في يوم 23 يوليو/ تموز/ جويلية 1908 قامت جمعية الاتحاد والترقي بثورة على السلطان عبد الحميد الثاني لإجباره على إعادة العمل بالدستور التي توقف العمل به في بداية عهد السلطان، وفي نفس اليوم من عام 1952 قام الضباط الأحرار بثورة ضد الملك فاروق الأول مدشنين عهداً جمهورياً جديداً،
وفي يوم 17 من نفس الشهر في عام 1968 قاد حزب البعث العربي الاشتراكي ثورة ضد حكم الرئيس عبد الرحمن عارف ثم استفرد بالسلطة في يوم 30 من الشهر نفسه، الجامع بين هذه الثورات المتباعدة زمانياً ومكانياً أنها بدأت بانسجام سياسي وفكري مع الغرب عموماً أو مع جهة كبرى فيه هنا أو هناك وذلك بقصد تفعيل حالة نهضوية في المشرق العربي الإسلامي ثم وصلت في النهاية بعد نضال مرير للصدام المسلح بالغربيين مما أدى إلى تحطيمها وتحطيم إنجازاتها، وأحياناً إلى تفكيك دولها، فما هو دور الاستعارة الخارجية في عملية نهوض الأمم؟
* ظروف الاستعارة الخارجية
عندما تلتقي أي جماعتين بشريتين على أرض واحدة ينشأ بينهما حوار حضاري إذ يتعلم كل منهما من الآخر ما يراه مفيداً لحياته، وإذا كان هذا الوصف صحيحاً في العلاقات السلمية كالسياحة والتجارة والهجرات، فإنه صحيح أيضاً في مجال الصدامات إذ لا تمنع الحرب بين فريقين، وبخاصة إذا طال أمدها، عملية الاقتباس المتبادل بينهما، وإن كانت درجته تختلف حسب تفوق كل منهما، ذلك أن الطرف الأضعف مولع بتقليد الغالب كما أكد ابن خلدون، وقد عرفنا مثل هذه الحوارات في تاريخنا الإسلامي أثناء حروب الفرنجة الصليبية التي كانت مناسبة للتبادل الحضاري الذي كان نصيب الفرنجة منه أكبر بحكم التفوق الإسلامي، والغزوات المغولية التي انتهت بإسلام الغزاة فكان ذلك ثغرة في القاعدة الخلدونية، وأيضاً أثناء الفتوحات الإسلامية حين لم يتردد المسلمون في تمثل الحضارات التي دخلوا أراضيها من موقع القوة والاقتدار.
* بداية استعارة المسلمين
وبالعودة إلى الأصول نجد أنه عندما كانت الأمة الإسلامية في طور التكوين، ولم تكن بعد قوة دولية كبرى، نزل القرآن الكريم بكونه "مصدقاً لما بين يديه من الكتاب"، ولكن هذا لم يكن يعني الاستلاب للآخرين، فالإقرار بما سبق الإسلام، كان مصحوباً بالهيمنة عليه وتصحيحه، "ومهيمناً عليه"، رغم أن الظرف المادي لم يكن يساعد على هذا الكبرياء، إذ لم تكن الأمة فيه تتجاوز في أفضل الأحوال مدينة مهمة بين عدة مراكز حضرية أخرى في جزيرة العرب الواقعة بين قوى عظمى يمكن أن تكون التبعية لإحداها بميزان عصرنا وذلك العصر أيضاً هي الخيار الأكثر أمناً وإغراء لقوة طموحة، كالمناذرة في الحيرة والغساسنة في الشام وعرب اليمن أيضاً، ولكننا وجدنا زيادة على ما سبق من التميز أنه في الوقت الذي يقتبس فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الفرس آلية مقاومة الحصار بالخنادق، يبشر بفتح بلاد فارس وليس بالانبهار بها مع علو الأصوات التي ترى استحالة تحقيق ذلك لأفراد لا يأمنون على أنفسهم الخلاء في ظرف الحصار العصيب، ورغم نجاح هذه الآلية، أي الخندق، في تحقيق النصر في تلك المعركة الفاصلة التي غيرت موازين القوى، فقد أدى ذلك إلى فتح الأبواب نحو مزيد من الانتصارات ومزيد من التطور الذاتي للمجتمع الإسلامي وليس إلى الانبهار بالمصدر الحضاري الفارسي - الذي تم الاقتباس منه- ومن ثم فتح باب التبعية له لو لم يكن المسلمون في تلك المرحلة على قدر من القدرة على التمييز بين ما يمكن نقله وما لا يمكن، وكيف يمكن التعامل مع النقل ومصادره، وذلك بفضل قائدهم المسدد بالوحي الذي يعلم الأجيال علماً لم نستطع تطبيقه على حوادثنا المعاصرة.
* الاستعارة في نهضة المسلمين الأولى
ثم في بداية نهوض الحضارة الإسلامية كان العالم اليوناني آفلاً بعد يقظته القديمة مما جعل الاستعارة منه ومن غيره، كالفرس والهنود الآفلين أيضاً، آمنة وغير قابلة للاستغلال من قوى خارجية هدامة، فلم يكن الإعجاب بفلسفة أرسطو مثلاً مؤدياً إلى صناعة طابور خامس أو أنظمة عميلة للإمبراطور البيزنطي الذي حاول النفاذ إلى المجتمع الإسلامي أثناء الفتنة الكبرى ولكن يقظة المسلمين وضعف إمكاناته قطعا عليه الطريق، ورغم الجهود الهدامة التي كان يبذلها أتباع الحضارة البيزنطية داخل المجتمع الإسلامي، كدور سرجون بن منصور أبي القديس يوحنا الدمشقي، فإن ذلك كان يغلف بقناع الحرص على الدولة، كتحريضها على الإمام الحسين بن علي سلام الله عليهما، ولما قرر عبد الملك بن مروان تعريب الدواوين لم يستطع أمثال هؤلاء الاعتراض على القرار رغم آثاره السلبية بالنسبة لهم إذ سيوفر استقلالية للدولة الإسلامية عن الثقافة البيزنطية وسيجعل القيادة الإدارية للمسلمين.
* كوارث بيت المقدس وبغداد وغرناطة وانبعاث طائر العنقاء من الرماد
بعد سقوط بيت المقدس في أيدي الفرنجة تمكن المسلمون من الحفاظ على هويتهم ثم استعادة أرضهم وطرد أعدائهم، لم تؤد الخسارة أمام الفرنجة إلى ذوبان الأمة بل إلى استثارة الاستجابة للتحدي، وبعد سقوط بغداد وهزيمة الأمة الماحقة أمام الغزو المغولي، تمكن المسلمون من الحفاظ على هويتهم واستعادة بلادهم واستيعاب عدوهم الذي دخل في دينهم رغم انتصاره عليهم، فأدى التحدي إلى هزيمة المعتدي ودخوله الإسلام، وفي نفس اليوم الذي اجتاح فيه بغداد ولد السلطان عثمان الذي سينشئ دولة تمتد أكثر من ستة قرون بين أراضي ثلاث قارات وتضفي الحيوية على عالم الإسلام، فلم تؤد الهزيمة أمام المغول إلى الذوبان بل إلى ذوبانهم هم في المسلمين، وبعد سقوط غرناطة حاول الموريسكيون الاستعارة ليس اختياراً حراً ولا إعجاباً منبهراً بل من أجل البقاء وللتأقلم مع أجواء الاضطهاد والحفاظ على أنفسهم في محيط معاد، ولما تهيأ لهم من ينقذهم رحلوا إلى شواطئ المغرب فحافظوا على هويتهم وصاروا طليعة للعثمانيين في مقاومة عدوهم وصد عدوانه على بلاد الإسلام بفاعلية قل نظيرها، وبهذا خرج المسلمون من هذه الكوارث المطبقة بالحفاظ على هويتهم ووجودهم إما مع استعادة بلادهم وكسب عدوهم، أو باستعادة بلادهم وطرد عدوهم، أو بإنقاذ أنفسهم والتصدي لعدوهم، وكان البعث من كل هذه الكوارث مصاحباً للتمسك بالذات في مواجهة أعاصير الغزاة، ولما أعلنت حرية الدين في إسبانيا في النصف الثاني من القرن العشرين تبين أن هناك مسلمين كانوا متخفين إلى ذلك الوقت مدة خمسة قرون فأعلنوا عن هويتهم من جديد.
* صعود الغرب وخلل الميزان العالمي
وبحلول عصر الكشوف الجغرافية انطلقت أوروبا في القرن الخامس عشر وما تلاه في آفاق العالم محاولة دعم مواجهتها مع عالم الإسلام فعثرت في محاولتها هذه على عوالم أخرى ما لبثت أن دخلت في مواجهات معها لاستنزاف مقدراتها، سواء لدعم دول المركز الأوروبي أو لتأسيس كيانات جديدة قائمة بنفسها في تلك الأصقاع، وكانت المواجهة في القارة الأمريكية مع سكانها الأصليين نذيراً بما سيصيب بقية أنحاء العالم بعد ذلك سواء في استرقاق إفريقيا أو استعمار آسيا أو إبادة أستراليا أو تقسيم العالم الإسلامي وكل ذلك جرى نموذجه البدئي في القارة الأمريكية لأنها شهدت أول تطبيق لرؤية عالم النهضة الغربية والأنوار الأوروبية والعقل الحديث على العوالم غير البيضاء، ومن هنا كانت أهمية دراسة هذا الموضوع في التاريخ الحديث.
* الاستعارات في الصعود الإسلامي الثاني ثم التراجع
ولكن عندما اتجهت الحضارة الإسلامية للأفول صنع العثمانيون الأقوياء نهضة أخرى ولكنها اختلفت عن سابقتها بوجود أوروبا المتجهة للصعود مما جعل الاستعارة منها محفوفة بخطر الاستغلال الهدام، وهذا ما حدث، ولم يؤد المسلمون العثمانيون دوراً معرقلاً لنهضة الغرب التي استعارت من العالم الإسلامي لأن قوتهم لم تهيمن على معظم أوروبا ولأن "المتعاونين" معهم كالفرنسيين لم يخونوا القضية الصليبية رغم تحالفهم مع الدولة العثمانية كما خان قضيتنا فيما بعد المتعاونون مع الغرب، ولما اتجه المسلمون الضعفاء مرة ثالثة للنهوض بعد اصطدامهم بالغرب ومحاولتهم صد عدوانه الذي بدأ باحتلال القرم والحملة الفرنسية على مصر في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، كانت أوروبا في أوج قوتها مما جعل عملية الاستعارة منها مجيرة أكثر من المرحلة السابقة لمصالحها دون مصالحنا، فلم يؤد الإعجاب بالديمقراطية مثلاً إلى اقتباس بعض الإجراءات المفيدة منها لتطعيم وتجديد نظام الحكم عندنا بل إلى احتلال الغرب بلادنا تحت شعار الحضارة والديمقراطية ثم تبعية أنظمة الحكم التي نصبها والتي انتهت إلى الاستبدادية الدموية ولم تطبق الديمقراطية مع كل ذلك.
* استحالة الاستنساخ بين المانع الطبيعي والعرقلة الغربية الأنانية
الخلاصة أن النقل ليس عيباً ولا النهضة مستحيلة: فعندما كنا أقوياء كان نقلنا عن الغير اقتباساً زاد في قوتنا، لاسيما مع تمسكنا بعقيدتنا هويتنا وتراثنا، ولكن عندما تحول النقل إلى نسخ دل ذلك على ضعفنا ولم يزدنا إلا انهياراً، ولا يظن أن الاقتباس الشامل أو الخضوع الكامل للقوي هما ما يمكن أن يؤدي إلى النهوض العام في زمن الضعف، وهذا ما ثبت عملياً في تجارب عدة أمم خضعت للغرب خضوعاً كاملاً واقتفت آثاره اقتفاء حرفياً، ولا يهمنا بعد ذلك إن كان السبب هو استحالة الاستنساخ في مجتمعات بثقافات أخرى يحفزها دعاة النسخ الكربوني على التقليد الأعمى دون جدوى (كتركيا الكمالية التي ضرب بها أرنولد توينبي المثل في القدرة على البقاء في وجه الهلاك وكأنها، خلافاً لاستنتاجه، بضعفها وتبعيتها آنذاك النموذج الأمثل والسقف الأعلى للاستنساخ، بالإضافة إلى النماذج العربية الليبرالية)، أم كانت استحالة الاستنساخ بسبب عدم رغبة الغرب نفسه في تنمية غيره منعاً للمنافسة، وهو ما يرجحه نمو النموذج الياباني الذي حفزه الغرب بإخلاص نفعي على النمو لمناوأة المد الشيوعي في زمنه ولم يكرر ذلك فيما بعد، بل إنه أملى على المذعنين الآخرين شروطاً تختلف عما طبقه هو نفسه في تاريخه وحفزه على النهوض، فالغرب المسيطر، وفي سبيل المحافظة على مصالحة الأنانية، حظر على بقية الأمم أن تسير في نفس الطريق الذي سار فيه وأن تطبق نفس الإجراءات التي طبقها لتحقيق الازدهار والثراء (مثل تدخل الدولة الفاعل في حماية وتنظيم الاقتصاد والحماية الجمركية والهجرة المفتوحة وانسياب المخترعات) في نفس الوقت الذي يقدم فيه نفسه بصفته طريقاً وحيداً إلى هذه التنمية، وفي الوقت الذي نمت فيه المجتمعات التي رفضت الطاعة العمياء أكثر من المجتمعات المطيعة، وهكذا فاستحالة التكرار واقعة في جميع الأحوال.
* الاستنساخ المستحيل بين الإذعان والتمرد
إن استنساخ التجربة الغربية غير ممكن سواء بالاتفاق مع الغرب إذ سيمنع الغربيون عنا أسباب القوة في حال إذعاننا لمصالحهم كما يثبت ذلك تاريخ المذعنين منذ نشوء الدولة القُطرية إلى اليوم، بالإضافة إلى تجارب مذعنة أخرى في تواريخ السكان الأصليين، زيادة على إذعان دول العالم الثالث لشروط المنظمات الدولية المالية، ولا هو ممكن بمعاداة الغرب إذ سيدمر التجربة من أصولها كما حدث في الحالات القليلة من التمرد الإسلامي والعربي الرسمي على الإمبريالية الغربية بعدما بدأ المتمردون مسيرتهم بالاتفاق مع الغربيين والاقتباس المعجب بنموذجهم، ولعل نموذج جمعية الاتحاد والترقي التي نشأت في أحضان الغربيين متماهية مع أفكارهم وانتهت بإعلان الحرب الكبرى الأولى على أطماعهم خير دليل على ذلك، كما لا ننسى نموذج حكم الوفد المصري الذي انتهى بإعلان طلاق الإنجليز في نهاية العهد الملكي، ثم التجربة الناصرية وثورة تموز العراقية.
* الأواني المستطرقة لم تعمل إلا في أوروبا
كما أن الاستنساخ في حد ذاته غير ممكن في الأصل أيضاً كما أثبت استيراد الحلول الجاهزة منذ عهد التنظيمات الخيرية العثمانية التي أدت إلى عكس المراد من تطبيقها فأدت إلى تسهيل التدخلات الأجنبية مع أن هدفها كان منعها والتصدي للغرب بقوته، فنفرت المجتمع منها بالإضافة إلى أن الغرب كان يعرقل تطبيق ما يضره منها، مثل حماية الصناعات المحلية والحد من الامتيازات الأجنبية وتطبيق المساواة أمام القانون وتعميم التجنيد الإجباري على الأقليات، كما تنفر المجتمعات الحائرة اليوم بين طريق الغرب الأصلي والطريق المختلف الذي يمليه على الآخرين، كما كان ومازال عهده دائماً، ويجب أن نلاحظ أن جميع التجارب الأوروبية والأمريكية المستشهد بها على صلاحية الحداثة تطورت تطوراً ذاتياً في محيط حصري مغلق عمل في داخله كالأواني المستطرقة التي يستفيد الجميع فيها من ميزة تنمية الجوار، ومع ذلك فهناك تفاوت ملحوظ بين المراكز الأوروبية، كما كان لها كلفتها الباهظة غير القابلة للتعميم ولا للتكرار.
* استحالة تعميم النتائج الغربية
إذ في عالم اليوم يملك 20% من سكان العالم، وهم سكان الشمال الغني، أكثر من 80% من موارده، في الوقت الذي يملك 60% من سكان العالم، في الجنوب الفقير، 6% من هذه الموارد فقط، بل إن الخُمس الأفقر من سكان العالم يمتلكون أقل من واحد ونصف في المائة من الموارد، ومن الطبيعي أن يكون هذا النموذج الاستهلاكي الغربي غير قابل للتعميم على سكان الكرة الأرضية خلافاً لما تروجه وسائل الإعلام من أحلام مستحيلة إلا في حالة وجود عدة كواكب أخرى مماثلة لتزويدنا بموارد إضافية كالتي أنتجت الحداثة الغربية بغزو وإبادة قارات كاملة واسترقاق أخرى واستعمار غيرها ونهب الآخرين وفرض التخلف عليهم، بالإضافة إلى كواكب أخرى للتخلص من النفايات، وكان الاتحاد السوفييتي بكل إمكاناته الضخمة قد حاول اللحاق بمستوى الاستهلاك الغربي، في انحراف عن الفكر الاشتراكي، فكانت النتيجة أن استُنزفت إمكاناته ووصل إلى طريق مسدود انتهى بتفككه وزواله، فكيف ببقية الدول الفقيرة؟
* الاستنتاج
ما سبق لا يعني بأي شكل من الأشكال استحالة النهوض، فقد كان الحديث فقط عن دور الاستعارة الخارجية والإذعان في تحقيق هذا النهوض، ولدينا تجارب عديدة حتى في عالمنا الإسلامي تعطي مبشرات بإمكان الصعود، ولكن تجاربنا وتجارب غيرنا، المستمرة منها والتي صعدت ثم تعثرت، تؤكد فكرة تعدد المسارات النهضوية خلافاً لفكرة الطريق الأوروبي الحصري من جهة وأهمية تطويع أي استعارة خارجية لمتطلبات الأحكام الداخلية من جهة أخرى لأن دلائل إيجابيات الذوبان في الخارج أقل كثيراً من دلائل الهلاك والدمار.