د.ساسين عساف
إرهابيّ كلّ من قال أو يقول لا للسياسة الأميركية!
مبدأ أميركي حاكم بعد الحادي عشر من أيلول!
العرب في أعين الغرب الأميركي، يقولون، باتوا إرهابيين بالهوية والانتماء.
وهذا ما يضع العرب كلّ العرب، شاء منهم من شاء وأبى منهم من أبى، في قلب مواجهة قومية شاملة، في لحظة تاريخية العرب في نظر الأميركيين فيها إرهابيون أشرار قتلة يجب إخضاعهم لقانون العقوبات الأميركي الأصلي "إرهاب بلا حدود"، ولقانون الاستيطان الصهيوني الأصلي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
لن نخدع أنفسنا ولن نخادع التاريخ. انّنا في عالم تغيّرت قواعد اللعبة فيه. والمطلوب واحد: مصالحة تاريخية بين مكوّنات المجتمع العربي.
ما الذي يجري في هذا العالم وتحديداً في الوطن العربي؟
أفعال حربية. ضحيّتها أبرياء. يقال انّها حرب على الإرهاب!
انّها حرب تدور، وفق التصنيف الأميركي، بين أميركا ومن معها من دول التحالف ومجموعات إرهابية ترعاها وتؤويها بعض الدول.. واللّوائح الأميركية بشأنها تتوالى!
انّها حرب تدور، وفق التصنيف "القاعدي/ الداعشي"، بين الكفّار من يهود ونصارى ومن معهم من قوى الشرّ والاستكبار العالمي والهيمنة الصليبية وجماعة المؤمنين من مسلمين مجاهدين ومن معهم من قوى إسلامية مستضعفة ومستهدفة في دينها وأرضها والثروات!
كلا التصنيفين يسعى الى توسيع مساحة استقطابه. الأوّل يسعى الى ذلك على قاعدة المصالح بشعار "الحرب على الإرهاب" من أجل السلام العالمي والعدالة الدولية أي "العولمة الأمنية" و"العولمة القضائية"! والثاني يسعى الى ذلك على قاعدة الدين بشعار الدفاع عن الإسلام في مواجهة الصليبيين الجدد أي بشعار "الحرب الجهادية"!
بنتيجة هذين التصنيفين "المغرضين" يجد الناس أنفسهم في العالم كلّه، أفراداً وجماعات، امّا إرهابيين وامّا صليبيين. فمن ليس هو مع أميركا فهو إرهابي، ومن ليس هو إسلامي قاعدي أو داعشي فهو صليبي كافر حتى ولو كان مسلماً.
هذه القطعيّة في التصنيف وضعت العرب في الموقف الصعب.
لقد بات العرب في أعين الغرب إرهابيين بالانتماء!
معظم حكومات الغرب الأميركي دخلت في تحالف دولي تجمعه "الحرب على الإرهاب".
ومن أجل ذلك وحّدت في خطابها الراهن بين الإرهاب والإسلام متناسية أنّ "العدوانية ضدّ الإسلام" شكّلت منذ بداية التسعينيات "العنوان الأمني الأبرز لنظامها العالمي الجديد":
قال نيكسون في كتابه "اقتناص اللحظة" سنة 1992 ما يلي:
- "الإسلام سوف يكون قوّة جغرافية متعصّبة ومتراصّة".
- "الغرب سوف يضطرّ لتشكيل حلف جديد مع موسكو من أجل مواجهة عالم إسلامي معاد وعنيف".
- "الإسلام والغرب على تضادّ. دار الإسلام ودار الحرب".
وقال كيسينجر في خطاب ألقاه أمام المؤتمر السنوي لغرفة التجارة الدولية سنة 1990 ما يلي:
- "انّ الجبهة الجديدة التي على الغرب مواجهتها هي العالم العربي الإسلامي باعتبار هذا العالم هو العدو الجديد للغرب".
العرب إذاً هم في دائرة الاستهداف الأميركي. وهذا أمر لا ينقصه دليل. يكفي التذكير بالانحياز الأميركي السافر لإسرائيل في عدوانها المستمر على العرب. ويكفي التوقّف عند لوائح الإرهاب التي تصدرها الادارة الأميركية مدرجة فيها حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي متجاهلة أن هذه المنظّمات تقاوم الاحتلال الصهيوني.
"العدوانية ضدّ الإسلام" يغذّيها أمران: الاعلام الصهيوني والأصوليات، أصوليات الغرب المتمثّلة، حالياً، بالصهيونية المسيحية، وأصوليات الشرق المتمثّلة، حاليا"، بالقاعدة وداعش.
العرب عموماً ليسوا من هؤلاء وليسوا من أولئك. ومع ذلك انّهم في قلب المواجهة، ولن يتمكّنوا مهما فعلوا من تفادي مضاعفاتها والتفاعلات.
تمّ تهديد العراق وحصاره ثمّ احتلاله.
طلب من سوريا، بضغط أميركي واضح ومطّرد، ضبط حزب الله بوقف عملياته وتجريده من سلاحه وتحويله الى حزب سياسي. ولمّا لم تذعن شنّت عليها حرب كونية تدميرية.
السلطة الفلسطينية طلب منها بالتهديد والاكراه تصفية الانتفاضة الأولى والثانية واعتقال المقاومين من حماس والجهاد فكان بينها والصهاينة تنسيق أمني.
لبنان مشروع احتلال إرهابي لأنّ فيه مقاومة حرّرت جنوبه وانتصرت في مواقع الصمود.. دولته فاشلة ومصيره من مصير سوريا والعراق.
مصر منتقدة ومدانة لأنّ شعبها لم ينخرط كفاية في التطبيع مع العدو فجرت "أخونتها".. لسنة واحدة... فشل المشروع الإخواني في إدارة "الثورة" فكانت له بالمرصاد الثورة المضادة... وما استتبع ذلك من توسّع إرهابي في سيناء.
نفوذ إيراني يتمدّد وسعي تركي لطبعة عثمانية جديدة في غير دولة عربية ومعهما تتمدّد فتن وحروب و"إرهاب مضاد".
هذا هو الواقع بدون طلاء.
الولايات المتّحدة وجدت في حربها الكاذبة على الإرهاب فرصة ممتازة لإنجاز ضربتها في قلب الوطن العربي (فلسطين، لبنان، سوريا، العراق) الذي يشكّل جغرافية الصمود القومي في وجه العدوانية الأميركية المعبّرة عن نفسها بدعم الإرهاب الصهيوني في فلسطين وبإشعال سوريا وإحراقها وتمزيق العراق وإسقاط الدولة في لبنان وتبديل شعبه.
كلّ هذه الأفعال تخفي وراءها أهداف المخطّط الأميركي الحقيقي للحروب والفتن، ثمّ للحرب على الإرهاب تأسيساً لسايكس/ بيكو جديد يسمح لها بالتصرّف في المنطقة بيد حرّة وطليقة من قيود تحدّدها القوانين والأعراف الحاكمة للعلاقات بين الدول والشعوب فتحرّك، بادّعائها الحرب على الإرهاب قوّاتها وقواها العسكرية في أيّ اتّجاه تريده وفق ما تمليه مصالحها الخاصّة متجاوزة بذلك ارادة الشعوب المعنية.
هذه المرحلة بدأت عام 1989 بإعادة هيكلة الاقتصاد العالمي واقامة الوحدات الجغرافية/ الاقتصادية الكبرى والشركات الاستثمارية المتعدّدة رأس المال وفتح الحدود أمام التسهيلات التي تفرضها قوانين التجارة الدولية.
هذه التبدّلات التي أصابت النظام الاقتصادي العالمي جعلت الوطن العربي مجالاً مفتوحاً بيسر أمام المزيد من التدخّلات الأميركية في شؤونه وادارة ثرواته والهيمنة الكاملة والمباشرة على تلك الثروات مشفوعة بمحاولات اخضاعه لتسوية ظالمة مع عدوّه التاريخي تسمح لهذا العدو ببسط سيطرته عليه وشلّ قدراته على الصمود والمقاومة بتدمير ما تبقّى من نظامه القومي الأمني والسياسي والاقتصادي واستبداله بنظام شرق/ أوسطي يكون أشدّ أهليّة لخدمة المصالح الأميركية/ الإسرائيلية. فكانت "الحرب على الإرهاب"!
تداعيات هذه الحرب وتفاعلاتها القاعدية والداعشية في الغرب نفسه وعلى الساحتين الاقليمية والدولية تجعلنا نفهم بعمق وشمول الدينامية الحالية للنظام الأميركي المسعور والمذعور الساعي الى "استئصال الإرهاب" من الوطن العربي!
الجيش الأميركي انسحب من العراق بفعل المقاومة العراقية ثمّ عاد إليه بعنوان الحرب على الإرهاب ما يدلّ على أنّ للولايات المتّحدة مصالح استراتيجية في العراق لم تؤّمنها له أنظمة وحكومات "حليفة" من جهة وضربتها منظّمات "إرهابية" معادية من جهة أخرى.
ولأنّ العراق بات مهدّداً بالسّقوط في أيدي المجموعات الداعشية عادت إليه بقواها الذاتية ليعلم الجميع أنّ حدود داعش هي حدود المصالح الأميركية.
ولأنّ العراق وسوريا يشكّلان منطقة متفجّرة بطبيعة تكوينها التني والديني وواقعة على حدود إيران وتركيا والكيان الصهيوني ما يجعلها منطقة نزاعات إقليمية طامحة الى مزيد من التوسّع ومدّ النفوذ أظهرت الإدارة الأميركية بتدخّلها العسكري المباشر أنّها لا تسمح لأيّ قوّة اقليمية صاعدة أن تتحوّل الى قوّة استقطابية لقوى الإرهاب كي تعبث على كيفها بالنظام الإقليمي،
ولأنّ العراق وسوريا، تاريخياً، منطقة مركزية عصيّة على الولايات المتّحدة بخلاف المنطقة المركزية الأخرى، منطقة الخليج التي تبدو سهلة الانقياد لإملاءاتها ومصالحها الاستراتيجية،
لهذه الأسباب مجتمعة تشنّ الولايات المتّحدة حربها على الدولتين معاً. وهي حرب يراها البعض حرباً على الإرهاب، أمّا هي في حقيقة أمرها حرب على سوريا والعراق بما يمثلان من مقاومة للمشروع الصهيوأميركي ومن إمكان تشكّل "سوراقيا" الوحدة العربية.
ماذا تريد أميركا، اذا"، من هذه الحرب؟
- السيطرة على النفط العراقي والقضاء نهائياً على إمكان قيام وحدة عراقية/ سورية مقاومة لإسرائيل وداعمة للمقاومة في لبنان وفلسطين.
- إشعال حروب المذاهب والسلالات والقوميات والحؤول دون أيّ اتّحاد قوى ممكن حول مشروع قومي واحد يواجه السياسة الأميركية في "الشرق الأدنى الكبير" الذي يضمّ، وفق التصوّر الأميركي الوارد في تقرير أعدّته "اللجنة الأميركية للأمن القومي في القرن الواحد والعشرين" التي تعرف بلجنة "هارت/ رودمان"، الوطن العربي، إسرائيل، تركيا، ايران، آسيا الوسطى، القوقاز، ومنطقة شبه القارّة الهندية.
هذه الحروب تشكّل الوسيلة الوحيدة الفعّالة لتحقيق تلك الأهداف. من هنا يبدو الاحتلال الأميركي المباشر لنقاط استراتيجية في هذا "الشرق الأدنى الكبير" بشعار الحرب على الإرهاب وجها من وجوه استخدام تلك الوسيلة، ومن هنا يبدو كذلك أنّ وظيفة إسرائيل الجديدة في المنطقة هي واحد من تلك الوجوه، فضلاً عن الأدوار المثيلة التي تقوم بها بعض حكومات المنطقة وأنظمتها التابعة لدوائر القرار الأميركي وأجهزته الاستخباراتية.
"الحرب على الإرهاب" في الوطن العربي تنحصر في ما أسميناه أرض الصمود القومي المواجه للمخطّط الأميركي/ الصهيوني في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وهي تهدف الى تثبيت السيطرة النهائية على ثروات المنطقة والحماية الثابتة والدائمة لأمن الكيان الصهيوني العنصري الإرهابي.
أرض الصمود القومي يضربها إرهاب الدولة الصهيونية منذ أكثر من نصف قرن بالسلاح الأميركي والدّعم المالي الأميركي والتغطية الدولية الأميركية. هذه الأرض أنجبت مقاومين ولم تنجب إرهابيين. معجم الأفاهيم السياسية الأميركية يتشكّل من مصطلحات لا مرجعيات لها فقهية وقانونية وأخلاقية.
حزب الله والجهاد وحماس والمقاومة العراقية حركات مقاومة للاحتلال. السلاح في أيديها وسيلة تحرير وهي وسيلة شرّعتها القوانين والمعاهدات والمواثيق والأعراف الدولية. التصنيف الأميركي لا ينسحب عليها وهو مردود الى أصحابه المستكبرين الذين يمارسون أبشع صنوف الإرهاب في حربهم على الإرهاب! وقد يستخدمون أسلحة الدمار الشامل بما فيها سلاحهم النووي اذا وجدوا ذلك مناسباً لإنجاز "مهمّاتهم الانسانية" (تنقية العالم من جرثومة الإرهاب)..
تصنيف الشعوب وفق القاموس السياسي الأميركي بين شعوب إرهابية وشعوب تحارب الإرهاب، وذلك على قاعدة الاستقطاب الجديد في نظام الأمركة: من هو معنا فهو ضدّ الإرهاب ومن هو ضدّنا فهو مع الإرهاب، يقيم معادلة جديدة في الفقه السياسي الدولي.
من نتائج هذه المعادلة في حال رضخت لها شعوب العالم تحويل دولها من "حدود جغرافية" للسيادة القومية الى "حرّاس حدود" للمصالح الأميركية.. وذلك باسم "الشراكة في الحرب على الإرهاب"!
هل بعض الدول العربية مقتنعة فعلاً بعدم وجود استهداف لأي منها؟
هل الكلام الأميركي على "الحرب على الإرهاب" وعلى وجود قوات أميركية في العراق وسوريا والأردن لمساعدة القوات التي تقاتل "داعش" و"القاعدة" وسائر الفصائل المصنّفة أميركياً قوى إرهابية هو كلام كابح لامكانية تفاهم عربي مطلوب على أولويات المواجهة وفي رأسها التنسيق الأمني والعسكري بعد أن ضرب الإرهاب في لبنان والمملكة العربية السعودية واكتشفت خلاياه في الكويت فضلاً عن استمرار عملياته في مصر وليبيا وتونس؟
لعلّ التفاهم على خطط المواجهة يشكّل بداية تحقيق لوحدة الأمن القومي العربي.