دراسات …
د زهير الخويلدي – تونس ….
” يبقى الإسلام إلى اليوم عنصرا تكوينيا للعالم العربي ليس فقط على الحقل الديني والثقافي وإنما أيضا على الحقل الاجتماعي والسياسي”1[1]
من دواعي طرح قضية تجديد العروبة والشروع في البحث عن طرق الترقي بلغة عبد الرحمان الكواكبي والعروة الوثقى المفقودة حسب عنوان مجلة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والخوض في شروط اليقظة والاستفادة من الحراك الثوري في نسخته الوطنية هو تكاثر الحديث عن الأصول الجينية لسكان بعض الأنظمة القطرية وطرح بعض الهويات الصغيرة حقها في الوجود والانتقال من ممارسة هيمنة الأكثرية على حقوق الأقلية إلى هيمنة الأقلية على حقوق الأغلبية وتحول العروبة إلى أمر ثانوي.
لكن بدل التلويح بشعار فارغ عن الوحدة ضمن إطار الماضي المشترك والانتماء الثقافي الجامع وطرح أسئلة خاوية على غرار: إلى أين يسير العرب في الآونة الأخيرة؟ وبأي معنى تكون عربيا اليوم؟ يبدو من الحري الآن الاعتناء بمطلب تجديد العروبة والخوض في شروط إمكان استفاقة الأمة ضمن مشروع عقلاني متفتح على القيم الكونية والهوية القصصية ووحدة الحاضر والمصير المشترك لإنسانية البشرية وطرح سؤال: ولماذا فقد العرب البوصلة وتاهوا في الوجود؟ وكيف يعود العرب شأنا لافتا من جديد؟
نحن نعلم منذ مدة طويلة بأن الوطن العربي يتكون من جغرافيا سياسية متنوعة وثرية ومتباعدة المناطق وتتضمن نقاط بالغة الأهمية من الناحية الإستراتيجية ونقاط فاقدة للأهمية وغير نافعة اقتصاديا وسياسيا.
يضم هذا العالم الممتد من نواكشوط إلى البحرين ومن طنجة إلى اللاّذقية أكثر من 22 كيان سياسي يتراوح بين الدولة القطرية والسلطة السياسية والحكم الذاتي ويعد أكثر من400 مليون ساكنا دون ذكر المهاجرين. من المضيقات أن المساحة العربية بقدر ما تبدو شاسعة وغنية فإنها تضيق بسكانها وتكاد تخنقهم بحيث لا يجدون فيها مورد رزق ولم تتحول إلى مجال حيوي للتنمية ومصدر اعتزاز بالانتماء.
المفارقة الثانية هي تكاثر النزاعات المحلية والحروب الداخلية والاحتدام العنيف بين الطوائف والمذاهب ووراثة الخلافات السياسية بين الدول بالرغم من تقاسم تاريخ مشترك وثقافة جامعة ونطق اللسان عينه.
تكمن الصعوبة الثالثة في تنامي نزعات الانفصال وتزايد مخططات التقسيم وتصاعد وتيرة التجزئة في عدة نواح والذرائع هي وضع حد لهيمنة الأغلبية والاعتراض على شمولية الحكم المركزي واحترام حقوق الهويات الخصوصية وتطبيق مبدأ اللامركزية ومنح التمييز الايجابي للعديد من الفئات والأقليات.
يمكن رصد، في مرحلة رابعة من التشخيص، عدة تناقضات صارخة تمزق بنيان الجسد العربي وتضعفه في مستوى طبيعة الأنظمة السياسية والمواقف الرسمية من العديد من القضايا الذاتية والمصيرية والدولية ويمنع كل أشكال التقارب والتعاون والتحالف ويلغي كل محاولات التشبيك والتقاطع والتلاقي التي انتهجها بعض الدول بالاضطرار ويحول دون بناء تكتل إقليمي وازن يمثل الجماعة التاريخية الناطقة بلغة الضاد.
تنبؤ التداعيات الأخيرة في العالم بأن العرب بصدد التفكك والانقسام والتشتت والضياع في العالم وأنهم في طريقهم إلى الذوبان في الآخر والزوال من حيث هم أمة ثقافية لها خصوصية مستقلة عن باقي الهويات، لكن في المقابل مازال المنزع الوحدوي يشتد عند الناشطين والشبيبة وتظل اللائحة القومية مرفوعة من طرف البعض من هيئات المجتمع المدني العربي وزاد الإقبال على نظرية الوحدة وأدبيات الثورة العربية.
ظلت الفكرة العروبية في تصادم مع الأفكار التحررية القادمة من العالم اللبيرالي ورافضة للديمقراطية في صورتها التداولية على السلطة واللامركزية على مستوى إصدار القرارات واتخاذ التدابير والتصرف في الثروة وفي عراك دائم مع التيارات السياسية التي تحتكم إلى المنظومة الإسلامية حول الأهلية والقيادة التاريخية للصراع على إثبات الوجود وفي تناغم وتبادل للخدمات مع النظرة العلمانية واليسار الاجتماعي.
غير أن التيار القومي ظل يعاني من الحضور الثقافوي والانتماء النخبوي للبرجوازية وبقي ينظر إلى التيار اللبيرالي على أنه رديف الميوعة والاستعمار وأحزاب الإسلام السياسي بوصفها حركات قطرية تجزيئية لها طموح عالمي مابعد قومي والى المجموعات الماركسية على أن منسوبها الإيماني منخفض وتحمل إيديولوجيا عمالية تزعزع الانتماء الهووي وتتعارض جذريا مع الأسس الصلبة للفكرة القومية .
من المعلوم أن لفظ عرب منحدر من فعل عَبَّرَ الذي يفيد التعبير ولقد تم التفريق بين عربي وأعرابي وبين العاربة والمستعربة وبين طبيعة العرب وتراثهم وعاداتهم وديوانهم والموروث المعرب والمنقول إليهم.
على هذا المنظور الجغرافي والسياسي الذي يضم المغرب والمشرق والخليج تشكلت الجماعة التاريخية الناطقة بلغة الضاد وتقاسم أفرادها فضاء ثقافيا على الرغم من تعدد الأعراق واللهجات وتنوع الموروث والمعتقدات وتفرق العادات والفنون وتكاثر الملل والنحل والشعوب والقبائل والمذاهب والفرق والأديان.
كما يتضمن العالم العربي مجموعة من الدول تفصل بينها حدودا إدارية تتغير من حقبة تاريخية إلى أخرى وتدخل العامل الدولي في رسمها وضبطها وشرعنتها بغية تأبيد المنحى القطري وإفشال التوجه الوحدوي.
بهذا المعنى لا يمكن التمييز بين الإسلام والعروبة وبين البلدان التي كانت لوقت متفاوت تحت الاستعمار الفرنسي مثل سوريا ولبنان وتونس والجزائر والمغرب موريطانيا وجيبوتي وجزر القمور والبلدان التي بقيت تحت وصاية الانتداب البريطاني مثل دول الخليج العربي مثل السعودية واليمن وعمان والعراق وكذلك مصر والسودان والأردن وفلسطين وتحت رقابة عسكرية ايطالية على غرار ليبيا والصومال.
لا يمكن الخلط بين العالم العربي والشرق الأوسط وبين الإسلام المدني الذي يعتنقه غالبية الناس ويتميز بالخلق الكريم والعفو والسلم والدين السياسي الذي يتم تصنيعه وفق أجندات تخدم مصالح فئوية معولمة.
إذا كانت “ثورات الربيع العربي” قد دفعت شعوب المنطقة إلى التفكير في دخول زمن مابعد قومي فإن الموجة الرابعة من الحراك الديمقراطي بدأت تقرع أجراس التفكير في استحالة تأسيس ماهو إسلاموي.
لا يمكن فهم مصدر تشكل التيارات السياسية والحركات الإيديولوجية التي تقوم بالتعبئة وتؤثر في وجهة الأحداث ولا يمكن رصد قوة التفاعلات والجدليات بينها والتأثيرات الاجتماعية إلا من خلال إعادة رسم الخيارات الإستراتيجية التي يسير في اتجاهها العالم العربي بصورة واعية ومبرمجة أو بشكل إكراهي معولم والتذكير بأهمية الاستفادة من أوقات السلم والحماية زمن الحروب المترحلة وتفجر العنف المدمر.
مجمل القول أن الاستفاقة العربية تعتمد بالأساس على تطهير لغة الضاد من الشوائب والاستعمالات الضارة وتحويلها إلى شبكة تواصلية فاعلة في نطاق المعرفة العلمية والإدارة والتبادل الاقتصادي.
بعد ذلك يمكن الربط بين الاجتهاد الديني وإعادة بناء العلوم الأصيلة من ناحية والثورة الثقافية والتنمية الاقتصادية ضمن إطار الكتلة التاريخية واشتراط تحقق اعتدل الجسد العربي بعودة الوعي إلي الذات.
التخلي عن مركزية الثقافية العربية لا يتحقق إلا بالإيمان بالهوية المركبة من عدة عناصر محلية ووافدة على أساس المساواة والمشاركة البناءة في تشكيل العمود الفقري للذات الواحدة ضمن اطار التعدد والكثرة.
إنهاء الحرب الأهلية التي اندلعت منذ مدة داخل الأقطار العربية لا يتفعل إلا برفع الالتباس بين الطوائف والمذاهب وايقاف الفتنة السنية الشيعية والتنابذ بين الإسلام والمسيحية واليهودية وبين التيار العلماني والتيار الديني والتوقف عن عسكرة الحياة السياسية والعزوف عن استخدام العنف المسلح لحسم المعركة مع الآخر واعتماد طرق سلمية للتقليل من الصراعات والإيمان بثقافة التعايش والتفاهم والوحدة الوطنية.
غاية المراد أن محاولات رأب الصدع وتجسير الهوة ورفع اللبس بين الأقطار العربية تتحول إلى تجارب تاريخية متحققة بشرط الإيمان بالديمقراطية والمواطنة والحريات والحقوق دون التفريط في مبدأ السيادة.
” فطالما لأن موقع الفرد في المجتمع سوف يبقى مرتبطا بانتمائه إلى هذه الجماعة أو تلك، نكون كمن يعمل على استمرار نظام فاسد لابد أن يعمق الانقسامات، ولو شئنا تقليص أشكال التفاوت والظلم والنزاعات العرقية أو الاثنية أو الدينية أو سواها، فالهدف العقلاني الوحيد، الهدف المشرف الوحيد، يقوم على السعي من أجل أن يعامل كل فرد كمواطن كامل بغض النظر عن انتماءاته.”2[2]
من المفروض أن يتخلى الكل عن السلفية المزروعة في بنية المعرفة والاعتقاد وأن يتم حسم المعركة مع النزعة الاحيائية في جميع مجالات الحياة وأن تعيد الأمة التفكير في السياسي من بوابة الاجتهاد والتدبير. فهل يحتاج العرب اليوم إلى المضي قدما في الانخراط في تجربة الجرب بماهي لعبة أممية بامتياز أم يكون من الأنجع بالنسبة إليهم الجنوح إلى السلم والمشاركة في التهدئة والإسهام في تشكل عدة قوى؟ والى أي مدى يجوز للبعض من المثقفين غير العرب التطرق إلى العروبة ضمن دائرة الهويات القاتلة؟
المراجع:
Mathieu (Guidère), Etat du monde arabe, édition de boeck, Paris, 2015.
معلوف (أمين)، الهويات القاتلة، ترجمة نهلة بيضون ، دار الفارابي، بيروت، طبعة أولى، 2004- طبعة ثانية 2011،
كاتب فلسفي