نشأ المذهب الإباضي بالبصرة على يد مؤسسه الإمام جابر بن زيد الذي ركز نشاطه على مجال التربية والتكوين، فأثمرت جهوده العملية في إنشاء قاعدة واسعة من الأتباع الذين اقتنعوا بآرائه ومبادئه.
أصل تسمية الإباضية
تنسب المدرسة الإباضية إلى عبد الله بن إباض التميمي، وقد جاءت نسبة الإباضية إلى عبد الله بن إباض ولم ينسَبوا إلى جابر بن زيد لأن عبد الله بن إباض هو الذي جهر بمواقف سياسية واجه بها خلفاء بني أمية ولا سيما عبد الملك بن مروان . رفض الإباضية تبعيتهم إلى الخوارج.
إن تقصي المنهج العلمي للوصول إلى الحقيقة في مسألة كون الإباضية من الخوارج أو ليسوا منهم. هذا الأمر يقتضي الوقوف على أقوال الإباضية أنفسهم في مصادرهم الأصلية، وكتبهم المرضية عندهم، وكلام المعاصرين من علمائهم، إذ أنها لا تزال مدرسة فكرية قائمًة ومذهبًا فقهيًا متنوعًا، فالأخذ عنهم أولى من الأخذ عن غيرهم؛ لأنهم أدرى بموقف مدرستهم الفكرية على قاعدة أن أهل مكة أدرى بشعابها.
هو عبد الله بن إباض التميمي. وذكر الأزكوي: أنّه عاش في عهد معاوية بن أبي سفيان وحتى عهد عبد الملك بن مروان بن الحكم. وتزعم ابن إباض المعارضة ضد متطرفي الخوارج، وتنسب المصادر الإباضية إلى عبد الله دورًا ثانويًا بالمقارنة مع جابر بن زيد الأزدي الذي تعتبره إمام الإباضية ومؤسس فقههم ومذهبهم، وتذكر أنّ ابن إباض كان يقتدي في كل أفعاله وأقواله بجابر بن زيد. وتذكر المصادر أنه كان إمام أهل التحقيق ورئيس من بالبصرة وغيرها من الأمصار. وتصنيف المصادر أنّه الشخص الذي ناظر الخوارج "المتطرفين" والقدرية والمعتزلة والمرجئة والشيعة، وذلك رغم أن هذه الجماعات لم يكتمل تكوينها بعد.
تصدى ابن إباض للمتطرفين من الخوارج، وردّ على نافع ابن الأزرق والصفريّة، وأصبح المناظر باسم أهل الدعوة ضدّ مناوئيهم من الخوارج وغيرهم من الفرق، كما فعل ذلك مع السلطة الأموية في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، حيث احتفظت لنا المصادر برسائله، أو ما تسميه المصادر الإباضية نصائحه إلى عبد الملك بن مروان. وقد حاول زعماء الخوارج استدراج عبد الله بن إباض للخروج معهم فامتنع وأخبرهم أنه لا يخرج على قوم يرتفع الأذان من صوامعهم والقرآن من مساجدهم.
اسمه ونسبه ومولده ونشأته
لم يكتف جابر بالرواية الشفوية عن أساتذته ومعاصريه بل كان يسجل الأحاديث التي يسمعها من شيوخه كما سمح لتلاميذه بتدوين الأحاديث التي رواها وأودع في صفحاته آراءه وفتاويه في كثير من أمور العقيدة |
هو الإمام الفقيه المحدث أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدني العُماني مولدًا البصري إقامة. وُلد في عُمان ثم رحل إلى البصرة وأقام بها، وقد قضى أغلب حياته بالبصرة وبقي بها إلى أن تُوفي عام 93ه – 712م على القول الراجح، وقيل تُوفي عام 103ه،وقيل في: 104ه ، وصلى عليه قطن بن مدرك الكلابي.
الإمام جابر.. طلبه للعلم وثناء العلماء عليه
في البصرة، أخذ جابر يتزود العلم والمعرفة وخاصة ما يتعلق منها بعلوم القرآن والحديث وما يتصل بهما وقد تتلمذ جابر على أيدي كثير من الصحابة والتابعين وأخذ عنهم الحديث والتفسير وعلوم اللغة والأدب ويُروى عن جابر أنّه كان يقول: أدركت سبعين بدرياً فحويت ما عندهم إلّا البحر أي عبدالله بن عباس، على أن الأخير لم يكن من أهل بدر، وفي القول دلالة على أنّ جابراً قد أخذ عن مجموعة من الصحابة الذين رافقوا رسول الله (ﷺ) ونقلوا عنه علمه وسنته الشريفة، ومن أهم العلماء الذين أخذ عنهم جابر: عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن مسعود وأنس بن مالك وغيرهم إلّا أنه كان أكثر ملازمة لعبدالله بن عباس من غيره وكان أنخب تلاميذه.
الإمام جابر وتدوين الأحاديث
لم يكتف جابر بالرواية الشفوية عن أساتذته ومعاصريه بل كان يسجل الأحاديث التي يسمعها من شيوخه كما سمح لتلاميذه بتدوين الأحاديث التي رواها وأودع في صفحاته آراءه وفتاويه في كثير من أمور العقيدة. ويقال أنّ ديوانه كان من الضخامة بحيث يعجز عن حمله البعير.
الإمام جابر والإفتاء في البصرة
يتبين بوضوح أنّ جابر بن زيد قد اكتسب علمًا واسعًا بعد اقامته في البصرة، وأنّه أصبح من أبرز التابعين الأوائل في علم الحديث والتفسير والعلوم الدينية بشكل عام، وقد أهلته معرفته العميقة لأن يصبح أبرز مفتٍ في البصرة بعد الحسن البصري.
الإمام جابر وزهده
عاش الإمام جابر حياة زهد وتقشف وانصرف عن لهو الدنيا وترفها. وكان يقول: سألت ربي ثلاث، فأعطانيهن، سألت زوجة مؤمنة، وراحلة صالحة، ورزقًا كفافًا يومًا بيوم، وكان يخطب بأصحابه، ويقول: ليس منكم رجل أغنى مني، ليس عندي درهم وليس عليّ دين، فقد كان ورعًا تقيًا لا يهتم بجمع المادة واكتنازها.
الإمام جابر وتصديه لفكر الخوارج
كان البون سحيقًا والخلاف قائمًا بين المدرسة الإباضية والخوارج الذين حكموا على أهل ملة التوحيد بأحكام المشركين، فاستباحوا منهم سفك الدماء وغنم الأموال وسبي الذراري وقد كان استنكارهم له العلو منذ بداية بروزه.
نهاية الإمام جابر بن زيد.. سجنه ونفيه ووفاته
حدثت حوادث مع الحجاج جعلت الحجاج يتخذ موقفاً من جابر وأتباعه، وقد حبس جابرًا مع بعض أصحابه البارزين، مثل: ضُمام بن السائب وأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي وصحار العبدي وغيرهم. ولم يلبث الحجاج أن أطلق سراح جابر، ونفاه مع رجل من مشايخ الدعوة يدعى هبيرة، وهو جد أبي سفيان محبوب بن الرحيل المؤرخ الإباضي، وآخر الأئمة الإباضية في البصرة. ومن المحتمل أنّ الإفراج عن جابر كان بشفاعة من صديقه الحميم يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج.
ضمام بن السائب هو في الأصل من الندب في عُمان ولد في البصرة ودرس على جابر بن زيد وروى الحديث عنه بالدرجة الأولى
اسمه ونشأته
هو أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة مولى بني تميم، ويذكر الجاحظ أنّه كان مولى لعروة بن أدية التميمي، أخي مرداس بن أدية. عاش أبو عبيدة في البصرة، وأخذ العلم عن جابر بن زيد وصُحارى العبدي وجعفر بن السماك وضمام بن السائب العبدي العُماني، وهم أشهر علماء الإباضية في مرحلة الكتمان. ويرى عدد من مؤرخي الإباضية أنّ أبا عبيدة قد أدرك بعض الصحابة الذين أخذ عنهم أستاذه جابر بن زيد وتلقى عنهم العلم وروى عنهم الأحاديث ومن هؤلاء أنس بن مالك وأبو هريرة وعبد الله بن عباس وأبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وعائشة أم المؤمنين.
وكان هنالك عددٌ من الشيوخ البارزين الذين يلعبون دورًا هامًا إلى جانب أبي عبيدة في مهمته، وبين هؤلاء:
- أبو مودود حاجب الطائي، من بني هلال وهو مولى عُماني وُلد في البصرة، وانضم إلى الحركة الإباضية بعد موت جابر بن زيد، وأصبح اليد اليمنى لأبي عبيدة فكان مسؤولًا عن الشؤون المالية والعسكرية وكان بمنزلة أحد المراكز المهمة للحركة في البصرة.
- حيان الأعرج: وهو محدث مشهور، عاش في البصرة في نفس المنطقة التي عاش فيها معلمه جابر بن زيد وكان أكبر سناً من أبي عبيدة، درس مع جابر بن زيد، ونقل الأحاديث عن جابر إلى الطلبة الإباضيين حتى أولئك الذين كانوا يدرسون على يدي جابر، كأبي نوح صالح الدّهان.
- أبو نوح صالح بن نوح الدّهان: وهو من البصرة وكان ينزل في طيء ودرس على جابر بن زيد وشارك أبا عبيدة في تعليم العقيدة الإباضية ويروى أن الربيع بن حبي قال: أخذت الفقه عن ثلاث رجال: أبي عبيدة، ضُمام، وأبي نوح كاتب "نكاح الشغار لعبد الله بن عبد العزيز " وهو تلميذه.
- ضمام بن السائب: وهو في الأصل من الندب في عُمان ولد في البصرة ودرس على جابر بن زيد وروى الحديث عنه بالدرجة الأولى. ويروي ضمام أن أبا عبيدة نفسه أخذ الحديث عن جابر بن زيد، والدور الأهم الذي لعبه ضمام هو تعليم العقيدة الإباضية والأحاديث وغالبيتها دوّنها أبو صفرة عن أبي عمرو الربيع بن حبيب، وسجن ضمام مع أبي عبيدة وشيخ إباضي آخر يدعى أبو سالم، في عهد الحجاج. وهنالك شيوخ آخرون كأبي الحر علي بن الحصين وأبي حمزة المختار بن عوف، وبلج بن عقبة وسواهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- مصطفى صالح ياجو، أبو يعقوب الورجلاني أصولياً، ط2 2007.، ص 48.
2- مهدي طالب هاشم، الحركة الإباضية في الشرق العربي، دار الحكمة لندن، الطبعة الثانية 2013م.، ص 44.
3- عوض محمد خلفان، نشأة الحركة الإباضية، دار الحكمة لندن الطبعة الثانية، ص 115، 147، 151.
4- عبد الرحمن عثمان حجازي، تطور الفكر التربوي الإباضي في الشمال الإفريقي، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى 2000م، ص 6.
5- شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، تذكرة الحفاظ، تح عبد الرحمن المعلمي اليماني، حيدر آباد، 1377ه.،1 /72.
6- محمد بن حيان بن أحمد، مشاهير علماء الأمصار، تح فلا يشهمر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1959.
7- / 1/89.
8- محمد بن سعد، الطبقات لابن سعد، دار صادر، بيروت، لبنان.، 7/180.
9- التواتي بن التواتي الأغواطي، الفقه المقارن بين المالكي والإباضي، دار ابن الحزم، بيروت الطبعة الأولى 2014م، 1/ 25.
10- أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، الحلية، دار الكتاب العربي، بيروت، ط4 1405. ، 2/ 58.
11- ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد بن إدريس، الجرح والتعديل، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1 1317ه.، 2/ 494.
12- أحمد سعيد الشماخي، السِير، سلطنة عمان، تح أحمد بن سعود السيباني، وزارة التراث القومي والثقافة، 1407ه.، ص 73، 76، 81، 87.
13- البسيوي، مختصر البسيوي، زنجبار، طبعة 1304ه.، ص. ص 6-7.
14- أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، البيان والتبيين، تح عبد السلام محمد هارون، القاهرة، 1948م، 3/ 265.
15- السالمي، حاشية الجامع للصحيح، تحقيق عز الدين التنوفي، القاهرة، 1963م.، 1/ 6.
16- عمرو خليفة النامي، دراسات عن الإباضية، دار الغرب الإسلامي، تونس، ط2 2012.، ص 96.
17- علي يحيى معمر، الإباضية في موكب التاريخ، مكتبة وهبة، القاهرة، 1964م، ص 158.
*الجزيرة نت