قيام الدولة الأيوبية
|
|
|
د. علي محمد الصلابي
أسرة صلاح الدين ونشأته
أولًا: نسب صلاح الدين:
ينتمي صلاح الدِّين إلى عائلة كُرديَّة، كريمةِ الأصل، عظيمة الشَّرَف، وتنتسب هذه العائلة إلى قبيلة كردية تُعد من أشراف الأكراد نسَبًا وعشيرة، وهذه العشيرة تُعرف بالرَّواديَّة[1]، وهي تَنحدر من بلدة دوين الواقعة عند آخر حدود أذربيجان بالقرب من مدينة تفليس في أرمينية، وينتسب الأيوبيُّون إلى أيوب بن شادي، ويعتبرهم ابن الأثير أشرفَ الأكراد؛ لأنَّهم لم يَجر على أحد منهم رِقٌّ أبدًا[2]، كما أنَّ والد صلاح الدين (نجم الدين أيوب) وعمه (أسد الدين شيركوه) عندما قدِما إلى العراق وبلاد الشام لم يكونا من الرُّعاة؛ وإنَّما كانا على درجة عالية من الخبرة في الشؤون السياسيَّة والإدارية[3]، غير أنَّ بعض الأيوبيين حاول أن ينكِر أصلهم الكردي والالتصاق بالدَّم العربي عامة، وبنسل بني أميَّة خاصة[4].
ومهما كان أصل البيت الأيوبي، فإنَّ ظهورهم على مسرح الأحداث في المشرق الإسلامي وضَح منذ القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي حين تولَّى شادي - جدهم الأكبر - بعضَ الوظائف الإدارية في قلعة تكريت، التي كانت إقطاعًا لبهروز الخادم، أحد أمراء السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه[5]، وكانت تكريت - الواقعة على الضفة اليمنى لنهر دِجلة شمالي سامراء - تتحكَّم في أغلب الطرق الرئيسية المارَّة بين العراق وبلاد الشام، وكان أغلب سكَّانها من الأكراد، وقد انتقل إليها شادي مع ابنيه نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه، وتدرَّج في المناصب الإدارية فيها، حتى ولي وظيفة الشحنة، ولما توفِّي خلَفه ابنُه نجم الدين أيوب[6].
ومن العجب أن بعض المؤرِّخين يتمحلون في بحثهم لينسبوا أُسرةَ صلاح الدِّين في سلسلة من الآباء تنتهي عند مُضَر الذي ينتمي إلى عدنان، وكأنهم يريدون من وراء هذا البحث - الذي لا يتَّفق مع منهج البحث العلمي، ولا مع الحقيقة المجرَّدة - أن يُلحِقوا كلَّ شخصيَّة فذَّة ليست عربية بسلسلة من النَّسَب العربي، وكأنَّ الفضائل كلها، والمكارمَ جميعَها: مقصورةٌ على العرب وخاصَّةٌ بهم، وكأنَّ المسلم غير العربي - في نظرهم القاصِر - لا يمكن بحال أن يبني مجدًا، أو يشيد حضارة، أو يخلِّد ذكرًا[7]، أو ينصر دينَه بالسِّنان واللِّسان، ونحن لو استقرأنا التاريخَ، وبحثنا عن عظمائنا في بناء الحضارة الإسلاميَّة، لوجدنا أنَّ القوميات المتعددة التي دخَلت في دين الإسلام ساهمتْ في الحضارة الإسلامية؛ فهذا محمد الفاتح ونور الدين وعماد الدين من التُّرك، وذلك نِظام الملك من الفرس، وهذه الأسرة الأيوبيَّة من الكرد، وذاك يوسف بن تاشفين من البربر، وقد أكرم الله العربَ بنشر الرِّسالة الإسلاميَّة، وقد أعزَّ الله من أخلص لدينه، فنحن ضد التعصُّب الأعمى، والعنصرية الممقوتة، فمبدأ الإسلام ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، ومنهجه ثابتٌ لا يتحوَّل[8]: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 133].
وقد قام نَجم الدِّين بخدمة السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه، "فرأى منه أمانةً وعقلًا، وسدادًا وشهامة، فولَّاه قلعةَ تكريت، فقام في ولايتها أحسن قيام، وضبطها أكرمَ ضبط، وأجلى عن أرضها المفسِدين وقطَّاع الطرق، حتى عمرت أرضها، وحسن حالها"[9].
وكذلك يذكر أبو شامة أنَّ أسد الدين شيركوه كان من الأُمراء المقدَّمين عند السلاجقة، الذين أقطعوه إقطاعًا كبيرًا في تكريت وما حولها، حتى إنَّ إقطاعه كانت تقدَّر قيمتُه بحوالي تسعمائة دينار سنويًّا[10]؛ وهو مبلغ كبير بمقياس ذلك العصر[11].
ثانيًا: ولادة صلاح الدين:
وُلد صلاح الدين الأيوبي عام 532هـ/ 1137م في قلعة تكريت بلدة قديمة أقرب إلى بغداد منها إلى الموصل، وقد قامت في طرفها الأعلى قلعة حصينة راكبة على دجلة، بناها ملوك الفرس منذ القدم على حجر عظيم، وجعلوها مخازن للذَّخيرة، ومرصدًا لمراقبة العدوِّ، ثم افتتحها المسلمون في السنة السادسة عشرة من الهجرة أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه[12].
ومن عجائب القدر أنَّ ولادة صلاح الدين كانت في اليوم الذي أمر فيه "مجاهد الدين بهروز" والي بغداد نجمَ الدِّين أيوب وأخاه شيركوه بمغادرة مدينة تكريت؛ لقتل شيركوه عمِّ صلاح الدين أحدَ قواد القلعة؛ وذلك من أجل امرأة آذاها القائدُ في شرَفها، فانتقم "شيركوه" للشرف والمروءة حين استغاثَتْ به فقتله، ولكن بهروز وقَع في حيرة من نفسه: هل يبقيهما عنده، أم يأمر بمغادرتهما؟ فإنْ أبقاهما يخشى عليهما من انتِقام القواد أن يصيبهما الأذى، فلم يجد بُدًّا سوى أن يأمرهما بالمغادرة، فجاء بهما مظهرًا الخوف عليهما، وطلب إليهما أن يخرُجا في ليلتهما من تكريت، فخرج الرجلان يقصدان (الموصل) وقد حمَلا أسرتيهما، وفي رحل نجم الدين وُلد يوسف ابنه الطفل المولود صلاح الدين.
ويذكر صاحب وفَيَات الأعيان "أنَّ أيُّوب قد تشاءم بمولوده الجديد صلاح الدين، وقد همَّ أيوب بقتل ولده عندما كان يصيح وهو طفل وهم خارجون من المدينة، ولكن أحد أتباعه حذَّره من هذه العمل قائلًا: يا مولاي، قد رأيتُ ما حدث عندك من الطِّيرة والتشاؤم بهذا الصَّبي، وأي شيء له من الذَّنب؟! وبمَ استحقَّ ذلك منك وهو لا ينفع ولا يضر، ولا يغني شيئًا؟! وهذا الذي جرى عليك قضاءٌ من الله سبحانه وقدَر، ثمَّ ما يدريك أنَّ هذا الطفل يكون ملكًا عظيم الصيت، جليل المقدار، ولعلَّ الله جاعلٌ له شأنًا، فاستبقِه؛ فهو طفل ليس له ذنب، ولا يعرف ما أنت فيه من الكدر والغمِّ"[13].
ولقد أثَّرتْ هذه الكلمات في نفس أيوب، وسرعان ما رجع إلى الحقِّ، وثاب إلى الرشد، واتَّبع طريقَ الإسلام الصحيح[14].
ثالثًا: نشأة صلاح الدين:
هاجر الأخوان نجم الدين أيوب وشيركوه من بغداد إلى الموصل؛ حيث نزلا عند (عماد الدين زنكي) الذي رحَّب بالأخوين ترحيبًا عظيمًا، وأجرى عليهما المِنَحَ والعطايا، وما هذا الترحيب والإكرام إلَّا مكافأةٌ على موقفهما المخلِص من إنقاذهما له من القَتْل أو الأَسْر؛ ذلك لأنَّ عماد الدين زنكي صاحب الموصل قد حارب السلجوقية عند "تكريت" أيام كان "بهروز" واليًا على بغداد من قِبَل السلجوقيين، وسبق أن ذكرنا أنَّ نجم الدين أيوب وشيركوه كانا قائمين على تكريت وقلعتهما من قِبَل بهروز، وكان من نتيجة حرب عماد الدين للسلجوقيين أنِ انهزم جيشه أمام جيش السلطان السلجوقي، وفي أثناء انسِحابه ورجوعه إلى الموصل مرَّ بتكريت، وأصبحت حياته هو وجيشه في يد نجم الدين أيوب والي تكريت يومئذٍ؛ إن شاء أبقاهم أحياء، وإن شاء قتلهم، ففضَّل نجم الدِّين الإحسان على الإساءة، فقام هو وأخوه شيركوه بمساعدة عماد الدين، وسهَّلا له أمرَ النجاة والسلامة حتى وصل إلى الموصل، فكان لهذه المعاملة الحسنة والموقف النَّبيلِ أكرمُ الأثر، وأحسنُ النتائج في بناء مُلك أيوب، وإقامة مجد الإسلام على يد صلاح الدين[15]، ولما وصَل الرجلان إلى الموصل لقيهما عماد الدين - كما ذكرنا - بالترحاب، وجازاهما على ما صنعا معه من الجميل له في تكريت، فأقطعهما أرضًا ليعيشا عنده معزَّزَين مكرَّمين[16].
وفي رِحاب عماد الدين تطوَّرت الأسرةُ الأيوبية؛ فقد أصبح نجم الدين وأخوه شيركوه من خِيرة القادة، وقُتل عماد الدين بعد ذلك وأصبح نور الدِّين صاحب اليد الطولى، وكان ذلك بمساعدة الأيوبيين، واستطاع أن يضمَّ دمشق لملكه، وفي دمشق ترعرع صلاحُ الدين، وتلقَّى علومه الإسلاميَّة، ومارَس فنونَ الفروسية والصيد والرمي بالسهام وغيرهما من ضرورات البطولة[17]، وعندما فتح نور الدين محمود زنكي بعلبك سنة 534هـ، ولَّى عليها نجم الدين أيوب، إلَّا أن صاحب دمشق مجير الدين قام بحِصار نجم الدين أيوب في بعلبك، وكاتب نجمُ الدين نورَ الدين محمود، وسيف الدين غازي، وطلب منهما النجدةَ، فاشتغلا عنه، وبعد حِصار طويل تمَّ الصلح بين الطرفين، وانتقل إلى دمشق وصار من كبار أمرائها[18].
وهكذا عاش صلاح الدين طفولتَه الأولى في بعلبك سنة (534هـ/ 1140م)، وكان يشاهد ويسمع بين حينٍ وآخر اعتداء الصليبيين على البلاد الإسلامية، ولما قام الصليبيُّون بالهجوم على سهل البقاع المجاور لبعلبك سنة 546هـ، تصدَّى لهم نجم الدين وأسد الدين شيركوه وهزمهم وأخذ منهم أسارى[19]، وفي السنة نفسها الْتَحق صلاحُ الدين بخدمة عمِّه أسد الدين شيركوه[20]، وكان أسد الدين مرافقًا لنور الدين الذي تولَّى قيادة الزنكيِّين بعد مقتل والده، ويبدو أنَّ نور الدين كان قد أدرك قدرات صلاح الدين العسكرية والإدارية؛ فقد ذكر أبو شامة أنَّ صلاح الدين تقدَّم بين يدي نور الدين فقبَّله وأقطعه إقطاعًا حسنًا[21]، وعول عليه ونظَر إليه، وقرَّبه، وخصَّه، ولم يزل يتقدَّم تقدُّمًا تبدو منه أسبابٌ تقضي تقديمه إلى ما هو أعلى[22].
وكان نور الدين يكلِّفه بالذهاب إلى عمِّه لاستشارته في قضايا تخصُّ الدولة والمكوس والضمانات؛ فقد كان نور الدين يهتمُّ بمشاورة كِبار قوَّاده[23]، وتسمَّى هذه الوظيفة لصلاح الدين - في العصر الحديث - كاتِم الأسرار ضابط الركن الشخصي لنور الدين[24].
وأما عن كيفيَّة تَبوُّء صلاح الدين الأيوبي أعماله الرسمية، فقد فصَّل لنا ابن الفرات ذلك بقوله: ولم يزل صلاح الدين في كنف والده حتى ترعرَع، فلمَّا تملك الملكُ العادل نور الدين دمشق، لازم الأمير نجم الدين أيوبُ خدمتَه، وكذلك ولده صلاح الدين، وكانت مخايل السَّعادة على صلاح الدين لائحة، ومنه تعلَّم صلاحُ الدِّين طريقَ الخير، وفِعل المعروف، والاجتهاد في أمور الجهاد، حتى تجهز للسير مع عمِّه أسد الدين شيركوه إلى الدِّيار المصرية، ولم يزل أسد الدين آمرًا ناهيًا بالدِّيار المصرية، وابن أخيه صلاح الدين يباشِر الأمورَ بنفسه بكلِّ عناية وحسن رأي وسياسة[25].
وفي ولاية أبيه على بعلبك درس صلاحُ الدين العلومَ الإسلامية، وفنونَ القتال، فضلًا عن فنون لعب الفروسيَّة، وغيرها من فنون الطبقات الحاكمة، إلى جانب براعته في لعبة الجوكان؛ وهي لعبة رياضية أصلها شرقي يمارسها اللاعبون وهم على ظُهور الخيل التي ورثها عن أبيه، فضلًا عن اهتمامه بالعلوم الدينية[26]، ونستنتج من ذلك واستنادًا إلى ما تقدَّم أنَّ المرحلة التي عاش فيها صلاح الدين في الشام، وقبل أن يتبوَّأ منصبًا عسكريًّا مهمًّا، كان يراقِب التطورات السياسية والعسكرية الموجودة على الساحة الإسلاميَّة، وأبرزها الصِّراع مع الصليبيين، واعتماد نور الدين على والده وعمِّه شيركوه، وكان لا بدَّ أن يتأثَّر بهذه الأحداث وإن لم يشارك فيها، ولا بدَّ أيضًا أن ينمو لديه شعور يحتِّم عليه أن يعدَّ نفسه للمستقبل، ولا سيما للمناصب المتقدمة في الدولة[27].
ويمكن القول: إنَّ صلاح الدين نشأ وتربَّى بين أحضان أُسرته، وأخذ عن أبيه نجم الدِّين براعتَه في السياسة، واكتسب من عمِّه شيركوه شجاعتَه في الحروب، فنشأ متشبعًا بالدَّهاء السياسي والروح الحربيَّة، كما تعلَّم علوم عصره؛ فحَفِظ القرآنَ ودرس الفقهَ والحديث، وتتلمذ على أيدي كبار العلماء وأساتذة منطقة الشام والجزيرة؛ منهم الشيخ قطب الدين النيسابوري[28]، وقد تأثَّر صلاح الدين بالسلطان نور الدين محمود، الذي قدَّم النموذجَ الرائع للإخلاص المتفاني، والشعور الجادبالمسؤولية الدينيَّة، وتعلَّم منه الإخلاصَ والفداءَ، وكيف يناجي ربَّه في صلوات خاصَّة في محرابهيأخذ منها زادَه القوي على الجِهاد، وورث عنه قيادةَ المشروع الإسلامي، وتعلَّم منه كيفية التصدِّي للمدِّ الشيعي الرَّافضي، والغزو الصَّليبي، وقد بيَّنتُ ذلك مفصلًا في كتابي عن الدولة الزنكية وسيرة نور الدين محمود الشهيد.
لقد درج صلاحُ الدين على طريق العزِّ، ونشأ على الفروسيَّة، وتدرَّب على الحرب والجهاد، ومارَس السياسةَ وتدبيرَ الأمور، وكما يقول الشاعر:
ويَنشأ ناشِئُ الفِتيان فينا ♦♦♦ على ما كان عَوَّده أبوهُ
وفي المدَّة التي قضاها في دِمشق بعد استيلاء نور الدين بن عماد الدين زنكي عليها، ظهرَتْ شخصيَّةُ صلاح الدين الفذَّة، فكان محلَّ احترامٍ وتقدير؛ بل كان له من الاعتبار والمكانة ما لابن حاكم دمشق نفسه، وقد ظهر أمام المجتمع بمظهر الشابِّ الهادئ المهذَّب المتديِّن، المتقد غيرةً على الإسلام والمسلمين بما طُبع في نفسه من أخلاق نور الدِّين الذي أنزله لديه منزلةً خاصَّة، ومن المناصب التي أُسندتْ إليه في دمشق - في عهد نور الدين - منصب رئاسة الشُّرطة، وقد قام بهذا المنصب أحسنَ قيامٍ، واستطاع أن يطهِّر دمشقَ من عبَث اللصوص، ومن شرور المفسِدين، فأعاد الأمنَ والاستقرارَ في ربوع الشام، وبات الناسُ يَأمنون على أنفسهم وأموالهم، ويَنعمون بنعمة الحياة الهادئة المطمئنَّة الكريمة، ولعلَّ حسان بن نمير المعروف "بعرقلة" الدِّمشقي يوضِّح ذلك في فرحته بيوسف صلاح الدِّين لتسلمه رئاسة شرطة بلده، وذلك حيث يقول:
رُويدَكُمُ يا لصوصَ الشَّآمِفإنِّي لكم ناصِحٌ في المقالِأتاكم سَميُّ النَّبيِّ الكريمِ يوسفُ ربُّ الحجا والجمالِفذاك يُقطِّع أيدي النِّساءِوهذا يقطِّع أيدي الرِّجالِ[29] |