليس عام 1919، لكن أسبابها لا تعزى إلى حصار العثمانيين لبيروت، بل إن ذلك يتجاوز الاتهامات المباشرة والإسقاطات اللامنطقية.
يقول المؤرخ اللبناني يوسف الحكيم وهو أحد أبرز القومين العرب الذي كتب عن التاريخ العثماني وخاصة في حكم لبنان: “في مطلع نيسان عام 1915، بدت طلائع الجراد في سماء بيروت ولبنان وأخذت أسرابها تتوارد من الجنوب بكثرة هائلة حجبت وجه السماء عن العيون، مغيرة كل أخضر من غراس ونبات وعلى حدائق البيوت…إن مجرد ظهور الجراد إبان الحرب كان نذيرا للبنانيين بخطر المجاعة، فهب لمواجهتها التجار وشمر عن ساعد الجد كل محتكر لا تقف أطماعه في الربح عند حد”[16].
ويقول الحكيم كذلك: “كانت إساءة القائمين على العمل من مديرين ومتعهدين ومشرفين لواجباتهم من جهة، وجشع المتاجرين بقوت الشعب من جهة أخرى في مقدمة الأسباب التي حالت دون وصول الفقراء إلى حقهم من الخبز الضروري للحياة، فانتشرت المجاعة في لبنان ولجأ العديد من الفقراء إلى بيروت حيث افترشوا الأرض في الطرقات والتحفوا السماء”[17]. وهكذا من خلال هذه الاقتباسات البسيطة والصادرة عن واحد من أبرز مؤرخي التيار القومي العربي -المعروف بنقده للعثمانيين-فإن أسباب المجاعة مرتبطة أساسا بالجوائح وخاصة الجراد، والاحتكار وسوء التسيير وجشع كبار التجار.
لم تذكر الكثير من الدراسات المصدرية التي تناولت التاريخ العثماني وحكم لبنان وسورية بأن العثمانيون حاصروا بيروت عام 1919 لأنهم كانوا قد خرجوا من بلاد الشام قبل هذا التاريخ بفترة لا تقل عن سنة كاملة.
عند افتتاح معرض “لبنان في الوثائق العثمانية” الذي نظمه المركز الثقافي التركي “يونس أمره” في العاصمة اللبنانية بيروت. كشف السفير التركي في لبنان سليمان إينان أوزيلدز بأن لدى تركيا اليوم سجلات ضخمة من الوثائق التي ورثتها عن الدولة العثمانية حول أوضاع لبنان ومكانتها في الدولة العلية، فالأرشيف العثماني في إسطنبول يضم حالياً أكثر من 250 ألف وثيقة عن لبنان[18]، ومعظم تلك الوثائق لم يتم البحث فيها حتى الآن، وهذا يفسح المجال واسعاً أمام المؤرخين والباحثين العرب وغيرهم للتأكد من مثل تلك الحادثة وصحتها والتي تبين لنا عدم صحتها -كما وردت -نهائياً.
خاتمة:
هذا تحقيق أهديه للباحثين عن الحقيقة التاريخية ولأصحاب الضمائر الحية، فلماذا التشويه والتزوير والافتراء على تاريخ دولة تعتبر من الدول الإسلامية العظيمة التي تعاقبت على حكم الأمة، وكان قبلها عهد النبوة والخلافة الراشدة والدولة الأموية ثم العباسية، وتعاقبت خلالها دول السلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمماليك، كما لا يُنسى للدولة العثمانية دورها العظيم في نشر الدين الإسلامي في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبأنها حمت السواحل الإسلامية من الحملات الصليبية والصفوية.
وحقاً، لولا الله تعالى ثم الدولة العثمانية لما حافظت ليبيا وتونس والجزائر في شمال أفريقيا على هويتها الإسلامية، ولكانت الأراضي المقدسة في الحجاز مهددة من قبل حملات الصليبيين في الغرب، وبلاد الشام والعراق تحت وطأة حكم الصفويين من الشرق.
وفي نهاية المطاف، يمكننا القول: إن تلك الأكاذيب تبناها منتسبون لأهل علم وإعلاميون وظفتهم الأجهزة الاستخباراتية في سبيل التشويه ونشر الأباطيل، وهو باب خطير يفرق الصف ولا يجمع، ويهدد المجتمعات بالانهيار الكبير، ويرسخ لثقافة المناطقية والجهوية والقبلية التي تستغلها الأطراف الطامعة بخيرات أمتنا، والتي تعمل على استباحة دماء الأبرياء من الليبيين وغير الليبيين وتستنزف خيراتهم، فلا بد أن تكون رسائلنا مأسسة على مخافة الله والدعوة لحقن الدماء، والكف عن تشويه حقائق التاريخ الإسلامي، توظيفاً لأغراض سياسية وغايات شخصية، بل يجب مد يد السلام ودعوة الأطراف المتنازعة للحوار والسلم الأهلي، فإنها المنقذ الوحيد لليبيا والأمة شرقها مع غربها وشمالها مع جنوبها.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
والحمد لله رب العالمين.
مصادر التقرير:
الأمير شكيب أرسلان، مدونة أحداث العالم العربي ووقائعه (1800 – 1950) حسب التسلسل الزمني، تحرير يوسف حسين إيبش-توما توفيق عريضة-يوسف قزما خوري، لبنان، ط2، (2011)، ص 81.
حمزة تكين، “لبنان في الوثائق العثمانية… معرض يحكي تاريخ البلاد إبان الحكم العثماني”، جريدة رأي اليوم، بيروت، 16/3/2014.
عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، (2012)، ص 34.
محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي: (1514 – 1914)، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص 113 -114.
محمود ناجي، تاريخ طرابلس الغرب، ترجمة عبد السلام أجهم ومصطفى الأسطى، منشورات الجامعة الليبية، كلية الآداب، طرابلس، 1970، ص 159.
موقع الموسوعة الإسلامية (İslam Ansiklopedis)، وقف الديانة التركي (türkiye diyanet vakfı)، انظر: http://bit.ly/36hbvJz
نيكولاي بروشين، تاريخ ليبيا من منتصف القرن السادس عشر حتى مطلع القرن العشرين، ترجمة عماد حاتم، ط2 2001، دار الكتب الجديدة المتحدة، بيروت، 108 – 109.
وائل إدريس، “مذبحة قبيلة الجوازي بين الحقيقة والتزوير”، شبكة ميسلون للدراسات والإعلام،24/12/201، انظر: https://cutt.us/us2hF
يوسف الحكيم، بيروت ولبنان في عهد آل عثمان، دار النهار للنشر، الطبعة الرابعة، 1991، ص249.
يوكسل نظام أوغلو، “جبهة الحجاز عام 1917: انتشار الثورة العربية وخطة تخلية المدينة”، مجلة بيليغ التركية، العدد 66، صيف 2013، ص 130. انظر: http://bit.ly/2Rdub8I
[1] عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، (2012)، ص 34.
[2] الجبرتي، المرجع السابق، ص 34.
[3] محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي: (1514 – 1914)، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص 113 -114.
[4] محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي، ص. ص 136 -137.
[5] موقع الموسوعة الإسلامية (İslam Ansiklopedis)، وقف الديانة التركي (türkiye diyanet vakfı)، انظر: https://islamansiklopedisi.org.tr/fahreddin-pasa
[6] الأمير شكيب أرسلان، مدونة أحداث العالم العربي ووقائعه (1800 – 1950) حسب التسلسل الزمني، تحرير يوسف حسين إيبش-توما توفيق عريضة-يوسف قزما خوري، لبنان، ط2، (2011)، ص 81.
[7] يوكسل نظام أوغلو، “جبهة الحجاز عام 1917: انتشار الثورة العربية وخطة تخلية المدينة”، مجلة بيليغ التركية، العدد 66، صيف 2013، ص 130. انظر: http://bilig.yesevi.edu.tr/yonetim/icerik/makaleler/2407-published.pdf
[8] وائل إدريس، “مذبحة قبيلة الجوازي بين الحقيقة والتزوير”، شبكة ميسلون للدراسات والإعلام،24/12/201، انظر: https://cutt.us/us2hF
[9] محمود ناجي، تاريخ طرابلس الغرب، ترجمة عبد السلام أجهم ومصطفى الأسطى، منشورات الجامعة الليبية، كلية الآداب، طرابلس، 1970، ص 159.
[10] نيكولاي بروشين، تاريخ ليبيا من منتصف القرن السادس عشر حتى مطلع القرن العشرين، ترجمة عماد حاتم، ط2 2001، دار الكتب الجديدة المتحدة، بيروت، 108 – 109.
[11] بروشين، المرجع السابق، 145.
[12] بروشين، المرجع نفسه، 150.
[13] بروشين، المرجع نفسه، ص 161.
[14] وائل إدريس، المرجع السابق.
[15]محمود ناجي، تاريخ طرابلس الغرب، ص 170.
[16]يوسف الحكيم، بيروت ولبنان في عهد آل عثمان، دار النهار للنشر، الطبعة الرابعة، 1991، ص249.
[17] يوسف الحكيم، المرجع السابق، ص. ص250-251
[18]حمزة تكين، “لبنان في الوثائق العثمانية… معرض يحكي تاريخ البلاد إبان الحكم العثماني”، جريدة رأي اليوم، بيروت، 16/3/2014
قال تعالى: “يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ”.
خرجت علينا الأبواق الإعلامية المأجورة وبعض المنتسبين لأهل العلم ممن تبنوا أساليب الطعن والتشويه ونشر الادعاءات الكاذبة حول تاريخ الدولة الإسلامية العثمانية وسلاطينها العظام، وروجوا لتلك الادعاءات بطريقة لا موضوعية ومليئة بالاتهامات والافتراء، وادعوا بأن مرحلة حكم الدولة العثمانية للبلاد العربية كانت مرحلة مظلمة تسوها المظالم والبطش والتنكيل والطغيان، وعملهم هذا وظف خدمةً للثورات المضادة وأعداء الإنسانية والحرية والسلام والأجهزة الاستخباراتية التي تحارب إرادة الشعوب، وهو الشيء نفسه رأيناه في مسلسل “ممالك النار”، ومن تلك الشبهات والافتراءات المنتشرة:
الادعاء بأن السلطان العثماني سليم الأول قام بقتل آلاف المصريين وأحرق القاهرة عندما دخلها عام 1517م.
العثمانيون ارتكبوا جرائم بشعة حين دخلوا العراق عام 1534م.
قام القائد العثماني فخري باشا بمهاجمة المدينة المنورة ومكة المكرمة وسرق الحجر الأسود ونقله إلى إستانبول.
ارتكب ولاة الدولة العثمانية مجزرة دامية في قبيلة الجوازي الليبية، وقمعوا انتفاضة أهل تاجوراء التي قامت ضد ارتفاع الضرائب وسوء الأحوال المعيشية.
وحرصاً مني على تبيان الحقيقية التاريخية والمحافظة على تاريخ الأمة الإسلامية العظيمة وحضارتها ودور العثمانيين فيها ولحرصي على هداية هؤلاء الناس، ومحاولة إخراجهم مما هم فيه خدمة لمشاريع سياسية تهدم المجتمعات وتسيء لماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، لذلك عدت إلى المصادر التاريخية من منابعها، وأردت التحقق من كل ما ورد من تشويه بعيداً عن الافتراء والكذب واستغباء الآخرين، وذلك لله ثم للتاريخ ولأبناء الأمة.
التشويه الأول: ما قيل حول دخول سليم الأول إلى القاهرة وقتله آلاف المصريين الأبرياء!
ادعوا كذباً بأن السلطان العثماني سليم الأول عندما دخل إلى القاهرة قتل عشرين ألف مواطن مصريٍ بريءٍ، وأحرق البلاد، وبأن السلطان أرسل العلماء والحرفيين إلى إستانبول، وعاشت البلاد المصرية سنوات من الظلم والجوع والفقر والحرمان. فهل هذا الادعاء صحيح!؟
استشهد أهل التشويه والتزوير بالمؤرخ المصري ابن إياس، وشهادة هذا المؤرخ مجروحة في كل ما يتعلق بالعثمانيين، إذ أن محمد بن أحمد بن بركات بن اياس نفسه من المماليك وقد اتصل أبوه مع البلاط المملوكي، فهو ذو أصول شركسية، ومعروف بعدائه وبغضه للعثمانيين وللسلطان سليم تحديداً، وذلك لأنهم قضوا على دولة أجداده.
غالباً ما يُقصد عندما يذكر أن سليم قام بمجزرة في القاهرة، بأنه قتل كل من له صلة بالحكام المماليك السابقين، ولكننا إذا نظرنا إلى وصف المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي وهو يصف دخول سليم إلى مصر فيقول: “ولما خلص له أيّ السلطان سليم أمر مصر عفا عن من بقي من الجراكسة وأبنائهم، ولم يتعرض لأوقاف السلاطين المصرية، بل قرر مرتبات الأوقاف والخيرات والعلوفات، وغلال الحرمين والأنبار، ورتب للأيتام والمشايخ والمتقاعدين، ومصارف القلاع والمرابطين، وأبطل المظالم والمكوس والمغارم، ثم رجع إلى بلاده، وأخذ معه الخليفة العباسي، وانقطعت الخلافة والمبايعة، وأخذ معه ما انتقاه من أرباب الصنايع التي لم توجد في بلاده، بحيث إنه فقد من مصر نيف وخمسون صنعة”[1].
وأضاف في الثناء على العثمانيين، قائلاً: “وكان العثمانيون في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة بعد الخلفاء المهديين، وأشد من ذب عن الدين، وأعظم من جاهد المشركين، فلذلك اتسعت ممالكهم بما فتح الله على أيديهم، وأيدي نوابهم، وملكوا أحسن المعمور من الأرض، ودانت لهم الممالك في الطول والعرض، هذا مع عدم إغفالهم الأمور، وحفظ النواحي والثغور، وإقامة الشعائر الإسلامية والسنن المحمدية، وتعظيم العلماء وأهل الدين، وخدمة الحرمين الشريفين، والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع، فتحصنت دولتهم، وطالت مدتهم، وهابتهم الملوك، وانقاد لهم المالك والمملوك”[2].
ذكر رائد التاريخ الاجتماعي المصري الدكتور محمد أنيس في كتابه (الدولة العثمانية والشرق العربي): “ومن أعمال سليم وهو في القاهرة عفوه عن البقية الباقية من المماليك، فأصدر أمراً بعدم التعرض لهم ولممتلكاتهم وباستمرار صرف مرتباتهم كما جرت العادة، ليحتفظ بهم كعنصر هام في إدارة البلاد”[3]. وهذه الروايات التاريخية لمؤرخين مصريين مشهود لهم بصدقيتهم كفيلة بإثبات زيف ما قيل عن دخول العثمانيين إلى مصر بعد إنهاء الحكم المملوكي لها، ويمكننا الاستناد عليها في حديثنا عن بدايات الدخول العثماني لمصر، ونحن لم نستعرض جميع الروايات التي تناولت الحدث؛ لأن الموضوع يحتاج منا لعشرات الصفحات التي تثبت الأساليب السلمية والعسكرية للعثمانيين، وطريقة تعاملهم مع سكان البلاد التي دخلوها.
التشويه الثاني: ما قيل عن دخول العثمانيين إلى بغداد وقتلهم لعشرين ألف عراقي بريءٍ ونهب خزائن العراق وإرسالها إلى إستانبول!
ادعى المشوهون بأن السلطان العثماني سليمان القانوني عندما دخل إلى بغداد، وطرد الصفويين منها، قام بقتل أكثر من عشرين ألف عراقي وقام بنهب ثروات بلاد الرافدين وإرسالها إلى عاصمة بلاده، فما صحة هذا القول!؟
في الحقيقة، وإن كانت هذه الأبواق قد وجدت ضالتها في تاريخ ابن اياس فاستشهدوا به في الادعاء الأول، فإن الادعاء الثاني يفتقر إلى الدليل أو المصدر التاريخي، وذلك لأنه في حقيقة الأمر لم يجدوا مصدراً يدعم قولهم والأباطيل التي ساقوها، فليس هناك مصدر تاريخي يذكر هذه الرواية التي تم اختلاقها. وسنلقي الضوء على بعض المرويات في المراجع التاريخية لنرى ماذا فعل السلطان سليمان بعد دخوله بغداد:
يذكر المؤرخ محمد فريد بك هذا الحدث التي كان في عهد السلطان سليمان القانوني في كتابه (تاريخ الدولة العلية العثمانية)، بالقول: “وقصد مدينة بغداد لفتحها، فلما اقترب منها تقدم إبراهيم باشا الصدر الأعظم وسر عسكر الجيوش العثمانية لاحتلالها قبل قدوم السلطان فدخلها في 31 ديسمبر/ كانون الأول عام 1534، ووجدها خاوية من الجنود إذ تركها حاكمها بكل جنوده هرباً من الوقوع في قبضة الجنود العثمانية فيذيقونه الحمام. وبعد أن أقام السلطان في مدينة بغداد مدة أربعة أشهر رتب الإدارة الداخلية في خلالها، وزار قبور الأئمة العظام وقبر الإمام علي رابع الخلفاء الراشدين (رضي الله عنه) في مدينة النجف وقبر ابنه الحسين في كربلاء، وأرسل الخطابات إلى البندقية وويانه إعلاناً بانتصاره على الشاه طهماسب وافتتاحه مدائن تبريز وبغداد”.
ذكر الدكتور محمد أنيس بأن تدخل الدولة العثمانية في العراق جاء بناء على طلب من سنّة العراق التي كانت تتضرع إلى السلطان سليمان لإنقاذها من الحكم الشيعي (الصفوي). وأن السلطان سليمان بعد دخوله إلى بغداد حرص على عدم الإساءة على مشاعر الشيعة باعتباره سلطاناً سنياً. فزار الكثير من أضرحة الشيعة بالإضافة إلى أضرحة الأئمة السنة، كما أنه أوقف مقاطعات مغلة للمقاصد الدينية للشيعة والسنة على السواء، وأعاد السلطان سليمان بناءَ ضريح الإمام أبي حنيفة بعد أن هدمه الإيرانيون الشيعة، ودنسوا رفاته[4].
ومما سبق ذكره نجد بأنه لم تحدث مثل هذه المجزرة إطلاقاً، حيث أن بغداد قد سُلمت تسليماً للسلطان العثماني بعد أن فرت حاميتها الصفوية، وعليه فلم يحدث اشتباك أو معركة، وفتحت بغداد بدون إراقة دماء، وحتى بعد دخول السلطان سليمان إلى بغداد لم يصطدم مع أهاليها حتى الشيعة منهم، بل سعى إلى الإصلاح وإلى كسب ود الأهالي وانتهج سياسة عادلة بين الطوائف عززت السلم الداخلي في البلاد، على عكس السياسة الطائفية الدموية التي اتبعتها الدولة الصفوية.
التشويه الثالث: ما قيل عن قيام القائد العثماني فخري باشا بقتل وتهجير أهل المدينة المنورة، وقام بنقل الحجر الأسود وميزاب الكعبة إلى إستنابول!
من المعلوم أن السلطنة العثمانية ومسيرة الجهاد والإصلاح الدستوري والسياسي والعسكري العثماني انتهت فعلياً بعزل السلطان عبد الحميد الثاني ووصول حزب الاتحاد والترقي إلى حكم الدولة العثمانية عام 1909، ومع ذلك وجدت بعض الشخصيات التي استمرت في الدفاع عن الأراضي الإسلامية وصون مقدساتها، ومن هؤلاء القائد العثماني فخري باشا والذي كلف بحماية المدينة من هجمات الإنكليز والقوات الموالية لهم والتابعة للشريف حسين في فترة الحرب العالمية الأولى. وهنا نؤكد بأنه لا صحة ولا أصل للادعاء المذكور، وذلك لأن فخري باشا لم تطأ قدماه مكة المكرمة، وكانت حكومة الاتحاد والترقي قد أمرته بالتوجه إلى المدينة المنورة في تاريخ 28 مايو/ أيار عام 1916م، فوصلها في 31 مايو/ أيار من العام نفسه، وفور وصوله قام بإخبار جمال باشا بأن الشريف حسين سيعلن انفصاله عن الباب العالي خلال بضعة أيام[5]. وبالفعل فقد أعلن الشريف حسين خروجه ضد الدولة العثمانية تحت مسمى “الثورة العربية” في 10 يونيو/ حزيران عام 1916م[6].
وهذا يثبت أن فخري باشا لم يذهب إلى مكة أصلاً، لأنه سرعان ما سقطت مكة والمناطق المحيطة بها بيد قوات الشريف حسين (المتعاون مع الإنكليز)، فهو ضرب الحصار على المدينة إلا أن حاميتها بقيت صامدة بقيادة فخري باشا لمدة عامين وسبعة أشهر، بفضل الإجراءات العسكرية الناجحة التي اتخذها فخري باشا.
إذن، بعد الإعلان عن قيام الثورة العربية، قام الأمير فيصل بمحاولات لقطع الإمدادات عن المدينة، وهاجم هو وأنصاره الخط الحديدي الحجازي، ودمروا بعض محطاته. فأضحى فخري باشا محاصراً تماماً دون إمداد من الأستانة وجمال باشا في الشام، الذين أعلموه بعدم استطاعتهم إرسال تعزيزات بسبب الأوضاع السيئة التي تعيشها الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى ووجه أمر له بإخلاء الحجاز وتسليمه.
فكيف لفخري باشا أن يجلب التركمان إلى المدينة المنورة بدلاً من العرب الذين هجرهم!؟ وما مصلحته في ذلك، وخصوصاً وأن المدينة على وشك السقوط، وقد سلمت بالفعل في نهاية الأمر باتفاق بين فخري باشا وبين المحاصِرين من قوات الشريف حسين!؟
يجدر بالذكر أننا وجدنا في أحد المصادر أن فخري باشا تمكن من إخلاء المدينة من بعض السكان والعسكر أيضاً من المدينة واستهدف أشراف المدينة فأخرجهم منها، وذلك في شهر ديسمبر/ كانون الأول عام 1916، ولكن تعليل ذلك جاء على عكس ما قصده المشوهون؛ فبعد اشتداد الحصار ونقص المؤن والطعام والزاد، خشي فخري على أهالي المدينة، فقام بإخراج بعضهم مع بعض الكتائب العسكرية التي لم يكن لها حاجة وضرورة أثناء الحصار، وذلك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وسعياً لإطالة مدة الحصار من خلال توفير المؤن انتظاراً لتعزيزات قد تصل، لكنها لم تصل أبداً. كما أن بعض من أخرجهم فخري باشا كانوا ممن ثبت تعاملهم مع قوات الشريف حسين[7]. وبالتالي، نحن نتحدث عن فترة حكم الاتحاد والترقي التي لم تكن تمثل التاريخ الجهادي للسلاطين العثمانيين ودورهم ومكانتهم في نفوس جميع أبناء الأمة، وما قيل حول فخري باشا هو تشويه للحقيقة التاريخية، ومحاولة وسم التاريخ الإسلامي العثماني وعهود سلاطينه العظام، بما فعله الاتحاديون في مرحلة سيطرتهم على السلطة في العقدين الأخيرين من تاريخها (1909 – 1924م).
التشويه الرابع: الادعاء بأن مجزرة قبيلة الجوازي الليبية ارتكبت تحت عين الدولة العثمانية
إن الحديث عن مجزرة قبيلة الجوازي، ومحاولة لإلصاق تلك الجريمة بالدولة العثمانية رسمياً، إنه ادعاء باطل وفيه خلط تاريخي في تناول تلك الحادثة دون الأخذ بالاعتبار الحوادث التاريخية الجادة.
وفي هذا الصدد يمكن القول، بأن المجزرة قد حدثت بسبب ظروف سياسية مرتبطة بصراع القرمانليين على الحكم والإقطاعات بين يوسف باشا وأبنائه في طرابلس التي تحولت إلى دولة مستقلة، أضف لذلك، بأن الأسرة القرمانلية لم تكن خاضعة للدولة العثمانية في تلك الفترة إلا إسمياً. فالدولة القرمانلية كانت منفصلة عن العثمانيين تماماً في سياساتها الداخلية والخارجية؛ فكيف يتم نسب هذه الحادثة للدولة العثمانية، والحكم القرمانلي يومها عمره قرابة المائة عام، منذ أن خلع أحمد القرمانلي آخر الباشوات العثمانيين (في عهدهم الأول) وذلك عام 1711![8]؟
حيث ذكر محمود ناجي في كتابه (تاريخ طرابلس الغرب) عن الحالة في ليبيا تلك الفترة، قائلاً: “إن طرابلس في عهد هذه الأسرة الحاكمة التي تأسست بأحمد بك أخذت شكل بلاد مستقلة أكثر منها إيالة وجعل القرمانليون نفوذ الدولة العثمانية التي تعد متبوعهم كأن لم يكن، وبذلك أصبحوا دون استئذان يحاربون الدول الأوروبية ويعقدون معها المصالحات والمعاهدات، واتخذوا لأنفسهم بين الأهالي وبدون حياء لقب أمير المؤمنين السامي…”[9].
وذكر نيكولاي بروشين بأن أحمد القرمانلي بعد أنه اكتسب شرعية أمام الليبيين بالحصول على ألقاب بيلرباي وباشا من السلطان العثماني عام 1722، انتقل إلى خطوة تالية وهي تحقيق الانفصال عن الباب العالي وترسيخ سلطته المطلقة على الولاية وانتهى في واقع الحال إلى تأسيس دولة إقطاعية مستقلة لا تعترف إلا شكلياً بالسلطة العليا للسلطان التركي، وقسم البلاد إلى مناطق عين على كل واحدة منها قائداً من الموالين له[10]. ويعزز ذلك أن أحمد القرمانلي مؤسس هذه الدولة، عندما وصل للحكم أقام مجزرة شبيهة لمجزرة الجوازي بقادة الإنكشارية وكبار جندهم، وجعل من قبيلة المحاميد العربية سلاحه وشوكته. وحافظ المحاميد على ولائهم للأسرة القرمانلية، وكانت من رسائل غومة المحمودي للباب العالي، عندما رفع عصا الطاعة في ثورته على العثمانيين في عهدهم الثاني، هو تسليم الحكم لحفيد القرمانلي، حيث بجَّل حكمهم، وعظَّم عهدهم، وكانت من وصية أحمد باشا القرمانلي لابنه محمد الذي استخلفه على الحكم أن يحفظ وده وعهده للمحاميد الذين ساعدوه في حكم طرابلس. ثم كيف حاربت سفن طرابلس لوحدها الحملات الأميركية إذا كانت تُحكم من الباب العالي؟ ولماذا أرسلت أوروبا أساطيلها البريطانية والفرنسية إلى يوسف القرمانلي وتهديدها له عندما ضاقت ذرعا بمهاجمته لسفنها، بدلاً من أن تراسل وتهدد السلطان في الأستانة؟
وما يؤكد ذلك، أنه في عام 1793م، وبينما كان الصراع دائراً بين علي باشا القرمانلي وأخيه يوسف باشا نزل أسطول علي بن آدم الجزائرلي مدعوماً من السلطان العثماني لاستعادة سلطة الدولة العثمانية في طرابلس، وكان الأسطول يحمل الأعلام التركية ومعه فرمان سلطاني وتسع سفن سلطانية، واستولى على العاصمة طرابلس، وزار الجزائرلي إستانبول وحصل على دعم السلطان العثماني سليم الثالث، وكان السلطان راغباً بتصفية الاستقلالية الكبرى لطرابلس الغرب وإلغاء وراثية الأسرة القرمانلية، ورغم ضعف السلطنة آنذاك جعلها مستعدة لتأييد أي مغامر يخدم السلطنة بحق وصدق. ولكن لكثرة استبداد الجزائرلي دعم الباب العالي عودة القرمانليين لحكم طرابلس بدعم من حمودة باي والي العثمانيين في تونس عام 1795م[11]، وتم تعيين أحمد القرمانلي باشا على طرابلس ونائبه يوسف باشا[12].
وما يدلنا على استقلالية القرمانليين عن الباب العالي والتبعية الاسمية لا أكثر، أنه في عهد يوسف باشا أراد السلطان العثماني محمود الثاني إعادة تنظيم الجيش العثماني وإيجاد قوات رديفة بجانب الإنكشارية، ولكن إنكشارية طرابلس رفضت الانصياع للنظام الجديد ووقفت بكل قواتها ضد الباب العالي. وعلى الرغم من أوامر محمود الثاني الصارمة إلى يوسف باشا بتطبيق النظام الجديد في الجيش بهدف التخلص من سلطة الإنكشارية، لكن بقيت دون تطبيق، واستعان يوسف باشا بفرق نظامية خاصة اسمها “الشاويشية” لحفظ دولته[13].
يمكن القول إن القبائل الليبية في تلك الفترة كانت منقسمة بين موالٍ ليوسف باشا وأخرى حصلت على دعم أخيه أحمد القرمانلي وابنه محمد فيما بعد، حيث شنَّت قبيلة الجوازي حروباً على قبائل العواقير والمغاربة في بنغازي وحاصرتهم لمدة خمسة أشهر فيما عُرف هذا الحصار بـ “عقل خريبيش” عام 1811م.
وتفيد بعض الروايات التاريخية أن الذي شجَّع قبيلة الجوازي للتسلط على بقية القبائل حتى قبائل خليج سرت وغزوهم ونهبهم هو تحالفهم مع أحمد القرمانلي، أخ يوسف القرمانلي، الذي عينه يوسف القرمانلي والياً على درنة عام 1809، رغم ما بدر منه قبل ذلك، عبر وساطات بريطانية. فقد دعم أحمد قبائل الجوازي الذين كانت تربطه بهم علاقات نسب. وهذا المبرر المنطقي الذي دفعه للهرب إلى مصر بعد أن وصل جيش ابن أخيه محمد باي، كما هربت قبائل الجوازي إلى غرب مصر أيضا.
لاحقاً، بعد عودة محمد باي القرمانلي مَزهواً بإنهاء خروج القبيلة عن سلطة القرمانليين في المنطقة الشرقية، اغترّ بنفسه للدرجة التي تمادى فيها وحاول طعن والده في إحدى لحظات غضبه، مما دفع والده إلى إبعاده للمنطقة الشرقية. ويبدو أن والده كان يحبه جداً حتى يجعله حاكماً على المنطقة الشرقية، بدل معاقبته على تعرضه له بخنجر مما أدى لقتل خادمة للباشا رمت نفسها أمام الخنجر دفاعاً عنه.
وبين عامي 1815 – 1816م 1816، وصل محمد الباي لبرقة والياً لأبيه ولكنه أقام تمرداً بين على سلطة والده من خلال قبائل الجوازي نفسها. وحينها قرر يوسف القرمانلي وضع حد نهائي لابنه البكر وأرسل له جيشاً بقيادة أصغر أبنائه يومها أحمد القرمانلي، الذي استطاع أن يهزم أخاه الذي فرّ هارباً لمصر، بينما قامت قبيلة الجوازي بمحاولة استرضاء يوسف القرمانلي بإرسال 22 فرداً من أبناء القبيلة ليبقوا رهائن في طرابلس، لتأكيد نيتها هذه المرة بعدم الخروج على حكمه مرة أخرى، لكن القرمانلي ما كان ليثق بهم مرة أخرى، لذلك عمل ابنه أحمد على تقريب مشائخهم لجواره، ليطمئنوا له ويَبقوا قُرب عينيه، خصوصاً وأن الأنباء التي كانت قادمة من مصر تقول عن عزم أخيه الأكبر للعودة إلى برقة بدعم من والي مصر، وربما سوف يسعى في حربه من خلال هذه القبيلة الخارجة على سلطان الدولة القرمانلية، والتي فقدت امتيازاتها السابقة.
من هذا السياق التاريخي، قرَّر أحمد القرمانلي العزم على قطع شوكة قبيلة الجوازي نهائيا، فبعد أن قرَّبهم لمجلسه وأحاطهم برعايته، دعا مشائخ وأفراد القبيلة من خلال «جاويش» من أبناء قبيلة الجوازي حتى يطمئنوا لنوايا الدعوةـ والذي كان ملتحقاً بخدمة الباي في طرابلس، حاملاً رسالة لهم تُفيد بتشريفهم إلى بنغازي لحضور حفل يقيمه الباي أحمد لتوزيع البرانيس الحمر على مشائخهم عرفانا من يوسف القرمانلي لولائهم له والدخول في طاعته.
وفي اليوم الخامس من سبتمبر، جاء مشائخ قبيلة الجوازي لمدينة بنغازي، إذ حضر 45 شيخاً لقصر الباي، حيث استقبلهم بترحاب كبير وشرب معهم القهوة، قبل أن تفتح الأبواب من الحجرات المجاورة ويخرج منها مماليك الباي وقتلوا البعض منهم، واعتقلوا البقية ليكملوا عليهم الواحد تلو الآخر. ثم هاجم جنود الباي مضارب ونجوع القبيلة التي غادرها الكثير من أبنائها نتيجة وصول أخبار مقتل مشائخهم، وأمَّا الأبناء الرهائن فقد تم قتلهم كلهم.[14]
إذن، فحادثة الجوازي كانت نتيجة صراع على السلطة بين أفراد الأسرة القرمانلية، وإن أية محاولة لإلصاق هذه الحوادث بالدولة العثمانية لا تغدو أن تكون محاولات بائسة، وادعاءات مغرضة لا تستند إلى منطق تاريخي أو حقائق علمية ذكرتها مصادر التاريخ الليبي أو الإسلامي العثماني.
ولا يمكن أن نسيان أو غض الطرف عن مجزرة قبيلة الجوازي التي ارتكبها الحاكم القرمانلي، وهو الذي يتحمل المسؤولية التاريخية، وجزاءه عند الله، لأنها جريمة لا يمكن قبولها أو تبريرها، وتخالف الفطرة الإنسانية السليمة. ولكن طالما أن الوالي العثماني محمد علي باشا هو من استقبل الجوازي في مصر وساندهم في انتفاضتهم ضد الحاكم القرمانلي، وبالتالي: لم ذلك التحريف التاريخي للحقائق؟ ولم لا نقول بأن الباب العالي زمن السلطان محمود الثاني أعطى أوامره لمحمد علي باشا والي مصر بمساعدة الجوازي ضد الحاكم القرمانلي واستقبالهم في مصر؟
ونختم ما ذهبنا إليه بما جاء في كتاب محمود ناجي (تاريخ طرابلس الغرب): “هاي هي ذي الدولة العلية العثمانية في هذا الوقت تعقد العزم على إنهاء صحائف القرمانليين الملوثة بالدماء فتتكرم بحصر نواياها الجميلة في أن يشمل الإيالة عهد من السعادة والاطمئنان وتتفضل بتحقيق ذلك بالقوة 1251” وأضاف: “في سنة 1251ه المباركة أرسلت الدولة العلية أسطولاً متألفاً من اثنتين وعشرين سفينة حربية تحمل ستة آلاف من العساكر النظاميين بقيادة الفريق مصطفى نجيب باشا فاحتلت إيالة طرابلس وامتلكتها من غير حرب…”[15].
التشويه الخامس: الافتراء بالقول بأن الأتراك حاصروا لبنان ومنعوا دخول الماء لها ومات مائتي ألف لبناني جوعاً وذلك عام 1919م:
لا يوجد في المصادر التاريخية ما يثبت أن العثمانيين حاصروا بيروت عام 1919، بل إن هناك مجاعة اجتاحت بلاد الشام، وذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتحديداً في بداية عام 1916.
تجدر الإشارة أنه في التاريخ الإنساني كله، في زمن الحروب والصراعات غالباً ما تحدث المجاعات وتنتشر الأوبئة وقد حدث هذا في مناطق عدة من العالم سواء خلال الحرب العالمية الأولى أو الثانية. وفي بلاد الشام وبالأخص في ما صار يعرف حديثاً بلبنان، حدثت بالفعل مجاعة عام 1916، وليس عام 1919، لكن أسبابها لا تعزى إلى حصار العثمانيين لبيروت، بل إن ذلك يتجاوز الاتهامات المباشرة والإسقاطات اللامنطقية.
يقول المؤرخ اللبناني يوسف الحكيم وهو أحد أبرز القومين العرب الذي كتب عن التاريخ العثماني وخاصة في حكم لبنان: “في مطلع نيسان عام 1915، بدت طلائع الجراد في سماء بيروت ولبنان وأخذت أسرابها تتوارد من الجنوب بكثرة هائلة حجبت وجه السماء عن العيون، مغيرة كل أخضر من غراس ونبات وعلى حدائق البيوت…إن مجرد ظهور الجراد إبان الحرب كان نذيرا للبنانيين بخطر المجاعة، فهب لمواجهتها التجار وشمر عن ساعد الجد كل محتكر لا تقف أطماعه في الربح عند حد”[16].
ويقول الحكيم كذلك: “كانت إساءة القائمين على العمل من مديرين ومتعهدين ومشرفين لواجباتهم من جهة، وجشع المتاجرين بقوت الشعب من جهة أخرى في مقدمة الأسباب التي حالت دون وصول الفقراء إلى حقهم من الخبز الضروري للحياة، فانتشرت المجاعة في لبنان ولجأ العديد من الفقراء إلى بيروت حيث افترشوا الأرض في الطرقات والتحفوا السماء”[17]. وهكذا من خلال هذه الاقتباسات البسيطة والصادرة عن واحد من أبرز مؤرخي التيار القومي العربي -المعروف بنقده للعثمانيين-فإن أسباب المجاعة مرتبطة أساسا بالجوائح وخاصة الجراد، والاحتكار وسوء التسيير وجشع كبار التجار.
لم تذكر الكثير من الدراسات المصدرية التي تناولت التاريخ العثماني وحكم لبنان وسورية بأن العثمانيون حاصروا بيروت عام 1919 لأنهم كانوا قد خرجوا من بلاد الشام قبل هذا التاريخ بفترة لا تقل عن سنة كاملة.
عند افتتاح معرض “لبنان في الوثائق العثمانية” الذي نظمه المركز الثقافي التركي “يونس أمره” في العاصمة اللبنانية بيروت. كشف السفير التركي في لبنان سليمان إينان أوزيلدز بأن لدى تركيا اليوم سجلات ضخمة من الوثائق التي ورثتها عن الدولة العثمانية حول أوضاع لبنان ومكانتها في الدولة العلية، فالأرشيف العثماني في إسطنبول يضم حالياً أكثر من 250 ألف وثيقة عن لبنان[18]، ومعظم تلك الوثائق لم يتم البحث فيها حتى الآن، وهذا يفسح المجال واسعاً أمام المؤرخين والباحثين العرب وغيرهم للتأكد من مثل تلك الحادثة وصحتها والتي تبين لنا عدم صحتها -كما وردت -نهائياً.
خاتمة:
هذا تحقيق أهديه للباحثين عن الحقيقة التاريخية ولأصحاب الضمائر الحية، فلماذا التشويه والتزوير والافتراء على تاريخ دولة تعتبر من الدول الإسلامية العظيمة التي تعاقبت على حكم الأمة، وكان قبلها عهد النبوة والخلافة الراشدة والدولة الأموية ثم العباسية، وتعاقبت خلالها دول السلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمماليك، كما لا يُنسى للدولة العثمانية دورها العظيم في نشر الدين الإسلامي في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبأنها حمت السواحل الإسلامية من الحملات الصليبية والصفوية.
وحقاً، لولا الله تعالى ثم الدولة العثمانية لما حافظت ليبيا وتونس والجزائر في شمال أفريقيا على هويتها الإسلامية، ولكانت الأراضي المقدسة في الحجاز مهددة من قبل حملات الصليبيين في الغرب، وبلاد الشام والعراق تحت وطأة حكم الصفويين من الشرق.
وفي نهاية المطاف، يمكننا القول: إن تلك الأكاذيب تبناها منتسبون لأهل علم وإعلاميون وظفتهم الأجهزة الاستخباراتية في سبيل التشويه ونشر الأباطيل، وهو باب خطير يفرق الصف ولا يجمع، ويهدد المجتمعات بالانهيار الكبير، ويرسخ لثقافة المناطقية والجهوية والقبلية التي تستغلها الأطراف الطامعة بخيرات أمتنا، والتي تعمل على استباحة دماء الأبرياء من الليبيين وغير الليبيين وتستنزف خيراتهم، فلا بد أن تكون رسائلنا مأسسة على مخافة الله والدعوة لحقن الدماء، والكف عن تشويه حقائق التاريخ الإسلامي، توظيفاً لأغراض سياسية وغايات شخصية، بل يجب مد يد السلام ودعوة الأطراف المتنازعة للحوار والسلم الأهلي، فإنها المنقذ الوحيد لليبيا والأمة شرقها مع غربها وشمالها مع جنوبها.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه
والحمد لله رب العالمين.
مصادر التقرير:
الأمير شكيب أرسلان، مدونة أحداث العالم العربي ووقائعه (1800 – 1950) حسب التسلسل الزمني، تحرير يوسف حسين إيبش-توما توفيق عريضة-يوسف قزما خوري، لبنان، ط2، (2011)، ص 81.
حمزة تكين، “لبنان في الوثائق العثمانية… معرض يحكي تاريخ البلاد إبان الحكم العثماني”، جريدة رأي اليوم، بيروت، 16/3/2014.
عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، (2012)، ص 34.
محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي: (1514 – 1914)، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص 113 -114.
محمود ناجي، تاريخ طرابلس الغرب، ترجمة عبد السلام أجهم ومصطفى الأسطى، منشورات الجامعة الليبية، كلية الآداب، طرابلس، 1970، ص 159.
موقع الموسوعة الإسلامية (İslam Ansiklopedis)، وقف الديانة التركي (türkiye diyanet vakfı)، انظر: http://bit.ly/36hbvJz
نيكولاي بروشين، تاريخ ليبيا من منتصف القرن السادس عشر حتى مطلع القرن العشرين، ترجمة عماد حاتم، ط2 2001، دار الكتب الجديدة المتحدة، بيروت، 108 – 109.
وائل إدريس، “مذبحة قبيلة الجوازي بين الحقيقة والتزوير”، شبكة ميسلون للدراسات والإعلام،24/12/201، انظر: https://cutt.us/us2hF
يوسف الحكيم، بيروت ولبنان في عهد آل عثمان، دار النهار للنشر، الطبعة الرابعة، 1991، ص249.
يوكسل نظام أوغلو، “جبهة الحجاز عام 1917: انتشار الثورة العربية وخطة تخلية المدينة”، مجلة بيليغ التركية، العدد 66، صيف 2013، ص 130. انظر: http://bit.ly/2Rdub8I
[1] عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، (2012)، ص 34.
[2] الجبرتي، المرجع السابق، ص 34.
[3] محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي: (1514 – 1914)، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص 113 -114.
[4] محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي، ص. ص 136 -137.
[5] موقع الموسوعة الإسلامية (İslam Ansiklopedis)، وقف الديانة التركي (türkiye diyanet vakfı)، انظر: https://islamansiklopedisi.org.tr/fahreddin-pasa
[6] الأمير شكيب أرسلان، مدونة أحداث العالم العربي ووقائعه (1800 – 1950) حسب التسلسل الزمني، تحرير يوسف حسين إيبش-توما توفيق عريضة-يوسف قزما خوري، لبنان، ط2، (2011)، ص 81.
[7] يوكسل نظام أوغلو، “جبهة الحجاز عام 1917: انتشار الثورة العربية وخطة تخلية المدينة”، مجلة بيليغ التركية، العدد 66، صيف 2013، ص 130. انظر: http://bilig.yesevi.edu.tr/yonetim/icerik/makaleler/2407-published.pdf
[8] وائل إدريس، “مذبحة قبيلة الجوازي بين الحقيقة والتزوير”، شبكة ميسلون للدراسات والإعلام،24/12/201، انظر: https://cutt.us/us2hF
[9] محمود ناجي، تاريخ طرابلس الغرب، ترجمة عبد السلام أجهم ومصطفى الأسطى، منشورات الجامعة الليبية، كلية الآداب، طرابلس، 1970، ص 159.
[10] نيكولاي بروشين، تاريخ ليبيا من منتصف القرن السادس عشر حتى مطلع القرن العشرين، ترجمة عماد حاتم، ط2 2001، دار الكتب الجديدة المتحدة، بيروت، 108 – 109.
[11] بروشين، المرجع السابق، 145.
[12] بروشين، المرجع نفسه، 150.
[13] بروشين، المرجع نفسه، ص 161.
[14] وائل إدريس، المرجع السابق.
[15]محمود ناجي، تاريخ طرابلس الغرب، ص 170.
[16]يوسف الحكيم، بيروت ولبنان في عهد آل عثمان، دار النهار للنشر، الطبعة الرابعة، 1991، ص249.
[17] يوسف الحكيم، المرجع السابق، ص. ص250-251
[18]حمزة تكين، “لبنان في الوثائق العثمانية… معرض يحكي تاريخ البلاد إبان الحكم العثماني”، جريدة رأي اليوم، بيروت، 16/3/2014