د. زهير الخويلدي
"تشكل التربية النقطة التي يتقرر فيها ما إذا كنا نحب هذا العالم بما يكفي لنتحمل مسؤوليته ونعمل على إنقاذه من هذا الخراب الذي سيؤول اليه حتما، لولا هذا التجدد، ولولا وفود اليافعين الجدد عليه"[1]
التربية هي تبليغ الشيء الى كماله وذلك عن طريق تطوير الملكات المعرفية عند الإنسان بالتدريب وتنمية الوظائف النفسية بالتمرين واكتساب المهارات.
وحينما يربى المرء فإن ملكاته تتقوى وقدراته تزيد وسلوكه يتهذب ويصبح صالحا للحياة الاجتماعية ومؤهلا للوسط المدني ومعمرا للأرض ومدبرا لصلاح الكون. اللافت للنظر أن ريكور لم يترك فلسفة للتربية واضحة المعالم ولكنه يستنجد بالتربية كتدبير إتيقي بعد أن بان له فشل سلطة السياسة وواجب الأخلاق في اقتلاع بذور الشر المزروعة في الطبيعة والثقافة الإنسانيتين على السواء وقد اقتدى بأعمال ليسنغ في «تربية النوع البشري» وجون جاك روسو في سفره الكبير «إميل» وبكانط في كتابه في التربية وتأثر أيضا بحنة أرندت في مقالها أزمة التربية.[2] فكيف شخص بول ريكور أزمة التربية في المؤسسات التعليمية الغربية؟ ما هي أسباب الأزمة التربوية؟ وما طبيعة تأثير هذه الأزمة على التطور العلمي والسلم المدني والتنوير الثقافي؟ وهل قدم البديل المطلوب؟
لقد توجه التفكير في التربية عند ريكور نحو نزع طابع الشر عن الفعل الإنساني وتأسيس شروط إمكان الفعل الحصيف الخال من العنف والكذب وارتكاب الأذى وإحداث الضرر للغير ودون تخليف الضحية، ولذلك كان هاجس ريكور الأكبر هو اتباع تربية تنظم الفضاء العمومي وفق قيم الديمقراطية وبما يسمح بالعيش المشترك والمحافظة على التعددية واحترام الاختلاف وصيانة الحقوق والحريات وضمان التنوع. كما تحرص التربية على إقامة علاقات إتيقية بين الذوات ترتكز على قيم الثقة بالذات من أجل التخلص من جميع أشكال العنف وبلوغ الاندماج الطبيعي وعلى قيم احترام الذات من أجل تفادي كل أشكال الحرمان والاستبعاد والوصول إلى الاندماج الاجتماعي وعلى قيم تقدير الذات من أجل التخلص من مشاعر الاهانة والازدراء وتعزيز مبادئ الحب في العائلة والحق في المجتمع والتضامن في الدولة.
علاوة على ذلك يكشف ريكور عن التوازن الصعب الذي تقوم به التربية بين الطبيعة والثقافة وبين الهمجية والحضارة وذلك بتأكيده أن «التربية بالمعنى القوي للكلمة لا يمكن أن تكون سوى التوازن العادل والصعب بين مطلب الموضعة أي التكيف ومطلب التفكير واللاّ تكيف، هذا هو التوازن الممتد الذي يبقي الإنسان واقفا».[3]
لذلك تهم قضية التربية كل إنسان وتشغل بال كل ذات وتطرح في المسافات الفاصلة والواصلة بين الأفراد والجماعات. كما أنها مسألة حيوية ومصيرية ترتبط بتشريع التعدد الذي يسم الوضع الإنساني وتسهر على احترامه وتدبيره وتنظيمه في اطار ديمقراطي من التعايش السلمي والتفاهم بين الأفراد. ان السؤال عن التربية هو من الثراء والتعقد بحيث يعاد طرحه بشكل دائم في كل منعطف تمر به المدينة وكل هزة يعرفها مجتمع وان مسؤولية المربي الانصات الى الفيلسوف محب الحكمة من أجل ترتيب المطالب وتدقيق المسائل وتجويد الطرق وتبويب الأهداف وتصويب الأنظار نحو النافع من العلوم.
من المعلوم أن فيلسوف الحوارات الكبرى بول ريكور في كتاب «الانتقاد والاعتقاد» يميز بين علمانية الدولة التي تتصف بالامتناع والانغلاق والفصل واللا أدرية المؤسساتية وتحرص على الأمن والنظام وتطلب من المواطنين الطاعة وعلمانية المجتمع المدني التي تتميز بالديناميكية والفعالية وتنخرط في النقاش العمومي وتحرص على الحقوق والتعددية وتطلب من المواطنين المشاركة وممارسة الحرية والتحلي بالمسؤولية واحترام الغير وتقبل الرأي المخالف. كما يدعو ريكور الى علمنة المدرسة والدولة بإدخال علمانية النقاش وليس الامتناع الى مجال التربية ويدعو إلى حرية التعليم وتحرير قطاع التربية وجعله في جبهة المواجهة التي يدبرها المجتمع المدني ضد سياسات الدولة السلبية والقائمة على الامتناع وإدراجه ضمن دائرة النقاش العمومي والخلاف المعقول وأن يحصل حول توافق بواسطة التقاطع من قبل مكونات الجماعة السياسية والأطراف المتواجهة.
بيد أن ريكور يعترف بالمكان الصعب الذي توجد فيه مؤسسات التعليم وأن التوازن الذي تبحث عنه التربية في المجتمع هو توازن هش وعسير المنال طالما أن الدولة تريد أن تسجد فيها استراتيجيا الامتناع بينما المجتمع المدني يحاول أن يوظفها في استراتيجيا النقاش العمومي وصناعة الرأي العام المضاد.
في الواقع، «ما يجعل مشكل المدرسة عويصا هو أنها تتبوأ منزلة وسطى بين الدولة، التي تعتبر هي تعبيرا عنها بوصفها خدمة عمومية...، والمجتمع المدني الذي يستثمر فيها إحدى وظائفه الأهمية: التربية بوصفها أكثر الخيرات الاجتماعية الأولية التي يتعين توزيعها...».[4]
ما يترتب عن ذلك هو مناداة ريكور بأمرين أساسيين: الأول هو اعتبار التربية من الشؤون التي يتولاها المجتمع المدني ويقوم بتوزيعها بشكل متساو وعادل، والأمر الثاني هو اخراج هذا القطاع من الوظيفة العمومية التي تحدد بصورة كلية من طرف الدولة وتحاول فرضها على الجميع والابتعاد عن ادعاء تعليم الناس الحقيقة المطلقة وتحول السياسي الى مربي للقيم والاعتراف بحرية التعليم في الدستور من أجل التشريع للاختلاف واحترام التعددية وتنمية الأقليات وإبرام توافقات ضرورية لإدارة العيش المشترك. لكن «الوضع غير المستقر والصعب للمدرسة ينبغي أن يصلح موضوعا للاعتراف من حيث هو كذلك، ويتعين بهذا الصدد تبرير فتح باب للتفاوض. فكما أننا نتوفر على لجان استشارية في مجال الأخلاق لمناقشة الحالات القصوى التي تطرحها البيولوجيا، كذلك يلزم أن نملك هيئة لمناقشة مشاكل التعليم الديني في المدرسة بحيث تتألف من ممثلين عن الدولة والمجتمع المدني».[5]
هكذا ينتبه ريكور إلى أهمية الاشتغال على تطوير التربية والتعليم من أجل الرد على تحد إشكالية الشر ويدعو إلى معالجة القضية من زاويتين: الأولى إعلامية بتوفير معرفة للتلاميذ عن ماضيهم الخاص وتراثهم الثقافي جنبا إلى جنب مع القيم الكونية والانفتاح على روح العصر وماضي الثقافات الأخرى.
ينقد ريكور نزعة التمركز على الذات واستبعاد الآخر التي تعاني منها الثقافة الغربية ذات الجذور اليهودية المسيحية ويدعو إلى الاعتراف بدور الخصوصيات المغايرة والثقافات القومية في بناء الكونية والمشاركة في صنع التاريخ الأممي ويدعو إلى إدماج الأفكار والقيم المنسية والمُهَمّشة وخاصة الإسلام والشرق.
بطبيعة الحال «لقد أنتجت المسيحية خلال صيرورتها التفكيكية ايديولوجيا اقتصاد السوق.. وبهذا تتواجد في قلب الاقتصاد العالمي وأيضا ضمن الجماعة السياسية الدولية عن طرق الحروب والقانون الدولي».[6]
أما الزاوية الثانية فترتبط بالتربية على النقاش والحجاج والمجادلة والنقد الذاتي والمواجهة بين قناعات وازنة ونبذ التعصب والدوغمائية والانطواء على الذات والاطلاع على التعددية واحترام التنوع والكثرة. وبالتالي» إن أقصى ما يمكن أن أطلبه من الغير ليس أن ينخرط فيما أعتقد وإنما أن يقدم أفضل حججه.[7]
علاوة على ذلك يربط ريكور بين التعليم الديمقراطي والتربية على الديمقراطية وحقوق الإنسان ويشترط أن توفر المدرسة العمومية والخاصة ثلاث مكونات لقيام نظام مجتمعي ديمقراطي وتعددي: وهي قيم الأنوار من تسامح واختلاف وعقلانية وتقدم، وتصور تحرري للدين يؤمن بفرضية وجود الحقيقة خارج إطار الاقتناع، ومكون رومانسي حيوي يشجع على الحب والحياة والفن والطبيعة والخلق وشجاعة الوجود.[8]
زد على ذلك يدعو ريكور إلى التخفيض من المنسوب الإيديولوجي في الأنظمة التربوية والترفيع من المنسوب الثقافي وذلك بتوفير حس تاريخي أكثر وحس إيديولوجي أقل وتحقيق انعطاف من تعليم بنكي يعيد إنتاج النظام الاجتماعي القائم إلى تعليم مختلف يعالج المشاكل المرتبطة بالعلمانية والمواطنة.
«طالما كانت الأنظمة التربوية نتاج التاريخ بل التواريخ شديدة الاختلاف من بلد إلى آخر، وطالما ارتبطت هذه الأنظمة بالإنتاج البطيء للدولة الحديثة مع أو ضد الكنيسة».[9] كما «النقاش الدائر حول المدرسة العمومية والخاصة سيكسب مزيدا من الوضوح إذا أعدنا له مرجعياته التاريخية»[10] وخلصنا المؤسسة الدينية من بنيتها الملكية ومن نموذجها الهرمي الاستبدادي وبددنا الوهم الذي يرى أن ضرورة نقاء السياسة يستوجب فك الارتباط مع المقدس وكل ما يشير إلى الإيمان والتحرر من كل مرجعية ثيولوجية وانتبهنا إلى الحقيقة الساطعة وهي أن «جذر السياسي وأساسه هناك لغز أصل السلطة».[11]
مهمة المدرسة عند ريكور حيوية وهامة فهي الحاضنة التي يولد فيها النوع الثالث من العلمانية المغاير لعلمانية الدولة وعلمانية المجتمع المدني وتعمل على تربية الناس على الحوار العقلاني ومعالجة المشاكل بطريقة ودية والتعود على المرونة في المفاوضات وتقدم ضمانات للارتقاء الاجتماعي وتحرر الناس من الضغط والخوف وتعطل قرارات المنع، وهي أيضا الإطار المؤسساتي الذي يشرع للتعددية الدينية ويقوم بتحييدها ويميز نقديا بين السياسي والديني وبين الإيديولوجي والمعرفي ويحقق الزواج الصعب بين الانتقاد والاعتقاد ويدمج البعد النقدي في الاعتقادات الخاصة ويعيد الاعتبار إلى الإيمان في عصر ما بعد الدين. مجمل القول أن «المدرسة هي فضاء علمانية وسيطة بين علمانية الامتناع وتلك التي تقترن بالمواجهة، فضاء علمانية أسميها ثالثة؟ إننا برأيي نتواجد في وضعية العاجز ولا نملك إلا حلول قمعية لأننا لم نبلور هذا المفهوم الخاص بالعلمانية الثالثة وهذا أمر مأسوف عليه».[12] فهل تقدر التربية على تدارك هذا النقص السياسي؟ وكيف السبيل لإدراك نوع من التوازن والتوافق الصراعي الجيد في مجتمع تعددي؟
لقد تناول ريكور في مقال له عنوانه «الكلام ومملكتي» نشره في مجلة «فكر» في فيفري سنة 1955 مسألة التربية وركز على بناء علاقة تربوية بين التلميذ والمؤسسة التعليمية تحميه من التأثيرات الطفيلية للشارع والمجتمع وانتبه إلى وجود تفاوت بين الأشخاص في صورهم عن أنفسهم وتمثلاتهم لأدوارهم في المجتمع ولا مساواة في المعرفة بين المتعلمين مما يعرض إحساسهم بقيمة الكرامة البشرية إلى الاهانة ويعرقل تواصلهم وتعاونهم ويفسر ذلك بأن التعليم يحرص على إعادة إنتاج النظام القائم بدل إدخال الاضطراب في علاقات الهيمنة وتراتبية السلطة وإتاحة الفرصة لأبناء الطبقات الشعبية للارتقاء الاجتماعي.
«بكل تأكيد تعني التربية مجموعة الوسائل المستخدمة في تنشئة الأطفال»[13] بالمعنى الايجابي لكلمة تنشئة كما أكد على ذلك مونتاني. ولكن حنة أرندت تدعو إلى التخلي عن الطوباويات السياسية للتربية التي تزعم التحسين لللاّ محدود للعالم الإنساني وتأسيس عالم مختلف للقادمين الجديد عن طريق الولادة الطبيعة بمغادرتهم زمن الطفولة وتوجيههم في المرحلة المضطربة للمراهقة ودخولهم مجتمع الراشدين.
هكذا تعتبر أرندت اعتبار التربية وسيلة من وسائل السياسة والتعامل مع السياسة كشكل من أشكال التربية خطأ فادحا تكريس للنزعة التسلطية وزرع للدكتاتورية وفرض الراشدين لوصايتهم على الأطفال والتعامل معهم كقاصرين يجب برمجتهم وحرمانهم من فرصة الابتكار ومنعهم من المشاركة في ولادة عالم جديد.
«لا نستطيع تربية الراشدين فإن لفظ التربية في السياسة يحدث صدى سيئا»[14] والحجة على ذلك هي ضرورة خلو التربية من أية وظيفة سياسية لأننا السياسة تريد تربية الراشدين وتتوجه إلى أناس سبق لهم أن تلقوا تربية وبالتالي تريد أن تكون وصيا عليهم وتحرمهم من مواطنيتهم وتسحب منهم كل دافعية سياسية وجاهزية للمشاركة وتحمل المسؤولية وتعاملهم كقاصرين وتمارس عليهم لغة الإكراه والقوة.
في هذا الإطار «مهما كانت مقترحات عالم الراشدين جديدة فهي في نظر الجدد قديمة بالضرورة لأنها تفوقهم سنا. وإنه لمن خاصيات الوضعية البشرية أن يترعرع كل جيل جديد داخل عالم قديم. وعليه فإن إرادة تكوين جيل جديد من أجل عالم جديد، ليست في الواقع سوى رغبة في حرمان الوافدين الجدد من فرص الابتكار»[15]
تدعو أرندت إلى التخلص من وهم بناء الأحياء على تراث الأموات وخلق عالم جديد عن طريقة تربية الأطفال، وتسند إلى التربية مهمة فعلية وهي تفكيك الاستلاب إزاء العالم الناتج عن الأزمة التي تسببت فيها الطريقة الآلية في التفكير وإتباع بيداغوجيا براغماتية وتوقف المعرفة والفهم على الممارسة والفعل والابتعاد عن تعليم معارف والتبشير بتعليم يكسب مهارات والنظر إلى التعليم باستمرار إلى أنه معرفة ميتة واستبدال التعلم بالفعل والفعل باللعب والتحرر كليا من مادة التعلم وفقدان المدرس لسلطته وتساويه في المعرفة مع تلاميذه وتجفيف مصدر شرعيته، وأن تزرع ثقافة المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان ومساعدة الراشدين على التخلص من عالمهم القديم وولوج العالم الجديد الذي خلقه الوافدون الجدد.
ربما ما يأخذه ريكور من حنة أرندت هو الرسالة الإيتيقية للتربية والنظر إلى مبادئ التربية على أنها مبادئ إيتيقية وذلك بإعادة الاعتبار إلى السلطة والنفوذ والإنشداد إلى الماضي بشكل مغاير والعيش السوي بين الأجيال بحيث لا يستطيع تربية الراشدين ولا يتم معاملة الأطفال كراشدين. هكذا يجب أن تحرص المؤسسة التربوية على تعليم الناس ماهية العالم وتقوم بتدبير إيتيقي لمعنى الوجود وتجعلهم يعتزون بتراثهم وهوياتهم ولغتهم وثقافتهم دون الوقوع في الانغلاق والتعصب وليس تلقين طرق الحياة.
علاوة على أن «الأخلاقيات الخاصة بمبادئ هذه التربية توجد في توافق تام مع المبادئ الإيتيقية والأخلاقية للمجتمع بشكل عام. فالتربية هي بكل بساطة ما يجعلك تدرك أنك جدير بأجدادك ويمكن للمربي أن يكون عند قيامه بهذه المهمة شريكا في النقاش وشريكا في العمل لأن نظره مشدود إلى الماضي بشكل مختلف».[16]
غاية المراد أن الحلول التي تقترحها أرندت لأزمة التربية هي الانتقال بها من خدمة السياسة إلى الإيتيقا[17] ورسم خط فاصل بين الأطفال والراشدين وتأهيلهم للعيش داخل نفس العالم بشكل مختلف، وبعد ذلك إزالة التعارض بين التقليد والخلق والسلطة والحرية، والتفكير في تعليم ما بعد بيداغوجي ونقد التخصص والتشجيع على الجذع المشترك وتعدد المناهج والتداخل بين العلوم وإعادة الوصل بين التربية والتعليم حتى لا تكون مجرد تحضير إلى الحياة المعنية والاغتراب عن مشروع تأهيل الإنسان للانخراط في العالم. على هذا المنظور «لا يمكننا أن نربي دون نعلم في نفس الوقت، لأن التربية تكون فارغة من دون تعليم وقد تتحول إلى خطابة عاطفية أو أخلاقية لكن من الممكن أن نعلم بسهولة دون أن نربي ويمكن للمرء أن يستمر في التعلم طيلة حياته دون أن يكتسب تربية. لكن ذلك كله ليس سوى تفاصيل يجب تركها للخبراء والبيداغوجيين».[18]
من هذا المنطلق تدعو أرندت إلى إنهاء هذه المنزلة تربية دون تعليم وتعليم دون تربية. لأن تربية الإنسان لنفسه هو مشروع فكري وإيتيقي يستمر كامل العمر ولا يتوقف على الفترة الذي يتعلم فيها الإنسان في المدرسة ويحصل فيها على الشهادة العلمية (الديبلوم) التي تؤشر له المرور إلى التخصص والوظيفية.
في هذا الصدد يدرس ريكور في فصل معنون: «إصلاح وثورة الجامعة» منشور في مجلة فكر Esprit سنة 1968 وفي كتاب قراءات1 مسألة تدريب المؤسسة التربوية على الحريات وتناقض ذلك الثقل والبنية الهرمية والحالة المرضية التي تعاني منها هذه المؤسسة وهو ما يمنع قيامها بهذا الدور وأهمية تعويض الجامعة بمعاهد عليا خفيفة وإصلاحية ولعل الهواء المليء بالغبار المنبعث من السوربون أثناء ثورة الطلاب في عام 1968 وطموحهم اللاّمعقول في نفي وتفكيك هذه المؤسسة الهرمية وتحول ذلك إلى نوع من اليوتوبيا هو الذي يبرر مثل هذا التصور. لقد كان ريكور في الآن نفسه غير راض بمنهج الإصلاح في المجال التربوي والبحث العلمي وذلك لاقتصاره على سد الثغرات دون تداركها وتبرير النقائص دون معالجتها بشكل جذري وناقدا للمنهج الثوري الذي ينتهي إلى العدمية والفوضى ويعشق التحطيم بدل البناء ويفضل الخلخلة عوض إعادة التأسيس.[19]
يعترف ريكور بوجود تناقض بين منطق المعرفة والتفكير الذي يحرض على السؤال وعلى حرية البحث وعلى قول اللاّ Non وشد الرحال إلى تجارب النقد ومنطق المؤسسة الجامعية الذي يحرص على المحافظة على النظام والالتزام بالبرنامج المسطر وإتباع التقاليد وتقديم فروض الولاء والطاعة وإعادة انتاج النفوذ. فالمربي هو أبعد أن يكون مفكرا حرا وناقدا متهكما ومثقفا عضويا وأقرب من الموظف ورجل الجهاز والبرنامج.[20]
هكذا لا ينبغي على التربية أن تعمل على إذابة مواطنية الإنسان وتكرس اغترابه عن هويته وعن شعوره بذاته وإنما يجب أن تساعد على خلق فرد حر ومجموعات نشطة و تعتمد على فرق متفاعلة وشخصيات مبدعة وفاعلين مشاركين في الشأن العام وكائنات مسؤولة وقامات فكرية تترك مشاريع كبرى وآثار غنية تشجع على التعاون والتكاتف وتشرع في تطهير المجتمع من المفاسد وتهذيبه وإفلاحه من الأسفل إلى الأعلى. وبعبارة أخرى «يمكن لمنشئة جامعية أن تشتغل بعض الوقت على أساس أن الطلبة هم الذين يسيرون المؤسسة»،[21] ولذلك تمثل التربية وساطة رمزية بين الباث والمتقبل وبين المعرفة المنتجة والاستعمال الاجتماعي للمعرفة ويحقق المربي المباعدة بين الذات العارفة وأفق الانتظار من طرف الجمهور والمسافة النقدية التي تساعد على التحرر من وطأة اليومي وسلطان الفكرة الأولى ودكتاتورية المباشر وتوفر أرضية ملائمة للتعود على التعلم البطيء والتأقلم مع متغيرات الزمن وتقلبات التاريخ وما تحمله من أشياء جديدة وقيم غير مألوفة. الجدير بالذكر أن في حضن التعليم ينشر المربي علامات الوعد ويوزع دون توقف طقوس الغفران ويلتزم بقيم العفو ويكرس سماحة الإنصاف ويشجع على قص الذات وتحويل السيرة الشخصية إلى تاريخ يسرد. لكن كيف ساهمت بحوث ريكور التربوية في ميلاد توجهات جديدة في فلسفة التعليم وساعدت على تغيير طرق تدريس المعرفة؟ وماذا تحمل الفلسفة السردية معها من حقائب تعلمية ووسائط تجديدية ومعايير توجهية إلى الحقل التربوي؟
***
الإحالات والهوامش
1- حنة أرندت، أزمة التربية،، مجلة الأزمنة الحديثة المغربية، عدد مزدوج 3- 4، أكتوبر 2011، ترجمة حماني أقفلي وعز الدين الخطابي،. ص. 17. هذا المقال هو الفضل الخامس من كتاب حنة أرندت Crise de la culture, 1972، الذي نشرته دار غاليمار في ترجمته الفرنسية عام 1972 ويمتد من صفحة 223 الى 253.
2- حنة أرندت، أزمة التربية، مرجع مذكور، صص، 8- 17.
3- Ricœur (Paul) , Histoire et vérité, édition du Seuil. 1955/ 1964 , travail et parole, p. 227: « l’éducation au sens fort du mot, n’est peut-être que le juste mais difficile équilibre entre l’exigence d’objectivation – c’est-à-dire d’adaptation- et l’exigence de réflexion de désadaptation ; c’est cet équilibre tendu qui tient l’homme debout.
4- icœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , édition Calmann-Levy. 1995. p. 195
5- Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , op. cit. pp. 197. 198
6- Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , op. cit. p. 203
7- Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , op. cit. pp. 194. 195
8- Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , op. cit. p. 198
9- Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , op. cit. p. 200
10- Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , op. cit. p. 201
- 11 Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , op. cit. p p. 200. 201
12-
Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , op. cit. p. 204
13-
Voir Gilbert Vincent , Penser l’éducation, avec Hannah Arendt et Paul Ricœur. Journée de l’Association Paul Ricœur: Quelle éducation pour quel monde commun ? (samedi 2 juin 2012). p. 2
http:// www. fondsricoeur. fr/ photo/ Penser% 20l% 20education% 20GVincentjournee% 20Ricoeur (1). pdf
14-
حنة أرندت، أزمة التربية، مرجع مذكور. ص. 9.
15-
حنة أرندت، أزمة التربية، مرجع مذكور. ص. 9.
16-
حنة أرندت، أزمة التربية، مرجع مذكور. ص. 16.
17-
Gilbert Vincent , Penser l’éducation, avec Hannah Arendt et Paul Ricœur. pp. 5. 6: « Ricœur n’aura de cesse de rappeler, au plan de l’éthique, l’importance de la sollicitude, correctif des rigueurs de la loi et de la passion excessive de l’égalité qui peut l’inspirer. La sollicitude est la réponse qui convient, face à l’appel généralement muet de la personne fragile ; de l’enfant, en particulier ; surtout de l’enfant que rien, dans sa famille ou sa culture d’origine, n’a préparé à affronter l’univers scolaire ; de l’enfant à qui un monde de règles, de règlements et de procédures est encore étranger
18
حنة أرندت، أزمة التربية، مرجع مذكور. ص. 17
19-
Ricœur (Paul) , Histoire et vérité, p. 147. « le péril d’une révolution qui ne prend pas sa propre fin pour source et pour moyen est d’avilir l’homme sous le prétexte de libérer et de renouveler seulement la figure de ses aliénations. »
20-Gilbert Vincent , Penser l’éducation, avec Hannah Arendt et Paul Ricœur. p. 5
21
Paul Ricœur. Lectures 1, Autour du politique, édition du Seuil. 1991,p. 383.
******
[1] حنة أرندت، أزمة التربية، مجلة الأزمنة الحديثة المغربية، عدد مزدوج 3-4، أكتوبر 2011، ترجمة حماني أقفلي وعز الدين الخطابي،. ص. 17.
[2] حنة أرندت، أزمة التربية، مرجع مذكور، صص، 8-17. هذا المقال هو الفضل الخامس من كتاب حنة أرندت Crise de la culture, 1972، الذي نشرته دار غاليمار في ترجمته الفرنسية عام 1972 ويمتد من صفحة 223 الى 253.
[3] Ricœur (Paul) , Histoire et vérité, édition du Seuil. 1955/ 1964 , travail et parole, p. 227: « l’éducation au sens fort du mot, n’est peut-être que le juste mais difficille equilibre entre l’exigence d’objectivation – c’est-à-dire d’adaptation- et l’exigence de réflexion de désadaptation ; c’est cet équilibre tendu qui tient l’homme debout. »
[4] Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , édition Calmann-Levy. 1995. p. 195
[5] Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , pp. 197. 198.
[6] Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , p. 203.
[7] Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , p. 194. 195.
[8] Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , p. 198
[9] Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , p. 200.
[10] Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , p. 201.
[11] Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , p p. 200. 201.
[12] Ricœur (Paul) , La critique et la conviction (entretiens) , p. 204.
[13]Voir Gilbert Vincent , Penser l’éducation, avec Hannah Arendt et Paul Ricœur. Journée de l’Association Paul Ricœur: Quelle éducation pour quel monde commun ? (samedi 2 juin 2012). p. 2.
http:// www. fondsricoeur. fr/ photo/ Penser% 20l% 20education% 20GVincentjournee% 20Ricoeur (1). pdf
[14] حنة أرندت، أزمة التربية، م,م. ص. 9.
[15] حنة أرندت، أزمة التربية، م,م. ص. 9.
[16] حنة أرندت، أزمة التربية، مرجع,مذكور. ص. 16.
[17] Gilbert Vincent , Penser l’éducation, avec Hannah Arendt et Paul Ricœur. pp. 5. 6: « Ricœur n’aura de cesse de rappeler, au plan de l’éthique, l’importance de la sollicitude, correctif des rigueurs de la loi et de la passion excessive de l’égalité qui peut l’inspirer. La sollicitude est la réponse qui convient, face à l’appel généralement muet de la personne fragile ; de l’enfant, en particulier ; surtout de l’enfant que rien, dans sa famille ou sa culture d’origine, n’a préparé à affronter l’univers scolaire ; de l’enfant à qui un monde de règles, de règlements et de procédures est encore étranger. »
[18] حنة أرندت، أزمة التربية، مرجع,مذكور. ص. 17
[19] Ricœur (Paul) , Histoire et vérité, p. 147. « le péril d’une révolution qui ne prend pas sa propre fin pour source et pour moyen est d’avilir l’homme sous le prétexte de libérer et de renouveler seulement la figure de ses aliénations. »
[20] Gilbert Vincent , Penser l’éducation, avec Hannah Arendt et Paul Ricœur. p. 5.
[21] Paul Ricœur. Lectures 1, Autour du politique, édition du Seuil. 1991,p. 383.