أيام الله وثيقة المدينة رسالة إلى المستقبل لابد لأيام الله أن تعلو علو الأعلى الأشم على كل عال . أفي الممكن أن يخوض المسلمون ونبيهم – صلى الله عليه وسلم – معترك الضنك مع أجنحة الشياطين في حركتها؛وهي تُهيئ النعوش تحمل عليها أقدار المؤمنين، وتقذف بهم في قاع الأرض تصفدهم ولا من فكاك ؟ ! أم أن الممكن أن يقذف الضَنك بهم في نحر الشمس؛ لتعلو شموسهم فتستمطر الحياة أقداراً سعيدة مطلوقة اليد واللسان ؟ لابد من هجرة هي في العزيمة أقصى الحدود ومنتهاها، ومن مكان يضم الكيانات، يصهرها، تغيب في قلب طبقاته كل طائفة تحت مفهوم الأمة الجديدة، والمواطنة الحقة، ولا تغيب إنسانيتها، ولا يغيب عنها منظر الفرح والحزن وانهماك الحياة في إبداع الحياة في جذوة الوجود واحتراق الحواجز فيها . في قدومه – صلى الله عليه وسلم – إلى المدينة، كان استقبال النور للنور؛ فتنورت المدينة فأوحي إليه فيما أوحي إليه : أن الواقع استبدال حالة بحالة في بقاء أحوال؛ لقد وضع محمد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم – قصة الحرية على محك التصور الإسلامي للوجود، الذي ينطلق من أن التنوع ظاهرة كونية تشمل جوانب الحياة، إنساني، حيواني، طبيعي، جغرافي . {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ }فاطر27 {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ }الروم22 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13 صفحة الوجود كما ورد في الآيات السابقة تؤكد حقيقتين : وحدانية الخالق و تعددية الخلق واختلاف المخلوق، وهجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – تضع الإنسانية وجهاً لوجه أمام خيار التعامل مع الآخر في وضع جديد للذات المؤمنة، لقد كان هناك آخر في مكة اختلفنا معه في الدين، وإن وحدنا اللسان والعرق ومع ذلك فقد تعاملنا معه؛ أما دخل الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -مكة بعد عودته من الطائف في جوار عبدالله بن جدعان الباقي على دين قومه ؟ ! وحين حاصرته قريش في شعب بني هاشم أما انضم كافرهم ومسلمهم تحت مظلة النسب وإن اختلف الدين ؟! بدأ عليه - الصلاة والسلام - قدومه الميمون إلى المدينة المنورة بأولوية مطلقة هي مفهوم الأمة،وتأتي الاختلافات لتندرج تحتها بتنسيق جديد يضمن اندماج الجميع في نسق ثقافي واحد تحت سلطة واحدة تتسم بالوحدة، وتكفل الحريات، فكانت وثيقة التعايش السلمي، وثيقة المدينة . "وكتب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود، وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم " وثيقة المدينة .. صحيفة المدينة .. الكتاب . ائتمان وحبل تربط به القواسم المشتركة لتبني صرح التنوع والاختلاف جملة الصدارة فيها، أنا الذات الإسلامية أهضم في أحشائي كل عرق ولسان ولون، لا ألفظه إلا حقيقة منسجمة في عالم الواقع . ( والآخر ) وثني/ يهودي يختلف عني في العرق والدين واللسان، ولكنه ضمن الذات ينفصل عنها في نسقه الثقافي، ويفرضه المكان والزمان، وبهذا الكمال أبني عالم الإنسان . عند التأصيل لأقدم الدساتير التي تمثل القانون الخاص بقيام الدول فإن وثيقة المدينة التي أملاها الرسول – صلى الله عليه وسلم –هي أقدمها على الإطلاق، وأن أول ما يميزها عن غيرها من الدساتير غير سبقها الزمني أنها كُتبت منذ التأسيس، فغالباً تُكتب القوانين بعد قيام الدول بأعوام أما الوثيقة فكانت أول وثبة لقيام الدولة، لقد أسست لأيام الله؛ لتنطلق دولة الإسلام في رحابة الفضاء يُقعد لها قواعدها نبي الأمة – صلى الله عليه وسلم – في تجربة أولى لصدارة الإسلام الدين الإلهي وفي عين الحاضر والمستقبل، متحرراً من رواسب الماضي وسلبياته، تلتزم فيه الإرادة الإنسانية ببناء حاضر ومستقبل أفضل للجميع ! أراد – صلى الله عليه وسلم – التأسيس لشعوب غالبة لا مغلوبة، ولحاكم مقسط لا مستبد، تنفتح بين الطرفين الحياة الفاعلة المتدافعة نحو الإنتاج وخلود الذكر الحسن، لا تنغلق بينهما الحياة في حلقة الخوف ؟ يخاف المستبد من ثورة المستضعف؛ فيحمل في يده مطرقة الطرق للدك والتثبيت، ويخاف المستضعف جبروت المستبد فيعيش حياة الأوكار والمخاتلة؛ يختطف ما يستطيع خطفه في لحظة غفلة للمستبد، يظلم بها ضعيف مثله، ثم ينقاد الجميع إلى سعير المغالبة في فوضى العقل حين تغيب الرحمة . {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }القصص 4 وفقاً لبنود الوثيقة فإن فرضية الزمان والمكان أكدت على أن تكون الأنساق الجديدة تحت مسمى طائفة، المسلمين ( مهاجرين وأنصاراً ) اليهود بقبائلهم الموجودة في المدينة، ومن سيلحق بهم بين أول وثاني بند في الوثيقة المكونة من 47 بند وآخرها " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي – صلى الله عليه وسلم – بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم " مسقط مساحة الخريطة البشرية المكانية الزمنية ألوهية المعتقد، وقداسة المعيار، فالكتاب من نبي مرسل، لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى . البند الثاني .. " أمة واحدة من دون الناس " تطالعنا كلمة أن أهل هذه الصحيفة "أمة واحدة من دون الناس " بقصم مفهومي الفردانية والقبيلة في حياة العرب، الواضح أن تعاقد الأنساق الثقافية هنا تعاقد ائتمان، يقوم على التوليف والانسجام بين أمشاج موجودة وأخرى قد تلحق بها، وكل يأتي بروافد ثقافية سابقة في تاريخه، لا يُطلب منه التخلي عنها اعتسافاً والتماهي في الجديد وإنما هي علاقة تصالح مع الآخر، تبني أواصر التناصح والبر دون الأثم في ظل وحدة الهدف وهذا ما توضحه فقرة: " يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن بين جميع المتعاقدين النصح والنصحية والبر دون الإثم. " فيما بين أول بنود الصحيفة وآخرها تأتي جملة القيم التي على أساسها سينعقد لواء النصح والبر دون الإثم، ويعني أن كل طائفة على حال استقرارها الذي كانت عليه قبل الإسلام لا يهدم منه شئ . "وأن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل " " وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. " "وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم. - وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد – صلى الله عليه وسلم " وأن أي حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله ورسوله " وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره. " " أنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " تتقاطع قيم أصيلة مع بنود الوثيقة، تعمل في مجملها على سبك المجتمع المدني ضمن سبيكة لامعة ثمينة، تدور بعض من خصائصها ضمن نسق المكارم العربية الأصيلة، تناجيها جواهر من الإسلام خالدة فتفصلها عن نوازع البشر الأرضية لأفق الآمال الإنسانية الجميلة ( عقل القتيل، فك العاني، إعانة مثقل الدين كثير العيال، حرمة الجوار، والعهد، وذمة الله، رد المفسد من قبل طائفته، نصب القسط فيما بينهم ) ميثاق غليظ من الحماية، روافده تصب في نهر التكاتف والتكافل، فكل طائفة مجمع سكني قائم بذاته، وعلى أفراده المحافظة على أمن واستقرار وغنى واستغناء أفراد الطائفة، ودرء مفسدة يحدثها فرد قد تهلك الطائفة لذا عليهم الأخذ على يده . وعلى من سيلحق بأي طائفة أن تكون له ذمة من بر واتقى، ومن بدل وغير فعليه غائلة فعله . لكأنما وضع – صلى الله عليه وسلم - نظرية تطبيقية تسير بها كل طائفة لتلتقي بقية الطوائف في تقاطع فريد نحو عين الشمس، ومرد كل فساد أو اشتجار لحكم الله تعالى فمرجعية الحكم واحدة وإن اختلفت مفردات كل طائفة ربطاً بما بدأت به الوثيقة من أنه كتاب من نبي الله – صلى الله عليه وسلم – أرسى – عليه الصلاة والسلام – أخلاقية كونية لخدمة الإنسانية، تجاوز فيها حوار المجالس والمؤتمرات حول أهمية الحوار والتعايش مع الآخر إلى علاقة ديناميكية مجتمعية فيها من القيم الإنسانية الأساسية المشتركة بين كل الفضاءات الثقافية والدينية في المجتمع المدني وانطلاقاً بفكر النفس الطويل حيث تجاوز المسافات لعوالم الآخر دونما انسداد في الأفاق، والقاعدة الذهبية في ذلك " كلكم لآدم وآدم من تراب. " القعود بالمدينة أمن والخروج منها أمن، وجوار الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم - لمن بر واتقى حق، ولا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم ! الله أكبر .. ! لقد أصبح للكلمة الإنسانية سلطان نافذ، وحكم كتاب الله في عباده أطاعوه سبحانه أو عصوه، عبدوه وهو المستحق للإفراد دون ند، أو شطوا ولاذوا بغيره إلا أنهم ضمن عباده الذين لهم حق الوجود لا ينكره عليهم أحد . إن مزاولة التفاعلات الثقافية، وحتمية الاحتكاك مع الآخر هي قدرة لإدارة الاختلاف سعياً لحياة السلم والتكامل لا إدارة الصراعات وابتكار أسباب الحروب، فالسلام ممكن، والتعايش أمكن، والإرادة الإنسانية الخالقة لهما هي منزلة سامية في الحكمة الإلهية التي تعني صلاح العالم، لا الذكاء الفردي في اقتناص الفرص برفعة الذات على الغير .